مذكّرات وزير إعلام عبد الناصر (1 - 2)
لا يمكن لأيّ باحث في دراسة العلاقات العربية - الأفريقية وبالأخص منها حركات التحرّر إلّا أن يتوقّف أمام تجربة الوزير محمد فايق.
عندما زار نلسون مانديلا مصر في عام 1991 وأعدّت له الحكومة المصرية برنامجاً لزيارته طلب إضافة بند واحد للزيارة وهو مقابلة وزير إعلام عبد الناصر ومندوبه إلى القارة الأفريقية محمد فايق.
وحين أجريت انتخابات جنوب أفريقيا عام 1994، طلب مانديلا شخصياً من الأخضر الإبراهيمي ممثل الأمم المتحدة المشرف على الانتخابات حينها دعوة فايق ورئيسَي تنزانيا وزامبيا وأرملة رئيس موزمبيق سامورا ميشيل ضمن أربع شخصيات ليكونوا ضيوفه.
وحين حضر الرئيس المصري السابق حسني مبارك إعلان استقلال دولة نامبيا عام 1990 كان فايق محور الحديث مع الرئيس الراحل مانديلا.
هذه الحكايات تشير إلى أهمية دور فايق القياديّ وهو أحد أبرز رموز وقادة حركة التحرّر التي قادتها مصر في تحرير الوطن العربي وأفريقيا من الاستعمار خلال الحقبة الناصرية. ومن هنا تأتي أهمية صدور هذه المذكّرات في 17 فصلاً، فالتقديم للمفكّر السياسي الناصري الدكتور أحمد يوسف أحمد، ونشرها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت تحت عنوان: "مسيرة تحرّر: مذكّرات محمد فائق"، التي توثّق لتجربة سياسية في مصر في عهود الرؤساء عبد الناصر والسادات ومبارك. عمرها 70 عاماً وتختصر تجربة العلاقات المصرية - الأفريقية.
إقرأ ايضاً:عبد الناصر قارئِاً وكاتباً
أدرك الرئيس عبد الناصر مبكراً أهمية الدور الإقليمي لمصر كقوة تحرّر وطني معادية للاستعمار وداعمة لحقّ الشعوب في الحصول على الاستقلال، وكلّف محمد فايق كضابط للمخابرات العامة بأن يتولّى مسؤولية التعامل مع القارة الأفريقية، فكان إنشاء الإذاعات الموجّهة باسم "صوت أفريقيا من القاهرة". خاطبت هذه الإذاعات الشعوب الأفريقية بلغاتها المحلية والتي بلغت 25 لغة، وكان لها تأثير كبير بسبب انتشار الراديو الترانزستور في القرى والأماكن النائية، وبالتالي وصلت رسالة القاهرة إلى كل مكان تقريباً.
يذكر فايق أن تحرير القارة السمراء لم يكن سهلاً، فالقارة التي تضمّ اليوم أكثر من خمسين دولة مستقلة، لم يكن فيها عام 1952 سوى ثلاث دول مستقلة هي مصر وليبيريا وإثيوبيا، أما بقية القارة فكانت ترزح تحت حكم الاستعمار الأوروبي والبريطاني والفرنسي والإيطالي والبرتغالي والبلجيكي والألماني. ففي هذا الوقت كانت خرائط أفريقيا تظهر مظللة بعدد من الألوان، وكان لكلّ دولة أوروبية اللون الذي يشير إلى مستعمراتها. وكان ذلك يعني، أنه لا يمكن دخول أي من هذه البلاد من دون الحصول على تأشيرة الدخول من السلطات الاستعمارية. ولما كان من غير الممكن لفايق كضابط مخابرات مصري أن يحصل على هذه التأشيرة، فقد استخدم جواز سفر لبنانياً.
يروي فايق في "مسيرة تحرّر: مذكّرات محمد فائق" أنه عندما توتّرت العلاقات المصرية - الإثيوبية في عام 1954 بسبب سياسات إثيوبيا في السودان المعادية لمصر، قام بموجب تكليف من الرئيس عبد الناصر بإعداد خطة للردّ على مضايقات إثيوبيا، راعى فيها التصعيد المحسوب مع عدم غلق الأبواب تماماً. وفي هذا الإطار اقترح الأستاذ فايق توجيه إذاعة إلى إريتريا بلغتها الرسمية، في وقت كانت تعدّ فيه إثيوبيا لضمّ إريتريا إليها، كما أنه نصح باستضافة مصر عدداً من السياسيين الإريتريين ومعاملتهم معاملة اللاجئين، واستجاب الرئيس عبد الناصر لتلك الاقتراحات كافةً. لكن بالتوازي مع هذه الإجراءات العقابية كانت هناك إجراءات تحفيزية شارك فيها الأستاذ فايق.
