من مخيم نهر البارد.. هنا غزة
بعضهم فقد أقاربه وأهله في العدوان على غزة. كيف يعيش سكان مخيم نهر البارد شمالي لبنان معركة "طوفان الأقصى"؟
تباغتنا الحرب في كل مرةٍ، حين تصبح حربَ إبادة. تكون في البداية اعتداءً عابراً، وتتطوّر حتى تصبح مختلفة الجهات شمالاً ويميناً، في الحجر والبشر والشجر، ويتغيّر شكل العدوان، وكما يقولون: جوّاً وبرّاً وبحراً، وتصل إلى التفاصيل اليومية، التفاصيل البسيطة، حيث تنبثق الحكاية والقصة والسيرة، سيرة الإجرام الصهيونية في غزة، وسيرة أهل غزة التي لا تنتهي.
الحكاية هي في عيون الأطفال المكدّسين فوق بعضهم البعض، ملفوفين بالأبيض المبلل بالدم، وفي عيون كبار السن وفي كل مكانٍ وزمان، تدخل الحرب في التفاصيل وتصل إلى ألعاب وأحلام الأطفال المنثورة فوق الركام ودمار البيوت التي لم تعد تأخذ شكل البيوت. إنّها حرب الإبادة، لأنّ لكلّ شهيدٍ حكاية، ولكل حيٍّ نزيفه الخاص.
في مخيم نهر البارد، شمالي لبنان، نتابع ونتفاعل مع عملية "طوفان الأقصى" البطولية المستمرة، وما يحدث في غزة. نخرج إلى الشوارع على وقع الأغاني الوطنية الصادحة وسط الهتافات، ونشعر كثيراً بأنّنا عائدون إلى فلسطين حين نفرح من عمل بطوليٍّ للمقاومة، وحين نحزن على وقع المجزرة. حلم العودة يقترب في كل معركة يسجّلها التاريخ في فلسطين، وكثيراً ما نشعر بأنّ المخيم أينما كان هو المخيم في غزة ولبنان والضفة والقدس. اللجوء واحد وتسلسل اللجوء من جيلٍ إلى جيل واحد وممتد إلى المنافي والبلاد.
حين قُصف مخيم جباليا في غزة، ورأينا تفاصيل المخيم وسمعنا حكاياته البسيطة، كأنّ حكايتنا تعيش في حكايتهم، وحكايتهم تعيش في حكايتنا، فكيف إذا وجدنا بعضاً من أهل غزة ممن يعيشون في مخيم نهر البارد؟ يعيشون النكبات بشتى أنواعها، ونتلمّس معهم جراحنا وجراحهم مباشرة، نجلس معهم ونسمع منهم، من نكبة الفقد المخيف والاتصالات التي لا تصل، إلى حرقة القلب على استشهاد الصوت في الخبر النازف.
ومن هذه القصص التي تركتها الحرب مبللة بالدم لكنها لم تمت، هي قصة ابن بلدة بني سهيلا في غزة، العم محمد عبد العزيز، أبو يونس، (48 عاماً)، اللاجئ في مخيم نهر البارد، والذي يعمل إسكافياً.
"العملية التي قامت بها المقاومة عمل بطولي مشرّف"، يقول أبو يونس في حديث مع "الميادين الثقافية"، ويضيف: "ولدت في لبنان، ولكن ذهبت إلى القطاع وبنيت منزلاً هناك. حين بدأ القصف الهمجي على القطاع، عشت على أعصابي وأنا أحاول الاتصال بأهلي للاطمئنان عنهم من أول يوم لبدء العدوان، وهم في بلدة بني سهيلا التي تعرّضت في البداية إلى الدمار الشامل، لكنهم الحمد لله أخلوا دارهم ونزحوا إلى أماكن متعددة ولم يستقروا إلى الآن في مكان في القطاع".
ويوضح أبو يونس، "نحن أصبحنا نخاف من التواصل مع أهلينا في غزة من هنا من لبنان، لأننا نخاف أن نعرّضهم للخطر، فموضوع التواصل صعب جداً، ونعيش بقلق شديد، من الممكن أن يستشهدوا بأي وقت من دون أن نعلم أي خبر عنهم، وإذا حاولنا الاتصال دائماً ننظر إلى آخر مكالمة معهم، كي نحاول الاتصال مرة أخرى، كي نتأكد بأنهم على قيد الحياة أو استشهدوا، نعرف أنّهم أحياء من ظهورهم على الهاتف/الوتساب، الحمدلله على كل حال، نقول لهم إن كانوا أحياء أم استشهدوا الله يتقبّل أهلي شهداء، لأن أهل غزة يدافعون عن كرامة الأمة العربية، الله يقوّي المقاومة وأهل غزّة والشعب الفلسطيني".
من جهتها، تقول الشابة كرين حسنات (20 عاماً) المولودة في مخيم نهر البارد، وهي في الأصل من بئر السبع من قطاع غزة، حيث تعيش كامل عائلتها وتعمل أمينة مكتبة في المخيم، "فعلاً كان شعوراً صعباً عليّ أنَّ بلدي يواجه حرب إبادة، وأفقد الكثير من الأقارب والأصدقاء وكنتُ قد تمنيتُ أن أكونَ داخل غزة، وأن استشهد فداءً لغزة، وفي كل يوم، وكل لحظة أبقى أراقب جميع الأخبار المنشورة على التلفاز أو الهاتف بقلق وخوف شديدين، وأرى ما يحصل داخلها، وكم شهيد قد تلقّى الشهادة في هذه اللحظة، ولا يمكنني أن أفعل شيئاً غير الدعاء".
وتتابع: "كان من الصعب أن أتواصل مع أقاربي بسبب هذه الأوضاع التي تحصل في غزة، ويوم أمس، عندما كنت في العمل، لم أكن أرى الأخبار الجديدة التي نُشرت، فعند عودتي إلى المنزل، تلقّيت خبر استشهاد جميع عائلتي تحت القصف من أختي، وقد استشهد أعمام أبي جميعاً وأولاد أعمامه رحمهم الله وتقبّلهم شهداء. لم أصدّق أختي حتى شاهدت الأخبار فعلمتُ بأنهم فعلاً استشهدوا جميعهم، وبكل صراحةٍ كانت صدمةً كبيرة لنا أن جميع أقاربي قد رحلوا، لأن عمتي كانت تتواصل معهم، ولكن فجأة تلقّينا خبر استشهادهم".
وعلى الرغم من الحزن على الفقدان، فإن كرين تتمنّى النصر القريب والعودة القريبة، داعية أهل غزة ألا ينحنوا لغير الله، و"أتمنى أن أكون معكم في هذه اللحظات لفعل أي شيء وسنصلي في المسجد الأقصى المبارك".
لم تنتهِ المجزرة مثلما لم تنتهِ تفاصيل الحكاية. حكاية الأحياء وحكاية الشهداء الأحياء. هذا الجسد الواحد الذي يشكّل الشعب الواحد له شرايين موصولة، مثلما يقولون: "الدم بحن" والحرب ليست فقط على البشر والحجر والشجر، وفي غزة والضفة والقدس كجغرافيا. بل هي الحرب تمتد لكي تقطع شرايين الحياة بين أبناء الشعب الواحد المشرّد في الوطن والشتات، بين كرين وأهلها - وأبو يونس وأهله، هي مجزرة من نوع آخر، استطاعت قتل الصوت فينا، لكنها لم تستطع قتل صوت الحكاية فينا.