ليونيد سولوفيوف: كيف حفظ ابن طرابلس الشام تراث آسيا الوسطى؟
من هو ليونيد سولوفيوف، ولماذا ولد في طرابلس الشام؟
وُلد الكاتب الروسي ليونيد سولوفيوف في مدينة طرابلس الشام سنة 1906. ومما يذكره الروس عن هذا الكاتب أنه سُجن في معسكرات الاعتقال السوفياتية 8 أعوام، وخرج ليقول: "القدر يستجيب، والفرصة المواتية تأتي دائماً لنجدة أولئك المتشبثين بأفكارهم والذين يقاتلون حتى النهاية".
كثيرة هي أعمال سولوفيوف، ومنها "سيد الطاقة الشمسية"، "أحداث حزينة وسعيدة في حياة ميخائيل أوزيروف"، "المرأة السادسة والتسعون"، "منزل جديد"، "حبّ واحد"، "البحار الروسي إيفان نيكولين"... ويُسجّل له أنه دوّن تراث آسيا الوسطى الشفهي وحفظه من الاندثار. فمن هو سولوفيوف، ولماذا وُلد في طرابلس الشام؟
أصل الحكاية
أدرج كبير المستشرقين الروس، إغناتي كراتشكوفسكي (1883-1951)، في مذكراته عن إقامته بلبنان وفلسطين، ملحوظات عن اجتماعاته بالمعلمين المحليين، من العرب والروس، الذين التحقوا بالخدمة في المدارس المسكوبية التابعة للجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية.
في إحدى قصاصاته التي تعود إلى مطلع شباط/فبراير 1909، ذكر أنه التقى معلمتين روسيتين في مدينة طرابلس، إحداهما علّمت سابقاً (في دار المعلمات) في بيت جالا. في حزيران/يونيو 1909، رجع كراتشكوفسكي إلى طرابلس وزار مديرة المدرسة المسكوبية، وعلم أنها ستغادر المدينة في الخريف وترغب في العودة إلى روسيا. من هي هذه المعلمة؟ وما علاقتها بليونيد سولوفيوف؟
بعد عقود من الزمن، تابعت الباحثة في معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية السوفياتية للعلوم روكايا شرفتدينوفا (رقية شرف الدين) الموضوع، حيث كشفت في سنة 1978، أن هذه المعلمة، التي حملت مسؤولية إدارة مدرسة طرابلس، هي آنّا سولوفيوفا، والدة الكاتب السوفياتي الشهير ليونيد سولوفيوف، المولود في طرابلس.
التقت الباحثة آنّا سولوفيوفا، التي حدّثتها عن عملها وزوجها في المشرق، وزوّدتها ببعض الصور. واللافت أن الباحثة تمكّنت من لقاء آنّا قبل عامين من وفاتها عام 1971، عن 94 عاماً.
تقول شرفتدينوفنا: "تكشّفت فجأة خيوط هذه القصة التي ترتبط بأيامنا هذه. حدث لقاء مثير للاهتمام في صيف سنة 1969 في مدينة بوشكين مع عائلة كانت على علاقة وثيقة جداً بأنشطة المدارس المسكوبية التابعة للجمعية الفلسطينية. إنه لقاء مع عائلة سولوفيوف. لقد كرّست هذه العائلة الروسية 15 عاماً للأنشطة التعليمية في سوريا وفلسطين".
تخرّجت آنّا ألكسيفنا سولوفيوفا (اسم عائلتها قبل الزواج ستودنكوفا) من "ثانوية الشفاعة العالية" في سان بطرسبورغ، حين كانت في الثامنة عشرة من عمرها. وكانت نشأت يتيمة في مأوى "جمعية الشفاعة لأخوات الرحمة"، وهي ابنة ضابط صف قُتل سنة 1877 في القسطنطينية خلال الحرب الروسية - التركية.
في سنة 1894 التحقت آنّا بالجمعية الفلسطينية التي أرسلتها إلى المشرق. درّست لمدة 6 أعوام في دار المعلمات والمدرسة النموذجية الملحقة به في بلدة بيت جالا، بالقرب من بيت لحم، وتولّت أمانة مكتبة في دار المعلمات، وكانت منظمة الجوقة، وعلّمت عدداً من المواد، منها اللغة الروسية، والأدب، والجغرافيا، والخط.