إقرأ أيضاً: لقاء غيفارا مع الرئيس عبد الناصر
تقمّص فايق شخصية طبيب بيطري وحفظ المصطلحات الطبية اللازمة وشارك في بعثة وزارة التجارة المصرية لإثيوبيا والدول المجاورة لدراسة الوضع على الأرض، وكان ذلك تحت غطاء التعاقد على شراء لحوم حيّة، وهي مهمة يلزمها طبيب، وهنا ينبغي التنويه إلى قدرة الأستاذ فايق الفائقة على التقمّص، فقد سبق له التخفّي فى زي صياد أثناء تنفيذه إحدى عمليات المقاومة ضد الاحتلال البريطاني. وكان من مهام البعثة الأخرى توجيه دعوة رسمية من الرئيس عبد الناصر إلى الإمبراطور هيلاسلاسي لزيارة القاهرة، وعندما تمّت هذه الزيارة أذابت برودة العلاقات المصرية - الإثيوبية، ولاحقاً وافقت مصر على أن تكون أديس أبابا مقرّ منظمة الوحدة الأفريقية.
إقرأ ايضاً: بعد 65 عاماً على القرار التاريخي.. كيف ولدت فكرة تأميم قناة السويس؟
وقد أشار فايق إلى أن ساعة يده هي هدية من الإمبراطور الإثيوبي هيلاسلاسي، وجلدها مصنوع من شعر ذيل الفيل، وعليها ختمه. فكانت هذه الساعة عرفاناً بدور الأستاذ فايق في تطوير العلاقات المصرية - الإثيوبية.
يُعدّ عام 1960 بمثابة عام التحرُر الأفريقي حيث حصلت 17 دولة أفريقية على استقلالها في ذلك العام، وهو العام نفسه الذي قطعت فيه مصر علاقاتها الرسمية مع اتحاد جنوب أفريقيا في 30 أيار/مايو 1960، استجابة لمطالب ممثلي حركة التحرير في جنوب أفريقيا التي كان يقودها مانديلا بقطع العلاقات مع النظام العنصري، ودعم إقامة دولة جنوب أفريقيا الديمقراطية التي يحكمها مواطنوها من الأغلبية أصحاب البشرة السمراء.
وبسبب ازدياد عدد ممثّلي هذه الحركات في القاهرة، قام فايق بإنشاء "الرابطة الأفريقية" التي تحوّلت إلى خلية نحل بأنشطتها في فيلا 5 شارع أحمد حشمت بالزمالك، لتكون مقراً لمكاتب هذه الحركات. وأدّت هذه المكاتب دوراً مهماً كحركة اتصال بين قيادات الحركات في بلادها والحكومة المصرية، وكذلك مع سفارات الدول الأجنبية المتعاطفة معها في القاهرة. وعندما ضاقت الفيلا بالمكاتب، تم استئجار عدد من الشقق في الشوارع القريبة لتكون مقارّ جديدة.
إقرأ أيضاً: "سقوط نظام": هيكل يكشف خلفيات "ثورة يوليو"
وأصدرت الرابطة مجلة "نهضة أفريقيا" التي رئِس تحريرها عبد العزيز إسحاق، وأسهم في كتابة مقالاتها ممثّلو حركات التحرير الأفريقية وعدد من الباحثين المصريين كالراحلين الدكتور عبد الملك عودة والأستاذ حلمي شعراوي.
تردّد على الرابطة قادة حركات التحرّر الذين أصبح كثير منهم رؤساء لبلادهم فيما بعد، مثل نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، وسام نيوما في ناميبيا، اغوستينيو نيتو في أنجولا، وكينيث كاوندا في زامبيا، وروبرت موجابي في زيمبابوي.
ولم يكن نضال فايق لتحرير أفريقيا منفصلاً أبداً عن نضاله في مصر، لأنه أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ترك المناصب والمكاتب وانضمّ إلى صفوف قيادة المقاومة الشعبية ضد الاحتلال البريطاني لبورسعيد.
عند وفاة الرئيس عبد الناصر كان فايق يشغل منصب وزير الدولة للإعلام والشأن الخارجي وبقي في منصبه حتى تقدّم باستقالته في عهد الرئيس السادات لاختلافه مع سياساته وقتها. وبعد الاستقالة مباشرة تمّ تقديمه للمحاكمة في قضية "مراكز القوى" والتي أطاح فيها السادات برجال عبد الناصر في السلطة وزجّ بهم في السجون لخلافات سياسية.