"ليس صلاح الدين".. لماذا نحن غاضبون من "مو صلاح"؟
يقول المدافعون عن صمت محمد صلاح عما يجري في غزة، "إنه مش صلاح الدين الأيوبي" وهذا حقيقي، وإلا كنا طالبناه بأن يقود جيشه لتحرير الأقصى.
الدفاع عن موقف اللاعب المصري محمد صلاح من القضية الفلسطينية هو تأصيل لانعدام النخوة والمروءة والبراغماتية.
الأمر أشبه بأسرة فقيرة علّمت ابنها وأرسلته إلى الخارج، ثم لما فتح الله عليه بفضل ذكائه، تبرّأ من أهله وانسلخ من هزائمهم، متناسياً كل رابط له معهم، سواء رابط الدم أو الإنسانية، بحجة المصلحة، أو على قاعدة أن نجاة فرد من القبيلة خير من فناء جميع أفرادها.
يقول المدافعون عن صمت محمد صلاح عما يجري اليوم في غزة، "إنه مش صلاح الدين الأيوبي" وهذا حقيقي، وإلا كنا طالبناه بأن يقود جيشه لتحرير الأقصى، ولكن لأنه مجرد "مو صلاح"، لاعب كرة القدم المشهور عالمياً، والذي يحظى بمتابعة إعلامية وجماهيرية كبيرة، فإن كل ما نطلبه منه أن يحمل صوت المظلومين في غزة إلى العالم. أن يكون صوت الحقيقة في ظل سطوة إعلام عالمي وصهيوني قادر على الترويج لواقع غير الواقع.
وبكل تأكيد، فإن تأثير تغريدة واحدة لــ "مو صلاح" أو تغيير صورة بروفايله على مواقع التواصل، قد تعادل كل وسائل الإعلام العربي مجتمعة. نحن ندرك أن صلاح قد لا يغيّر شيئاً من المأساة اليوم، لكنه قد يدفع بجماهير دولة داعمة للظلم إلى أن تسأل: ماذا يحدث في فلسطين؟
قد يعاقب اللاعب المصري إن دعم قضيتنا الفلسطينية، التي يفترض أنها قضيته أيضاً، بحكم كونه "فخر العرب" كما نراه ويراه محبّوه، وصحيح، أنه قد يعاقب، ولا أنكر عليه خوفه، ولا أدفعه إلى النار معصوب العينين. لكن ما قيمة المبادئ والمواقف إن لم يدفع صاحبها جزاء تمسّكه بها؟ أي بطولة في رجل اتخذ موقفه وقال كلمته وهو ضامن أنه سيعود سالماً إلى بيته وأسرته؟
لا بدّ أن يضع المرء روحه على كفه حتى يراه الناس بطلاً، فالشهادة تكلفتها الحياة، والبطولة أيضاً قد تكلّف صاحبها بعض نعيم تلك الحياة، وقد تكلّفه بعض المال، وتضيّع عليه بعض الجوائز - مثل الكرة الذهبية لو كان في مكانة محمد صلاح - وقد يمر الموقف من دون خسارة أي شيء، لكن هي لعبة الاحتمالات التي تجعل من العادي بطلاً.
"ملايين العاديين الخانعين لمديريهم في العمل يطلبون من اللاعب العالمي أن يقف في وجه ترسانة إعلامية غربية، يحكي لهم الحقيقة مضحياً بمستقبله"، ذلك ما يقوله المدافعون عن موقف صلاح، والحقيقة أنه ليس ثمة تضحية في الأمر، أو على الأقل ليست تضحية مبالغاً بها. ذلك أن لاعباً آخر، هو محمد النني، لاعب نادي أرسينال الإنكليزي، أعلن دعمه للمقاومة وبأحقية الفلسطينيين في الدفاع عن حريتهم، ولم نره مشنوقاً في شوارع أوروبا. كما أنها ليست المرة الأولى التي يدعم فيه النني القضية الفلسطينية، وكان أقربها تغريدة في العام 2021، أثارت غضب تل عوفر، عضو المجلس اليهودي البريطاني، مطالباً إدارة أرسينال بإيقاف اللاعب العربي وفرض عقوبة قاسية عليه، لكن النني لا يزال ضمن صفوف النادي البريطاني ولم يرسلوه إلى "المقاولون العرب"، النادي المصري الذي خرج من صفوف ناشئيه هو ومحمد صلاح.