أما زوجها المستقبلي، فاسيلي أندريفيتش سولوفيوف، فهو خريج معهد قازان للتعليم، وكان مهتماً بتاريخ العرب وآثارهم. التحق بالتعليم سنة 1898، وغدا أستاذاً في دار المعلمين في بلدة الناصرة. نشر فاسيلي سلسلة من المقالات عن الآثار القديمة والرحلات في تاريخ العرب في مجلة "الحاج الروسي". في فلسطين التقت آنّا وفاسيلي وتزوجا، ثم انتقلا إلى مدينة طرابلس، حيث علّمت آنّا في مدرسة الجمعية في المدينة قبل أن تتولى إدارتها، بينما عمل فاسيلي مساعداً لمفتش المدارس المسكوبية في سوريا. وهكذا عاشت الأسرة الصغيرة في مدينة طرابلس 8 أعوام، حيث أنجبت آنّا ابنها ليونيد سنة 1906، قبل أن تنتقل إلى روسيا سنة 1909.
في مدينة طرابلس وُلد ليونيد ابن آنّا وفاسيلي، ويشتهر في الأدب السوفياتي بأنه صاحب كتاب حكاية خوجة (الخواجة، المُلّا) نصر الدين الذي حفظ التراث الشفهي في آسيا الوسطى. ويحظى خوجة نصر الدين الحكيم بشعبية كبيرة في تلك البلاد، التي كانت تدعى تركستان، وتناقلت الأجيال حكاياته شفاهاً، وشخصيته تتقاطع مع شخصية جحا في الأدب الشفهي في بلادنا. وحكاياته مدرجة اليوم في قائمة التراث الثقافي غير المادي للبشرية من قجانب إيران وأذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وتركيا وأوزبكستان.
وتستنتج شرفتدينوفنا أنه "يمكننا أن نتحدث بصورة مباشرة ليس فقط عن العلاقات الروسية العربية، وتأثير الثقافة والأدب الروسي على اللغة العربية، لكن أيضاً عن الظاهرة المعاكسة، فقصص ليونيد سولوفيوف عن خوجة نصر الدين، وجميع أعماله، مشبعة بزخارف من الشرق".
تُظهر وثائق "المتحف الوطني لتاريخ الدين" في سان بطرسبورغ، التي كشف عنها الباحث بيوتر فيدوتوف، أن حياة أسرة سولوفيوف لم تكن بالسهولة التي وصفتها شرفتدينوفا. لقد أنهى فاسيلي سولوفيوف دار المعلمين في قازان (عاصمة تتارستان الروسية) مع زميله ستيبان سيميونوفيتش كوندوروشكين (1875-1919)، وانتقلا معاً إلى الخدمة في "الجمعية الفلسطينية". ويبدو أن حياتهما في المشرق كانت متشابهة إلى حد ما، فكما ارتبط فاسيلي بآنا ستودنكوفا، ارتبط ستيبان بالمعلمة الروسية يليزافيتا ريبنر التي أنجبت هناك ابنتهما الأولى آنّا. وكلاهما كان مضطراً إلى البحث عن عمل إضافي أو جديد تحت الضغوط المادية للزواج، إذ إن الراتب الشهري في الجمعية بالكاد يسد الرمق.
في الناصرة، خطب فاسيلي آنّا، التي طلبت إلى الجمعية زيادة راتبها، ثم اضطرت إلى مراسلة إدارة الجمعية بتاريخ 28 نيسان/أبريل 1900. تقول: "بالنسبة إلي، تنتظرني حياة مليئة بالمخاوف والعمل، بحيث سيتعين عليّ تغطية نفقاتي، ولن أحلم أصلاً بالرخاء. لو كنت في روسيا لاستطعت الحصول على عمل، لكننا هنا في ظروف استثنائية".
