"من سجن عكا" إلى "طلت الكتايب"...كيف تطورت الأغنية الثورية الفلسطينية؟ (1)
رغم مرور أكثر من 70 عاماً على الاحتلال، ما زالت الأغنية الثورية الفلسطينية في تطوّر مستمر يجاري تصاعد قوة الفلسطينيين وعزيمتهم. كيف بدأت الأغنية الثورية الفلسطينية وتطوّرت؟
"أنا السيف وانت الغنية
وإن صار ما صار يا عطر الليل، وانكسر السيف بتبقى الغنية"
(من مسرحية "أيام فخر الدين" للأخوين الرحباني)
**
تثبت هذه العبارة عبقريتها كلّ يوم. ففي كلّ مرة ينكسر فيها السيف، تستمر الأغنية كصندوق نضع فيه ما خفّ حمله وغلا ثمنه، ونخفيه في زوايا القلب لنورثه إلى الأجيال القادمة، فتنبعث القضية من تحت الرماد مجدداً، ويتوهّج الحلم.
ولعل ارتباط "الغنية" بالسيف سواء انكسر أم لم ينكسر، هو ما يطيل من عمر الأغنية المقاومة، لارتباطها بالحق الذي لا يموت، و بالألم الذي لا يبرح المواجع، وبالعِبَر التي تُنقش في الصخر، فتصبح الأغنية فضاءً للتعبير والتواصل والتناقل والتحفيز، حاملةً قضية الإنسان الأساسية: البقاء. إذْ كيف يكون البقاء بلا وطن؟
فلسطين، قضية العرب الأولى والكبرى، بعد انكسار سيفها في عدة حروب، استمرت أغنيتها، واستمرّ الحق عابراً للزمان على صهوة أغانٍ مثل "من سجن عكا طلعت جنازة"، وهي من مرثية الشاعر الشعبي نوح إبراهيم في الشهداء عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم، الذين أعدمهم الانتداب البريطاني في فلسطين عام 1930 في ما بات يعرف بيوم "الثلاثاء الأحمر"، لدورهم البطولي في انتفاضة البراق التي عمت أنحاء فلسطين ضد الغزو والهجرة الصهيونية للبلاد.
وسجّلت هذه الأغنية انطلاقة الأغنية المقاومة في فلسطين المحتلة، وأحيتها "فرقة العاشقين الفلسطينية" بصوت الفنان الراحل حسين المنذر، وتتميّز هذه الأغنية أنها من الأغاني الوطنية الفلسطينية التي يظهر فيها الحزن واضحاً جلياً لا تخطئه الأذن ولا القلب، إلى جانب مشاعر الغضب والتصميم على التحرير ونيل الحقوق كما في أغنية "والله لزرعك" التي تقول:
يا عود الأخضر نادي فلسطين الخضرا بلادي
يا عود الأخضر نادي فلسطين الخضرا بلادي
شدولي هالأيادي لحتى بلادي تتحرر
ولكن يبدو أن قدر الأغاني الناقلة للقضايا الكبرى، الميل إلى الرومانسية أكثر من ميلها للحماس. فالحماس مؤقت الأثر، يلزم في الأحداث العاجلة والمعارك. أما نقل القضايا الكبيرة، فيحتاج إلى حامل أكثر هدوءاً، وحفر في اللاشعور الجمعي كأغنية "من سجن عكا". فهي استندت إلى نمط الدلعونا الشائع، ولكن بسرعة بطيئة لدواعي التعبير عن عاطفة الحزن، وظهر فيها مقام البيات كماردٍ للفرح أسره حزن الكلمات.
تمدّدت القضية الفلسطينية إلى ضمائر الشعب العربي وفنانيه ونخبه، فصارت جوهرة الفن والشعر المقاوم. وقد أنتج ذلك الكثير من الأغاني العظيمة، كالتي قدّمها الأخوان رحباني (جسر العودة، وزهرة المدائن وغيرها)، ومن مصر قدّمت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ الكثير من الأغاني، كأغنية "أصبح الآن عندي بندقية".
غير أن معظم هذه الأغاني يمكن تصنيفها بالرومانسية الوطنية، أكثر من كونها أغاني إلهاب المشاعر والحماس، على الرغم من أن هناك بعض الأغاني التي تصلح لذلك، كأغنية فيروز "أجراس العودة". والسبب في ذلك أن الأغنية الفلسطينية المقاومة نشأت في ساحة حرب لم تهدأ أبداً منذ بدء الاحتلال، وهذا جعلها أكثر ميلاً إلى الميدان من الأغاني التي قدّمها الفنانون من غير الفلسطينيين.
لكن هذه الأغنية طوّرت نفسها مع تطوّر أساليب المقاومة العسكرية ذاتها، فتضمّنت جرعة أكبر من الحماسة والتحشيد لصالح المقاومة، إضافة إلى جرعة موازية من تخويف العدو، لتصبح بمثابة حرب نفسية في الوقت ذاته، وتكاملت مع سلاح المقاومة بشكل لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض.
ففي أغنية "طلت الكتايب" للمنشد رمزي العك، نجد تطويراً في الشكل والمضمون. إذ مع الاحتفاظ بالإيقاع السريع والقوي (إيقاع أيوب) والمقام العربي الشعبي الأصيل (بيات)، نلاحظ توزيعاً موسيقياً جميلاً وناجحاً جداً يعطي إحساساً بالرهبة تقدّمه الوتريات الخشنة خلف المزمار البلدي. كما نجد تنويعاً في الأداء الغنائي، كالغناء بصوت مركّب بين الكورال والمغنّي بما يشبه البوليفون، مما يجعل الأغنية وكأنها معركة حيّة تسير إلى النصر، وهو ما تؤكّده الكلمات التي تقول:
طلت الكتايب طلت من جنين
طلت من عيبال وطلت من جرزيم
طلت بالبارودة طلة الأسود
لا ما خانوا العهود طلوا طلة فاتحين
وقد تميّزت الأغاني الحماسية والأناشيد الميدانية بأنها اختزلت الأفكار بشكل كبير مع الاحتفاظ برموزها، فاستبدلت البكائيات والتفجّع والأنين لصالح الحماسة وتخويف العدو، وتحوّلت الكلمات إلى مزيد من الهجومية مثل "طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع". واتصفت هذه الأغنية أيضاً بالإقلال من شأن العدو كما في أنشودة "زلزل أمن إسرائيل" التي أداها فريق الوعد للفن الإسلامي، حيث يقول في معرض الأنشودة: "إنهم في القلب شتى ويخافون الممات، خلف جدرانٍ تواروا، جبنهم يهوى الحياة".
وصار الميل أوضح نحو مديح السلاح (الصاروخ - الكلاشينكوف). كما اختصرت المساحات التي يحتلها وصف جرائم العدو لصالح ما وصف فعل المقاومين، كما في أنشودة "يا قدس إنا قادمون" للفريق نفسه، وصار العدو في الأغنية يظهر بعبارات شديدة الاختزال مثل: عدو، محتلّ، صهيوني،إسرائيلي، قاتل... إلخ.
ولعل الأغنية الشعبية الفلسطينية وقوالبها وأنماطها مثل زريف الطول، والدلعونا والعتابا والميجانا، استحوذت على جزء كبير جداً من الأغاني المقاومة التي لا تزال تتردّد إلى يومنا هذا، وستبقى تتردّد كذكريات وتراث جميل في المستقبل، بعد تحرير فلسطين من البحر إلى النهر.