من النجم والهلال إلى النسر.. العَلَم المصري: حكايات البلاد (2)
منذ المماليك إلى اليوم، لم يبق العَلَم المصري على حاله. ارتبط تبدّل شكله وألوانه بما عرفته البلاد من تقلّبات سياسية. فما حكاية العلم المصري؟
حتى وإن بدت حركة يوليو بمثابة خط فاصل مع التاريخ السياسي السابق للثورة، فإنها استمرت تحمل في ثناياها الكثير من القديم. هذا ما يمكن أن نجده واضحاً في استمرار العمل بالعلم الأخضر ذي الهلال الأبيض والنجوم الثلاث كعلم رسمي للجمهورية المصرية الناشئة في 18 حزيران/يونيو 1953 برئاسة اللواء محمد نجيب.
على الرغم من مصاحبة التغيير السياسي ظهور الراية العسكرية في الساحات العامة والمواكب السياسية والاحتفالات التي تلت يوليو 1952، وإن كان العمل بها داخل معسكرات الجيش قصراً وفقاً للقانون رقم 47 لعام 1923 الخاص بالعلم المصري، والذي حدّد شكل الرايات الحربية بألوانها الثلاث الأحمر والأبيض والأسود، وإن لم يحمل اللون الأبيض أي رمز في ذلك الحين، إلا أن هذا لم يمنع من خروج الراية العسكرية إلى العمل السياسي كعلم لهيئة التحرير وشعار للحركة المباركة حينها.
مع الوقت ما لبثت قيادة الثورة أن أضافت نسراً عريضاً ينتصف الراية العسكرية ذات الألوان الثلاثة الأحمر والأبيض والأسود، على أن يحمل ذلك النسر درعاً أخضر اللون يحوي هلالاً أبيض وثلاث نجوم. ثم تحوّلت الراية العسكرية إلى راية شعبية يحملها المصريون بشعارها الجديد في تظاهراتهم خلال السنوات التالية لحركة الضباط الأحرار وكل ما تبعها من صراعات سياسية وعسكرية، وأثناء حشودهم الهاتفة بحياة عبد الناصر والثورة ومصر.
واستكمالاً لما بدأ عام 1946 من جلاء للقوات البريطانية عن الأراضي المصرية، تم توقيع اتفاقية الجلاء في 19 تشرين الأول/أكتوبر عام 1954، ليرفع بعدها عبد الناصر، الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء، علم الجمهورية الجديدة الأخضر ذا الهلال الأبيض والنجوم الثلاث على مبنى "Navy House"، وهو مقر البحرية البريطانية بمدينة بورسعيد الذي تسلّمته القوات البحرية المصرية.
في 31 تشرين الأول/أكتوبر عام 1956 شهدت مدن قناة السويس هجوماً عسكرياً ثلاثياً من بريطانيا وفرنسا و"إسرائيل"، عرف تاريخياً بالعدوان الثلاثي على مصر، وذلك بعد قرار الرئيس جمال عبد الناصر تأميم شركة قناة السويس في تموز/يوليو عام 1956، ليبدأ المصريون من جديد استكمال المقاومة الشعبية المسلحة ضد الاستعمار البريطاني وحلفائه في مدن خط القناة، والتي كان قد بدأها رجال ونساء الحركة الوطنية عام 1950 في سياق إلغاء معاهدة 1936، وكل ذلك تحت لواء العلم المصري الملكي الذي بات جمهورياً بهلال وثلاث نجوم.
ثم في تشرين الأول/أكتوبر عام 1957، بدأ التنسيق السياسي بين مجلسي النواب السوري والمصري، سعياً لإقامة وحدة تكون نواة لوحدة عربية شاملة. وعلى إثر هذه الدعوة زار دمشق في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، وفد مصري برئاسة أنور السادات الذي كان يشغل منصب وكيل مجلس الأمة حينها، معلناً موافقة المجلس على قرار الوحدة بين البلدين.
بدأت الاجتماعات الرسمية بين الرئيسين المصري عبد الناصر والسوري شكري القوتلي، التي أفضت إلى الاتفاق على قيام الوحدة بين مصر وسوريا لتكونا تحت إدارة واحدة، على أن يتم إعلان الجمهورية الجديدة تحت مسمى "الجمهورية العربية المتحدة"، وذلك بعد إجراء الاستفتاءات الشعبية على الدولة الجديدة ورئيسها.
هكذا أعلن في 22 شباط/فبراير عام 1958 إقامة "الجمهورية العربية المتحدة" ورئيسها جمال عبد الناصر بنسب تجاوزت 99% في كلا البلدين، وأن يتكوّن العلم من 3 مستطيلات باللون الأحمر ثم الأبيض فالأسود، على أن يحمل المستطيل الأبيض نجمتين خماسيتين خضراوين في إشارة لسوريا ومصر إقليمَي الجمهورية الجديدة، وبذلك تم تحويل العلم العسكري من مجرد راية شعبية بعد ثورة يوليو، إلى علم رسمي للجمهورية العربية المتحدة بعد إضافة النجمتين.
كما اتخذت الجمهورية العربية المتحدة من "نسر صلاح الدين" شعاراً لها لارتباطه بدعوات القومية العربية، وهو نسر عريض ينظر ناحية اليمين، وله درع يحتوي على علم الجمهورية الجديدة ومكتوب على قاعدته "الجمهورية العربية المتحدة"، كما تمّ نقشه على العملات المعدنية.
