أنجيليكا نويفيرت: كيف سحر القرآن العالم؟

كان العرب يتباهون بالبلاغة والفصاحة؛ فتحدّاهم رسول الله بالقرآن. ومن اللافت أنّ الجاحظ خلال محاولته إيجاز تاريخ النبوّات يرفع الشكل الجديد للنبوّة في القرآن وتميّزه البلاغي جاعلاً إياه إحدى العلامات المميّزة لزمانه.

  • مستشرقة ألمانية تبحث
    مستشرقة ألمانية تبحث "كيف سحر القرآن العالم"؟

تتساءل أنجيليكا نويفيرت صاحبة كتاب "كيف سحر القرآن العالم" كيف استطاع كتاب رقيق الحجم بهذا الشكل لا يكاد يتجاوز حجمه حجم العهد الجديد أن يغيّر عصره بشكل دائم في أقلّ من ثلاثة عقود لدرجة تضطرّنا للحديث عن تحوّل، سواء من الناحية العقائدية  أو من الناحية الجغرافية الثقافية، تحوّل نشأت عنه إعادة ترتيب الأوضاع في منطقة البحر المتوسط؟.

كتاب نويفيرت هو سلسلة محاضرات ألقتها بناءً على دعوة من مؤسسة البابا بندكت السادس عشر لمحاضرات الأساتذة الزائرين بكلية دراسات العقيدة بمدينة ريجنسبورغ في ألمانيا.

اتخذت  المؤلفة لهذه المحاضرات هذا العنوان "القرآن بين أظهرنا: سحر القرآن للعالم". يتقابل موضوع هذه المحاضرات بشكل كبير مع الكلمة التي ألقاها البابا بندكت السادس عشر في مدينة ريجنسبورغ عن موضوع العلاقة التي أعيد طرحها بين الإيمان بالله وبين العقل.

تركّز هذه المحاضرات بشكلها المنشور هذا بداية على تتبّع عمليات تغيّر العالم بالقرآن، هذا التغيير الذي يعكسه نصّ القرآن نفسه والذي تسمّيه المؤلّفة "سحر القرآن للعالم". وهي تغيّرات طرأت على مفاهيم علمية كانت موجودة بالفعل... ثم جدّت عليها تفسيرات جديدة خلال عملية جدل استمرت 23 عاماً بين الجماعة القرآنية وثقافات التوحيد المجاورة.

نرى شواهد تأثير مبكرة من القرآن الساحر على العالم "شواهد بدت بالفعل في مرحلة القرآن المكي وتبدّت في شكل ملامح جعلت تصوّر الواقع - الحياة الدنيا - ينضوي تحت تصوّر لليوم الآخر يشمل جميع مناحي الحياة والفكر. إضافة إلى هذا وُلدت هناك بالفعل في مكة نفسها "حركة تصحيحية" فاعلة هي التفسير الجديد في أواخر العصر الكلاسيكي لـ "القلق الذاتي"؛ هذا القلق الذي كان ينادي بأهمية استشعار المعرفة الدينية. كانت هناك رؤية سائدة في ذلك لعدل الزمن عن الإلهي أضافت لها هذه الحركة التصحيحية إعلاناً عاطفياً إضافياً لمحبّة الله وهو الرحمة الإلهية".

تقول صاحبة كتاب "كيف سحر القرآن العالم": "مع ذلك فإنّ شيئاً لافتاً في القرآن وهو الذي اتخذناه أيضاً عنواناً لمحاضراتنا وهذا الشيء على ما يبدو تتشارك فيها مع التراث... إنها قوة سحر لغة القرآن. وليس علينا هنا أن نرجع في ذلك إلى الأستاذ فريدريش ريكهارت الذي ترجم القرآن شعراً حيث قال مرّة على لسان أحد البراهمة: "فلا بدّ وأنها قوة سحر بيان تعلّق به العالم مثل القرآن".

يستند الكتاب على رؤية "الجاحظ" والذي يضع بلاغة القرآن في سياق المعجزات. فالأنبياء -بحسب الرؤية السائدة في عصره- يثبتون خلال نبوّتهم قدرتهم الخارقة على الإتيان بالمعجزات ولا تحدث هذه المعجزات تبعاً لقدرتهم كبشر، وإنما كأنبياء مرسلين من الله ومزوّدين بقدرة خاصة منه. ولكي يؤمن الناس بهؤلاء الأنبياء فعليهم أن يلبّوا تطلّعات جمهورهم. 

