المطبخ القبطي في مصر.. قصص إنسانية تروى
كيف هو شكل موائد العائلات القبطية في مصر؟ وكيف تتغير نوعية طعامهم في فترة الصوم؟ وما هي العوامل التي كوّنت مطبخهم؟ شارل عقل، مؤلف كتاب "غذاء للقبطي"، يجيبنا عن ذلك.
بعيداً من التنميط، يعكس لنا الكاتب المصري شارل عقل الصورة الحقيقية لموائد العائلات القبطية، والتي تعكس واقعاً إنسانياً جديراً بالتأمل. مؤلف كتاب "غذاء للقبطي" (الصادر عن دار "الكتب خان")، يوضح أنَّ طعام المسيحيين المصريين عبارة عن قصصٌ إنسانيةٌ تستحقّ أن تُروى.
تناولت "الميادين الثقافية"، في مقابلةٍ أجرتها مع الكاتب شارل عقل، تفاصيل كتابه الأول، الذي لم يكن امتداداً لكتاب "أبلة نظيرة"، صاحبة "أول موسوعة طبخ عربية"، حسبما تقول دعاية الكتاب، ولا حتى كتاب طبخ ينقل 120 طريقة لعمل الفول المدمس، بل هو تأملاتٌ شخصية قصصية في الدين المسيحي، وعادات المسيحيين الغذائية.
الفول القبطي: طعام الجميع في كل الأوقات
يغوص الكتاب في أنثربولوجيا الطعام عند المسيحيين، فالعنوان الفرعي للكتاب هو "دروس في المطبخ القبطي"، وكلمة "الأقباط" داخل مصر ترادف "المسيحيين" خارجها، والمقصود منها في الكتاب هو النطاق الديني والجغرافي للأكلات المسيحية، من دون أن يعني ذلك أنَّ الأكلات المذكورة في الكتاب هي حكرٌ على المسيحيين وحدهم.
قسّم شارل عقل كتابه "غذاء للقبطي" إلى 10 فصول، هي: الفول وطرق عمله، المخبوزات، الصيامي من منتجات السوق، مأكولات رمضانية للأقباط، مأكولات بحرية، منتجات الأديرة، لحم الخنزير، الخمور، المأكولات الرمزية في المناسبات القبطية المتنوعة، مأكولات العيد.
يغوص الكتاب في أنثربولوجيا الطعام عند المسيحيين في مصر، من حيث النطاق الديني والجغرافي للأكلات التي يتناولونها، من دون أن يعني ذلك أنَّ الأكلات المذكورة في الكتاب هي حكرٌ على المسيحيين وحدهم.
يحكي الكاتب السكندري (نسبة إلى مدينة الإسكندرية) إذاً، في الفصل الأول، عن الفول في مصر، وأهميته بالنسبة إلى المصريين الذين أبدعوا عشرات الطرق لعمله، ويعتبر أن "أكل الغلابة" هو طعام سريع ورخيص، إلى جانب كونه الملاذ الآمن للمسيحيين وقت الصوم، الذين يمتنعون فيه عن تناول اللحوم.
يقول شارل عقل لـ"الميادين الثقافية" إنَّ "الفول هو الإفطار الحصري للكثير من المصريين، وهو مكوّن ثري جداً بسبب قيمته الغذائية، كما أنّه قادر على أن يتلوّن بمختلف الإضافات التي توضع عليه، فمن الممكن أن يكون احتفالياً وثرياً جداً، ومن الممكن أن يكون كئيباً جداً"، وهو ما دعا عقل إلى وصفه في إحدى المرات بأنّه "جَلدٌ للذات، وسببٌ للتألّم"، كما وصف الفول الذي يُصنع في الأديرة بأنّه "سيّئٌ جداً"، إلى جانب العديد من الأكلات والمنتجات الغذائية الأخرى التي تُصنع في الأديرة.