كذلك سعى فاسيلي لزيادة راتبه، ولم يقبل الانتقال إلى راشيا النائية ليغدو رئيس منطقة عام 1903، بل رضي العمل مساعداً للمفتش التربوي في دمشق عام 1904، بعد أن ترك ستيبان كوندوروشكين هذا المنصب وعاد مع زوجته وابنته إلى روسيا. وضمن المنصب لفاسيلي زيادة في الراتب، لكنه كان دائم الترحال، ولم يرَ زوجته التي نقلتها الجمعية إلى طرابلس سوى في أيام العطل. وكان يرسل مقالاته إلى مجلة "الحاج الروسي" ليتلقى بعض المبالغ الإضافية. فور ولادة ليونيد بات هدفه البحث عن عمل جديد، لكن الجمعية رفضت نقله إلى كييف أو موسكو، فأنهى مع زوجته خدمتيهما في الشرق سنة 1909، وعادا بليونيد ذي الأعوام الثلاثة إلى روسيا.
ليونيد سولوفيوف الكاتب
بقيت العائلة في مقاطعة سمارا الروسية حتى عام 1921، وهو العام الرابع من الحرب الأهلية الروسية. فرّ فاسيلي بأفراد عائلته إلى أوزبكستان خوفاً من المجاعة. في سنة 1923، بدأ الشاب ليونيد الكتابة لصحيفة "تركستانسكايا برافدا"، بحيث عمل مراسلاً لعدة أعوام. آمن سولوفيوف بموهبته وقرر الذهاب العاصمة. وفي موسكو تخرج من القسم الأدبي في معهد التصوير السينمائي. في عام 1932، كتب قصة "البدوي"، وهي أول عمل جاد له. خلال الحرب الوطنية العظمى (1941-1945)، عمل ليونيد مراسلاً حربياً لصحيفة "الأسطول الأحمر". كتب مقالات وتغطيات من الجبهة عن الجنود الروس العاديين، والذين يُقتلون كل يوم دفاعاً عن وطنهم. وجُمعت تلك المقالات ونُشرت في كتابَي "الامتحان الكبير" و"حجر سيفاستوبول".
بعد الحرب، ألقت السلطات السوفياتية القبض على الكاتب، وبعد شهور طويلة من التحقيقات والتعذيب أقرّ بالتهمة المعدّة سلفاً، وهي أنه كان يخطط عملاً إرهابياً ضد القائد ستالين، فزجت به في معسكر دوبروفلاغ، أحد أقسى أقسام الغولاغ في موردوفيا. ومكث في المعتقل 8 أعوام من أصل 26 عاماً حُكم بها.
خلال أعوام الاعتقال، كان الفيلم السينمائي المبني على روايته عن خوجة نصر الدين يجول في البلاد، ويُعرض في أبرز دُور السينما، وتباع مئات آلاف النسخ عن كتابه. أما الكاتب فكان يعاني الأمرّين من الأشغال الشاقة. كان ليونيد تمكن من إعادة حبك كمّ كبير من الحكايات المتناقلة شفاهاً عن نصر الدين، الشخصية الفولكلورية، بطل الحكايات القصيرة الساخرة التي تتميز بالحكمة.
في المعتقل، توصل ليونيد إلى اتفاق ضمني مع الإدارة العسكرية يقضي بالسماح له بكتابة الجزء الثاني من "حكايات خوجة نصر الدين"، في مقابل عدم إرساله إلى معتقل أشد قسوة "من حيث لم يعد أحد حياً". أنهى ليونيد الجزء الثاني الذي تميز بنظرة أعمق وأكثر حزناً نحو الحياة، فصادرته إدارة المعتقل 3 أعوام كانت الأكثر كآبة في حياة الكاتب، الذي فقد الأمل في عودة المخطوط إليه.
بعد إطلاق سراحه، أعيد ليونيد إلى اتحاد الكتاب السوفيات، ورُدّ إليه الاعتبار بالتدريج، فرمّم حياته بصورة ما، ونشر مخطوطاته، ثم واصل كتابة القصص وعمل أيضاً على نصوص الأفلام.
بفضل مهارته الأدبية، تمكن ليونيد سولوفيوف من كسب قلوب القراء بين أربعينيات القرن العشرين وستينياته، ولا تزال كتبه رائجة حتى وقتنا الحاضر. توفي في سان بطرسبورغ بتاريخ 9 نيسان/أبريل 1962. عام 2006، أصدر المخرج إيفان تفارديفسكي فيلماً وثائقياً بعنوان "المشاغب"، عن حياة ليونيد ومرحلة اعتقاله وأعماله.