يعزو "الجاحظ" ظهور الأنبياء ومؤسسي الأديان الثلاثة العظماء موسى وعيسى ومحمد إلى تطلّعات تاريخية بالغة الخصوصية: أعطي جميع الأنبياء اَية صدقهم، حيث أرسل موسى إلى المصريين الذين كانوا يعظّمون السحر فأرسل الله إليهم موسى ليُسفّه سحرهم بعصاه السحرية التي تنقلب أفعى ساعةً يشاء، أي تحدّاهم في الأمر الذي به يعجبون ويزهون ويَعْتَدُون. وكان الناس في عهد المسيح يهتمون بالطب ويقدّرون الأطباء ويثقون بهم فتحدّاهم المسيح في ذلك" إذ أبرأ المرضى وأحيا الموتى". وكان العرب  يتباهون بالبلاغة والفصاحة، فتحدّاهم رسول الله بالقرآن. ومن اللافت أنّ الجاحظ خلال محاولته إيجاز تاريخ النبوّات يرفع الشكل الجديد للنبوّة في القرآن وتميّزه البلاغي جاعلاً إياه إحدى العلامات المميّزة لزمانه. 

تسأل المؤلفة: لكن هل تكفي مجرّد البراعة البلاغية لإثبات ادّعاء الإعجاز؟ كانت معجزات كلّ النبيّين السابقين معجزات تحويل بشكل قاطع: حيث حوّل موسى الجماد إلى حيوان كما كان تحويل عيسى الموتى إلى أحياء في عصر سادته طموحات علميّة. 

ومع ذلك فإنّ الجاحظ يرى أنّ بيان الكلمة الجديد لدى محمد والذي يصفه الجاحظ بأنه إبلاغي"معجزة هو أكثر لطفاً ودقة من معجزتي موسى وعيسى. كان على هذه الكلمة -حيث أريد من ورائها أن تضاهي المعجزتين- أن تكون كلمة مسحورة. ولا ينبغي أن يقتصر فهمنا لهذا الخطاب البلاغي الذي صيغ بشكل جمالي متعمّد على كونه إنجازاً من ناحية الزخرفة والجمال الشكلي فحسب "بل إنّ هذا الخطاب يمتلك قوة إقناع جديدة جعلته قادراً باستخدام أدوات مثل الرمزية أو القياس على توصيل أبعاد للحقيقة لم يكن يُكترث لها حتى ذلك الحين.

 وبالتركيز على القيمة الخاصة للغة كسمة لعصر النبي فإنّ الجاحظ يكون قد لخّص بهذه الكلمات روح أواخر العصر الكلاسيكي. إنه مجال التفكير؛ المكتظ بالنقاشات الذي تحظى فيه كلمة الله والكتاب بأفضلية على بقية مكوّنات العلم الأخرى، حيث كانت هناك إعادة قراءة.

وتُحاول أنجيليكا نويفيرت صاحبة كتاب "كيف سحر القرآن العالم" من خلال فصول الكتاب دراسة هذه التحوّلات المفاهيمية من خلال دراسة تاريخية لنزول سور القرآن وتتبّع خصائص السّور في كلّ مرحلة.

فقد سحر القرآن المؤمنين به حيث أعطاهم حقيقة متجاوزة العقل البشري عن طريق الوحي الذي يتمثّل في (القرآن)، وتعتبر المؤلِّفة أنّ المفاهيم التي طرحها القرآن "مأخوذة من الوسط الوثني العربي، والتغيّرات الجديدة التي طرأت على تلك المفاهيم تُعَدّ نتاج الجدل للفترة المصاحبة لبلاغه طيلة 23 سنة".

نرى شواهد تأثير مبكرة من القرآن الساحر على العالم "شواهد بدت بالفعل في مرحلة القرآن المكي وتبدّت في شكل ملامح جعلت تصوّر الواقع -الحياة الدنيا- ينضوي تحت تصوّر لليوم الآخر يشمل جميع مناحي الحياة والفكر. إضافة إلى هذا ؤلدت هناك بالفعل في مكة نفسها "حركة تصحيحية" فاعلة هي التفسير الجديد في أواخر العصر الكلاسيكي لـ 'القلق الذاتي'؛ هذا القلق الذي كان ينادي بأهمية استشعار المعرفة الدينية. كانت هناك رؤية سائدة في ذلك لعدل الزمن عن الإلهي أضافت لها هذه الحركة التصحيحية إعلاناً عاطفياً إضافياً لمحبّة الله وهو الرحمة الإلهية.

تعتبر صاحبة كتاب"كيف سحر القرآن العالم" أنّ القرآن يؤسّس لقيام الزمان على بدايتين ونهايتين؛ بداية العلم الأوّليّ وبداية الخلق. وتقصد بالعِلْم الأوَليّ العلم الإلهي المتمثّل في "الكلمة القرآنية" التي سبقت خلق الإنسان، وضربت مثالاً بسورة الرحمن حيث سبَقَت آيةُ: "عَلَّمَ القُرآنَ" آيةَ: "خَلَقَ الإِنْسَانَ"، وقارنت بين هذه الفكرة وفكرة اللوجوس المسيحي، مثل ما جاء في الإنجيل: في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. تعبّر نويفرت عن التعبير (لوجوس logos) للتعبير عن هذه الصفة بمعنى القوّة التي تتوسّط بين الله والبشر، أو بمعنى كلمة الله المتجسّدة في المسيحية، وتقول إنّ هذه الميزة يقرّ بها النصّ عندما يتحدّث الصوت الإلهي بصيغة (أنا) أو (نحن) داخل القرآن، وإنه لا يمكن إغفال هذه الميزة عند دراسة القرآن.