المطبخ القبطي: ركن المبالغة والتضادّ والاحتيال
يصف شارل عقل المطبخ القبطي في كتابه بأنّه "مطبخٌ قائمٌ على المبالغة والتضادّ"، وأنّه "مطبخ عدم الانحياز، والتحايل على القوانين"، على الرغم من أنّه مطبخٌ غير حصري، فلا يمكن الجزم أنَّ بعض الأكلات يصنعها المسيحيون وحدهم، بالإضافة إلى وجود تقاطعاتٍ بينه وبين مطابخ عديدة أخرى.
نجد أنَّ المطبخ القبطي يتحايل على بعض الأكلات، حتى تكون خالية من أي مكونات فيها لحوم أو بيض أو مشتقات الحليب، كي تلائم الصوم، مثل البيتزا الصيامية والفطائر الصيامية، وذَكَرَ الكاتب محاولات والدته في صنع هذه البيتزا، التي باء بعضها بالفشل.
وعلى الرغم من أنَّ الكتاب يفنّد بكثيرٍ من المعلومات ما يدور داخل المطبخ القبطي، خاصّة مطابخ الأديرة والكنائس، حيث يُطهى الطعام الذي يُوزّع على الناس، إلّا أنَّ الكاتب تراجع قبل إصدار الكتاب عن بعض الحِدَّة التي وضعها في المخطوط، حتى لا تكون هناك فرصة لبعض الشامتين ومن "يصطادون في الماء العكر" لنقد المسيحيين وأسلوب حياتهم، مما يجلب إلى الكتاب نوعيةً من القُرّاء لا يفضّلها عقل.
يتحايل المطبخ القبطي على بعض الأكلات، حتى تكون خالية من أي مكونات فيها لحوم أو بيض أو مشتقات الحليب، كي تلائم الصوم، مثل البيتزا الصيامية والفطائر الصيامية.
وبيّن عقل أنَّ المطبخ القبطي يقوم على عدّة محاور، منها المحور الديني، الذي يبيّن تأثير العادات الغذائية للدين المسيحي في المطبخ، من حيث الصيام والطقوس والأعياد والمناسبات الاجتماعية. أما المحور الجغرافي، فيحكي عن مواسم الزراعة والعادات الغذائية لأي بقعة جغرافية في مصر، والتي ستؤثّر بالضرورة على الناس، مثل مواسم الحصاد والزراعة، فمثلاً في عيد الغطاس يتناول المسيحيون القلقاس، ليس بسبب دلالته الروحية - حسبما يصوّر بعض المسيحيين - ولكن لأنّه وقت حصاده، والجوافة في عيد النيروز لأنّها تطرح في هذا الوقت، والسمك المجفف في عيد القيامة لأنّه يتزامن مع وقت تجفيف السمك وتمليحه.
أما المحور الثالث، وهو المحور الاجتماعي، فيمثّله ما يحدث في الوقت الراهن، مثل المنتجات الغذائية المتوفرة في السوق، التي لا يملك المسيحي أن يتدخّل فيها، مثل الأوقات التي تحلّ فيها فترات الصيام عند المسيحيين والمسلمين، وكذلك حركة تحليل أو تحريم الخمور في المجتمع بحسب الظروف المحلية.
لكلِّ ما سبق، أصبح للمطبخ القبطي في مصر شكلٌ خاصٌّ، لا يشبه المطبخ المسيحي في روما مثلاً، أو في أي مكانٍ آخر في العالم، ولا يشبه مطبخ المسلمين في مصر، كما أنّه لا يشبه المنتج الزراعي المتوارث من المنطقة الزراعية.
صوم المسلمين: المسيحيون "يصومون" في رمضان أيضاً
ينقل لنا كتاب "غذاء للقبطي" صورةً عمّا يفعله المسيحيون في مصر وقت صيام المسلمين، حيث يتحرّجون من تناول الطعام أمامهم، وذلك عبر قصصٍ شخصيةٍ حدثت مع الكاتب أثناء طفولته في المدرسة، بالإضافة إلى ما يحدث أثناء تقاطع الصيامين.
يقول شارل عقل إنَّ علاقته بشهر رمضان "لم تتغيّر حتى بعدما كبر، وهي تتمثّل باحترام الآخر من خلال عدم تناول الطعام أمامه". ولأنَّ الأمر له حجم كبير في مصر، حيث يُعتبر تناول المسيحي للطعام أمام المسلم الصائم أمراً غيرَ مستحبٍّ، حتى لو كان جائعاً، وقد تحدث بسبب ذلك مشكلات.