بدّل محمد النني، أول من أمس الأربعاء، صورة البروفايل الشخصي له على مواقع التواصل الاجتماعي. أزال صورته ووضع صورة للمسجد الأقصى يرفرف فوقها علم فلسطين. بعدها ذكرت صحيفة "تلغراف" البريطانية أن دعمه للقضية الفلسطينية "دفع النادي اللندني إلى تحذير لاعبيه بالكامل من رد الفعل العنيف المحتمل الذي قد يواجهونه هم والنادي في حال إظهارهم الدعم لأي من الأطراف المعنية"، وبحسب الصحيفة، لم يأمر أرسينال اللاعب بحذف رسائله أو استبدال الصور الخاصة به، لكنهم أخبروا الفريق أن "أي منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي حول هذا الموضوع يمكن أن تسبّب الانزعاج أو الغضب بين قاعدة جماهيرهم العالمية".
كان رهان أرسينال على ما قد يسبّبه الموقف الداعم من انزعاج وغضب القاعدة الجماهيرية للنادي، أي أن حسبته تجارية في الأساس، وهذا في حالة لاعب مثل النني وليس محمد صلاح، الذي يمثّل رقماً مهماً في المعادلة التجارية لليفربول، فالأخير يملك قاعدة مؤيدة لموقفه في حالة الدعم، هذه القاعدة العربية الإسلامية، التي تتكئ على شريحة جماهيرية عريضة من إنكلترا المحبة للملك المصري.
أيضاً، وفي حسبة تجارية بحتة، نجد أن موقف صلاح أقوى بكثير من تضحية النني بمركزه في الفريق، فـصلاح ليس مجرد لاعب مهم في ليفربول، بل هو روح الفريق وقلبه النابض حالياً، وإلا ما تمسّك به في وجه عرض الاتحاد السعودي المغري بضمه، اللهم إن لم تكن عين صلاح على الكرة الذهبية، كما يردّد منتقدو موقفه، وهو الحلم الذي حرمه منه الغرب المتعصّب في أفضل فترات استحقاقه لها، فهل يظن فعلاً أن موقفه المتخاذل سيضيف إلى رصيده الكروي ليصبح أكثر استحقاقاً من غيره؟ لا أجزم بهذا، لكنه سؤال مشروع.
عموماً، يبقى الحديث عن قول البعض إن صلاح ليس مديناً لأحد بشيء، ومن ثم فهو حر في تحديد موقفه، باطلاً. فالحقيقة أنه مدين للمصريين بالكثير، أوّلاً حق الانتماء، وإلا كان سهماً في قلب مفهوم المواطنة ونصرة الوطن في محنته، وإلا تحوّل الانتماء للأهل والوطن ونصرتهما إلى مبدأ براغماتي قوامه أن نقدّم للأوطان بمقدار ما قدّمت لنا.
وأيضاً هو مدين لملايين العرب الذين دعموه في رحلته الكروية عبر الأندية المختلفة، وللذين هتفوا باسمه ومشوا خلفه بين مشجّعي الأندية التي انتقل إليها، لا لشيء إلا لأنه لاعب عربي. هؤلاء هم الذين صنعوا الفارق في قيمة صلاح في سوق كرة القدم وساهموا في فوزه بالجوائز التي اعتمدت على تصويت الجماهير. فهؤلاء لم يصوّتوا لموهبة صلاح الكروية فقط، بل صوّتوا للقواسم المشتركة التي تجمعهم بصلاح، قواسم الانتماء إلى العروبة والإسلام.
أخيراً، لم تزل الفرصة سانحة أمام محمد صلاح ليشاركنا مصابنا في غزة. أن يتضامن معنا ويعرّف الغرب بقضيتنا. وحينها سنهتف له كما فعلنا سابقاً. الفرصة لم تزل أمام صلاح طالما أن "إسرائيل" لم تزل محتلة لفلسطين، وما زالت الصواريخ تواصل حصد رقاب الأطفال والنساء في غزة، وطالما بقيت المقاومة تدافع عن حق الفلسطينيين في الحرية.