وتحاول نويفرت الربط بين أسلوب سور العهد المكي وأسلوب الخطاب اليهودي والمسيحي لفترة الوحي.

وتعتقد أنجيليكا نويفيرت أنّ سورة التين تقوم بتوصيل ذلك بلغة شِعرية رمزية، وكذلك سورتا "التكوير" و"الانفطار" تدلّلان على مخاطبة الإنسان بكونه جزءاً من عالَمين وليس عالـماً واحداً فقط؛ فهو يعيش حياة دنيا ثم يحاسَب في حياة أخرى تعتمد على أفعاله في الحياة الأولى.

وتؤكّد أنّ إعادة شغل المكان يمثّل في السورة المكية أهمية كبيرة فبدأت بسورة التين المنتمية للفترة المكية الأولى بذكر سيناء (المكان المقدّس) ثم مكة التي اكتسبت مكانة مقدّسة بتجلّي الإله فيها عن طريق رسالة النبي: "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ".

أيضاً قامت سورة الشعراء بذِكْر بعض الأنبياء، وقصص للأمم السابقة، مما يعيد التاريخ المكاني والزماني للمنطقة العربية؛ والتي قدّمت إجابات عن تساؤلات الشاعر في حديثه عن الأطلال وسؤال أين ذهبوا مَن كانوا قبلنا؟

وتقارن نويفرت بين الوصايا التي ذكرتها سورة الإسراء وبين الوصايا في سفر الخروج واللاويين من الكتاب المقدّس، وقد اختلف القرآن في أربع وصايا؛ وهي: مراعاة الأقارب والمحتاجين، وتحريم قتل الأطفال، ومراعاة اليتامى، والأمر بالتواضع. وتبيّن أنّ الجديد في وصايا القرآن هو التغيير الذي أتى به القرآن فكراً ثورياً في تصوّرات العرب عن الفخر والاعتزاز بالقبيلة ومعاملة الضعفاء.

اقتران العاطفة بالوصايا ليصبح الأمر بالعطف والرحمة تجاه الوالدين وتجاه اليتامى والمحتاجين، وإبدال الشّعور بالانتماء للقبيلة بالشّعور بالانتماء لما يتجاوز القبيلة من الناس.

تحريم التبذير والترغيب في الزهد من الأوامر التي تعالج مفهوماً خاطئاً لدى الوثني العربي الذي يفخر بالتبذير والكرم المفرط حدّ الافتقار والشقاء.

وكما تذكر مقدّمة كتاب"كيف سحر القرآن العالم" فالكتاب موثّق علمياً وفيه الكثير من الاستشهادات والاقتباسات ومليء بالكثير من الاستشهادات من القراَن. وهناك كمّ كبير من المقارنات التي قامت بعقدها بين الكتاب المقدّس والقرآن واستشهاداتها بالشعر الجاهلي.  

نشير إلى أنّ تجيليكا نويفيرت هي واحدة من أهمّ الأسماء في عالمنا المعاصر في مجال الدراسات القرآنية. وهي ألمانية الجنسية ولدت عام 1943.‏ درست اللغة والآداب الفارسية في جامعة طهران ثم أعقبتها بدراسة اللغات السامية العبرية القديمة والآرامية إلى اليونانية القديمة واللاتينية.

تهدي دار "البحر الأحمر " في القاهرة باكورة مشروع ترجماتها "لعيون الاستشسراق الألماني إلى روح معلمنا الأستاذ الدكتور مصطفى ماهر رائد دراسات اللغة الألمانية بالجامعات المصرية عرفاناً بجهده ودوره المؤسّس فى هذا الحقل وإكباراً واحتراماً من تلاميذ له يدعون الله مخلصين أن يتغمّده برحمته حقّ ما قام من علم وعمل وأن يثيبه عنّا خير الجزاء!".

تذكر مقدّمة كتاب "كيف سحر القرآن العالم"  أنّ من يقرأ للأستاذة نويفيرت سيكتشف بسرعة أنها تغرف من بحور لغوية متعدّدة وأنها تستنفد عند الكتابة جميع إمكانيات اللغة الألمانية. مستعينة في ذلك بلغاتها الأخرى التي تجيدها وعلى رأسها العربية والإنكليزية والعبرية.

وتوضح المقدّمة أنه "كان على المترجم أن يتحفّز استعداداً لمواجهة أيّ مفاجأة لغوية، خاصة وأنّ المؤلفة تتجوّل بسرعة كبيرة بين العصور والقرون والأديان والكتب السماوية وكتب المستشرقين وكتب علماء المسلمين لتأكيد ما تريد إثباته".