لكن هذه الوحدة لم تدم طويلاً فوقع الانفصال عام 1961، إلا أن مصر عبد الناصر ظلت محتفظة باسم وعلم "الجمهورية العربية المتحدة" لنحو 10 سنوات، وهو العلم ذو النجمتين الذي تصدّر المشهد في جنازة عبد الناصر عام 1970.
بعد وفاة عبد الناصر تولّى نائبه محمد أنور السادات منصب رئيس الجمهورية العربية، بعد الاستفتاء عليه في أجواء إعلامية روّجت لدخول البلاد "عصراً جديداً". وما لبث الرئيس الجديد أن أعلن في 17 نيسان/أبريل عام 1971 عن مشروع جديد للاتحاد مع كل من ليبيا وسوريا. وأقيمت الاستفتاءات بالتزامن في البلاد الثلاثة في أيلول/سبتمبر عام 1971.
وجاءت النتيجة لصالح الاتحاد بـ 96.8% صوتاً في ليبيا، مقابل 94.6% من الناخبين في سوريا، واعتمد الاستفتاء المصري بنسبة 99.9%، لتدخل مصر باسمها الجديد "جمهورية مصر العربية"، بعد التخلّص من مسمّى "الجمهورية العربية المتحدة" في اتحاد كونفدرالي مع ليبيا وسوريا تحت اسم "اتحاد الجمهوريات العربية" بحكومة اتحادية وعلم موحّد. على أن يحل "صقر قريش" داخل المستطيل الأبيض محل النجمتين، ويرجع اختيار ذلك الصقر باعتباره أحد أهم رموز القومية العربية نظراً لكونه شعاراً لقريش، على أن يكتب على قاعدته "اتحاد الجمهوريات العربية"، ويسمح لكل دولة من دول الاتحاد بكتابة اسم دولتها أسفل دولة الاتحاد. هذا العلم صاحب الجنود المصريين أثناء عبورهم إلى الضفة الشرقية من قناة السويس في معركة أكتوبر 1973، إعلاناً عن عودة السيادة المصرية على أراضي سيناء المحتلة.
من الضفة الشرقية إلى اتفاقية كامب ديفيد وما بعدها
مع تفاقم اختلاف التوجّهات السياسية العربية التي تبعت حرب أكتوبر، وتحديداً في تشرين الثاني/نوفمبر 1977 انتهى الاتحاد الجمهوري، ولم يتبقّ منه سوى مقر الحكومة الاتحادية المعروف حالياً بقصر الاتحادية، لكن مصر ظلت محتفظة بالعلم نفسه الذي يحمل صقر قريش.
وفي 6 تشرين الأول/أكتوبر عام 1981، وخلال عرض عسكري أقيم احتفالاً بذكرى عبور القناة، جلس السادات على المنصة الرئاسية بين نائبه محمد حسني مبارك، ووزير الدفاع حينها عبد الحليم أبو غزالة، حيث استطاعت مجموعة من العسكريين المشاركين في العرض، على رأسهم الملازم أول خالد الإسلامبولي، إطلاق دفعة من الطلقات استقرت في جسد السادات، قبل أن يتولى نائبه مبارك منصب رئاسة الجمهورية في الـ 14 من الشهر نفسه.
ومع بداية عصر مبارك شهدت مصر عدة تغييرات في السياسات المحلية والإقليمية، كان أحد تجليات تلك السياسات، إصدار القانون رقم 144 الخاص بالعلم المصري في تشرين الأول/أكتوبر عام 1984، والذي نصت مادته الأولى على أن يتحوّل شعار جمهورية مصر العربية إلى شكل نسر زخرفي، مأخوذ عن "نسر صلاح الدين"، بشرط أن يكون مرتكزاً على قاعدة يكتب عليها بالخط الكوفي "جمهورية مصر العربية". كما نقش فوق صدره درعاً يمثّل علم الجمهورية، وبذلك يحلّ نسر صلاح الدين باللون الأصفر الذهبي محل صقر قريش داخل المستطيل الأبيض.
واستكمالاً لما بدأ من انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء وفقاً لاتفاقية عام 1979، لجأت مصر للتحكيم الدولي لإثبات مصرية مدينة طابا وحصلت عليه. هكذا، في 19 آذار/مارس عام 1989، وفي ظل دعاية احتفالية تبشّر بإصلاحات سياسية واجتماعية، رفع مبارك العلم المصري في سماء طابا معلناً عودتها للسيادة المصرية.
بعض أن استقر الحكم لمبارك، ودخلت مصر مرحلة من الاستقرار الزائف، شهدت خلالها حركات المعارضة خمولاً كبيراً في ظل دعوات محاربة الإرهاب أدت إلى سيطرة رجال "الحزب الوطني" على مقدرات الحياة السياسية والاقتصادية، وفي عام 2005 ومع ظهور الحركات السياسية المناهضة للتوريث والتمديد تمت بعض التعديلات الدستورية سمحت بإجراء انتخابات رئاسية بدلاً من الاستفتاء على مرشح وحيد، انتهت بفوز مبارك وسيطرة حزبه مجدداً على مجلس الشعب، مع معارضة إخوانية هي الأكبر في تاريخ البرلمانات المصرية.
هكذا كانت سنوات الصراع السياسي والاحتقان الاجتماعي التي دفعت نحو ثورة 25 يناير 2011، ليرتفع العلم المصري من جديد إلى جوار هتافات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، وتشهد مصر موجات متتالية من ثورة محمّلة جميعها بآمال المستقبل وحنين الماضي.