تكون نظرات المسلمين للمسيحي الذي يتناول الطعام في رمضان مليئةً بالفضول والتساؤل أحياناً، وهو أمرٌ ليسَ مريحاً، وقليلاً ما يشاركه المسلمون المفطرون تناول الطعام في نهار رمضان، اختصاراً للتساؤلات الفضولية ذاتها.
يقول شارل عقل إنَّ علاقته بشهر رمضان "لم تتغيّر حتى بعدما كبر، وهي تتمثّل باحترام الآخر من خلال عدم تناول الطعام أمامه".
لكن عند انتقال سكّان مصر من المسيحية إلى الإسلام، بعد الفتح العربي لها، انتقلت بعض طقوس الطبخ وعاداته مع المسلمين الجدد، وأثّرت في مطبخهم، المتأثّر بالضرورة بالمطبخ القبطي، المتأثّر بدوره بالمطبخ الفرعوني، وهو ما أوضحه شارل عقل بقوله إنَّ "الأمر مرتبطٌ بجغرافية المكان، ومواسم الزراعة والحصاد، وبالتالي هي عوامل تتوارث مع الأجيال".
وأضاف أنَّ الأديان تتكيّف مع هذه المحدِّدات في طقوسها اليومية، فنجد أنَّ ذلك ثابتٌ مع تغير المسميات، وأبلغ مثالٍ على ذلك هو عيد "شمّ النسيم"، الذي كان احتفالاً فرعونياً، ثم أصبح احتفالاً بقيامة المسيح، إلى أن صار المسلمون والمسيحون يحتفلون به فيما بعد.
كواليس الكتاب: قراءات تاريخية متعددة
يورد الكتاب تاريخ بعض الأكلات والمشروبات، خاصّةً من عهد قدماء المصريين، مثل انتقال تناول القلقاس معنا من المطبخ الفرعوني إلى المطبخ المصري في الوقت الحالي، حيث يتناوله المسيحيون المصريون في عيد الغطاس. يقول عقل في إيضاح أسباب ذلك، أنّه لجأ إلى قراءاتٍ متعددةٍ، منها قراءات في مراجع دينية مسيحية، ومراجع تاريخية سواء عن المطبخ الفرعوني أو العادات الغذائية المرتبطة بالطقوس المسيحية، بالإضافة إلى كتاب عن المطبخ الروماني، وكان الهدف من هذا البحث إيجاد تشابهات مع المطبخ القبطي وكتب التراث، مثل البحتري، و تحديداً عند الحديث عن الجزء الخاص بالخمر في الكتاب.
لا يعتبر عقل أنَّ كتابه يشكّل بدايةً لسلسلةٍ تتحدّث عن حياة المسيحيين في مصر، مثل ملابسهم ونمط حياتهم وغيرها، على الرغم من أن بعض أصدقاءه نصحوه بذلك، لكنّه حريصٌ ألّا يتمَّ تصنيفه على أنّه "كاتب قبطي".
يقول عقل إنّه لجأ من أجل إنجاز كتابه إلى قراءاتٍ متعددةٍ، منها قراءات في مراجع دينية مسيحية، ومراجع تاريخية سواء عن المطبخ الفرعوني أو العادات الغذائية المرتبطة بالطقوس المسيحية، بالإضافة إلى كتاب عن المطبخ الروماني.
كما تطرّق عقل إلى مواضيع خلافية، مثل نظرة المسلمين إلى شرب المسيحيين للخمور وأكلهم لحم الخنزير، وذلك بشكل مرح وسلس وخفيف، تناول فيه التراث العربي وحديثه عن الخمر، ولماذا يُحرَّم تناول لحم الخنزير عند المسلمين، اختتمه بخاتمة مثالية تتناول الأعياد المسيحية المتنوعة، وما يحدث عشية العيد ويومه من طقوسٍ خاصّةٍ، وربط الأمر بذكرياتٍ عن جده وعائلته.