مقطوعة الرأس.. لماذا ظهرت ماري أنطوانيت في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية؟
بعد 231 عاماً على رحيلها الدموي، أظهر الفرنسيون الملكة ماري أنطوانيت مقطوعة الرأس في حفل افتتاح الألعاب الأولمبية. ما قصة هذه الملكة؟ ولماذا تم استحضارها بهذا الشكل؟
لا يبدو أنّ الفرنسيين يرغبون في ترك ماري أنطوانيت تستريح في مثواها الأخير، فبعد 231 عاماً على رحيلها الدموي في 16 تشرين الأول/أكتوبر عام 1793، قرر القائمون على حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس 2024 استحضار شخصية ملكتهم المقتولة.
هكذا أطلت الملكة أنطوانيت في حفل الافتتاح من شباك قصر "La conciergie" الذي سُجنت فيه فعلياً قبل قتلها، وهي ترتدي فستاناً أحمر زاهياً، وتحمل رأسها المقطوعة، فيما بدا شعرها مُصففاً بطريقة مُعقّدة وبلون برتقالي لافت يُذكِّر بألسنة اللهب. ولكي يكتمل المشهد غنّت أنطوانيت نشيداً ثورياً فرنسياً شهيراً تقول كلماته "سنشنق الارستقراطيين ونعلقهم بالمصابيح"، وذلك ضمن عرض قدمته فرقة ميتال فرنسية تدعى "غوجيرا".
هذا المشهد الذي كان جزءاً من لوحة فنية بعنوان "الحرية"، أثار ردود فعل متباينة بين الجمهور والمعلقين تترواح بين الصدمة والاستهجان والإعجاب.
وماري أنطوانيت هي ابنة امبراطور النمسا فرانسيس الأول والامبراطورة ماريا تيريزا. جاءت إلى فرنسا بعد زواجها من ولي العهد الفرنسي لويس الــ 16 عندما كانت في الــ 14 من عمرها. أصبحت ملكة فرنسا بعد اعتلاء زوجها العرش عام 1774 وكانت لا تزال صغيرة السّن. بعد اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789 انقلبت حياتها رأساً على عقب، خاصة بعد فرض الإقامة الجبرية على عائلتها في قصر التويلري. شعرت ماري انطوانيت بالخوف وأقنعت زوجها بالهرب باتجاه الحدود الشرقية لفرنسا، لكن تم القبض عليهما وإعادتهما إلى باريس.
ماري أنطوانيت.. مظالم تاريخية؟
تعرضت ماري أنطوانيت للعديد من المظالم التاريخية، وكانت هدفاً للدعاية والشائعات الكاذبة التي لاحقتها بشكل دائم ، لا سيما أنها كانت تعتبر إمرأة أجنبية وغير محبوبة من قبل الفرنسيين. وقد عمل أعداؤها على تأليف قصص مخجلة عنها وطباعتها ونشرها في أنحاء المملكة الفرنسية في حينها.
ومن أشهر القضايا التي طالتها "قضية العقد" التي حصلت في العام 1785. وتتلخص القصة في أن امرأة محتالة تدعى جان دي لا موت خدعت الكاردينال دي روهان، وادعت أنها وسيطة للملكة ماري انطوانيت وأقنعته بشراء عقد ماسي باهظ الثمن باسم الملكة، لكنها سرقت العقد وهربت. غضب الفرنسيون عندما سمعوا بخبر شراء الملكة لقلادة ذات سعر خيالي وتحولت ماري انطوانيت إلى عدو الشعب رقم واحد. ورغم ظهور برائتها في ما بعد، إلا أن سمعتها تضررت بشدّة بسبب هذه القضية.
أما القصة الثانية التي ساهمت في صنع صورتها السلبية تاريخياً، فهي الجملة الشهيرة "إذا لم يجدوا الخبز، فليأكلوا الكعك" التي نُسبت زوراً إليها، علماً أنّ الفيلسوف جان جاك روسو هو الذي أورد هذه الجملة في كتابه "الاعترافات"، الذي ألّفه عام 1765، أي قبل أن تصبح ماري أنطوانيت ملكة فرنسا. وحتى اليوم لا يوجد دليل موثوق على أنّ ماري أنطوانيت قالت هذه العبارة أو أي شيء مشابه لها.
وأُتهمت ماري انطوانيت أيضاً بتبديد أموال الخزينة الفرنسية على أناقتها وحفلاتها الباذخة. لكن لا يمكن تحميلها وحدها نتائج الانهيار الاقتصادي الذي عانت منه فرنسا في تلك الحقبة، نتيجة لعقود طويلة من الإسراف والتبذير وغياب العدالة الاجتماعية وسوء الادارة من قبل الطبقة الحاكمة، بالاضافة إلى حروب لويس الــ 16 المكلفة، ومشاركة فرنسا في حرب الاستقلال الأميركية (1775 - 1783).
كان إعدام ماري انطوانيت جز من سياسة "حكم الإرهاب" الذي ساد أثناء فترة الثورة. وفي 27 آذار/مارس عام 1793، ألقى روبسبيير، أحد أبرز قادة الثورة الفرنسية خطاباً أمام المؤتمر الوطني مطالباً بقطع رأسها، معتبراً أنّها رمز للنظام الملكي الذي سعت الثورة للقضاء عليه، واتهمها بالتآمر مع القوى الأجنبية ضد فرنسا. حُوكمت ماري أنطوانيت في 14 تشرين الأول/أكتوبر عام 1793، واستمرت المحاكمة يومين فقط، قبل أن يتم اقتيادها في عربة مكشوفة في شوارع باريس وإلقاء القاذورات عليها من قبل الغوغائيين وصولاً إلى إعدامها بالمقصلة.
ورغم صورتها السلبية والإشاعات التي لاحقتها، كانت ماري أنطوانيت سيدة راقية شديدة التهذيب، وقد أظهرت نبلاً ولباقة وشجاعة في أحلك لحظات حياتها. ويُروى أنها أثناء اقتيادها إلى المقصلة، داست بالخطأ رجل الجلاد فاعتذرت منه قائلة "أنا آسفة سيدي".
وقد أثار ظهور إحدى المغنيات متقمصة شخصيتها في افتتاح الألعاب الأولمبية 2024 جدلاً واسعاً على منصات التواصل الاجتماعي. فالبعض رآه تعبيراً فنيّاً جريئاً عن فترة تاريخية مهمة وتجسيداً للثورة الفرنسية التي أنهت الحكم الملكي، بينما اعتبره آخرون إهانة لذكرى ماري أنطوانيت واسترجاعاً لتاريخ دموي مؤلم وتبسيط مفرط لأحداث تاريخية معقدة.
لا شك أن استخدام ماري انطوانيت كرمز في الاحتفالات الأولمبية، يطرح أسئلة حول الحدود بين الإبداع الفني والحساسية التاريخية. وقد يكون هدف المنظمين التعبير عن الغضب من الطبقات الأرستقراطية والبورجوازية والتذكير بقيم الجمهورية الفرنسية عن العدالة والمساواة، لكن ذلك لا يلغي فكرة التعامل بحساسية ودقة مع الشخصيات التاريخية، حتى بعد مرور أكثر من قرنين على الثورة الفرنسية.