"لوحات" لعلي جواد.. رحلة وجودية بين النص والصورة
لغة علي جواد في الكتاب حسيّةٌ دافئة، لا يعتمد الصّدمة كتقنيّةٍ في نصوصه، وحتّى حين يتوجّه بنقد لا ينتقد بعنف، لا يتعمّد استعراض ثقافته ولا يسعى لخلقِ توتّرٍ لغويٍّ مبالغ فيه.
من بنت جبيل في جنوب لبنان، إلى ديربورن في الولايات المتحدة، طار علي جواد شاباً باحثاً عن العلم والعمل، لم يعد مضطرّاً لركوب الباخرة كما في "أميركا" ربيع جابر، لكنه كان واحداً من أولئك الذين أنبتتهم هذه الأرضُ المسكونةُ بقلقٍ ماورائيٍّ خصب، للنموِّ خارج الإطار، داخل العالم.
وبين سفر الجسد وسفر الروح يبدو الورق الأبيض وطناً ملائماً وإن كان مؤقّتاً، وتبدو الكتابة محاولةً بدائيّة وفعّالة لتسكين آلام الغربة المركّبة.
في رحلةٍ مشابهةٍ مُعاكسةٍ صدرَ كتاب علي جواد الأول المعنون "لوحات" مطلع هذا العام في بيروت عن "دار البيان العربي"، بينما كاتبه على الجهة الأخرى من الكوكب يكمل دراسته في كليّة هنري فورد في ديربورن بميشيغان.
بالنظر إلى كلِّ هذا، البديهي ألّا تبدو الغربةُ طارئةً على نصوص الكتاب، فهي تبدأ أصيلةً من نصه الأول المعنون "أخت من هجرات": "كانت الطرقات وما زالت تلوّح للذين صدّقوا النشيد/ والطائرات تحمل الذين صدّقوا أنَّ العَلَم يوزع الهواء النظيف على حبل غسيلٍ ممتلئ/ هناك في البال سفن ضائعة ترسو في مرافئ الأحاسيس/ من دون أن تعرف في أي ألغازٍ رست/ هناكَ أهلٌ خانوا باسم المحبّة."
يحاور هذا النص "أختاً من هجرات" كما يتوضّح من العنوان، ويظهر المنادى من السّطر الأول مبنيّاً بعلامة الرفع "هذا وجهي يا أختُ" أي كنكرة مقصودة بالنداء، فهو إذن يتوجّه إلى شخصٍ بعينه، لا ندري إن كانت أختاً بيولوجية أو غير ذلك، ولكن شيئا من ملامحها يتبدّى لنا خلال النص، يسيطر الحقل المعجمي للتيه والقلق والسفر على تداعٍ لغويٍّ لا تنقصه الشاعريّة (سحابة شاردة، منافٍ، الطرقات، سفن ضائعة، ظلام لا يعرف هويته، التجوال، ضفتان تتقاتلان، فقدوا الذاكرة...) وينتهي النص باحثاً عن المعاني البعيدة: "حيث الماضي يتجوّل في الحاضر/ويصقله على مرائي مشاهدين يناقشون الصواب والخطيئة/ ومعاني السماوات البعيدة".
بعد كلِّ نصّ، يترك علي جواد مساحةً للصّورة الفوتوغرافية أو اللوحة التي تكون عادةً مستوحاة من الثيمة الأساسية للنّص، لذا فتكرار الصور المتعلقة بثيمة المرأة في مختلف تجلّياتها وثيمتي السفر والطّبيعة، دالّة تعطي انطباعاً بصريّاً رافداً للانطباع الحسّي للكتاب، ولا شك أن وضع صور فوتوغرافيّة في كتابٍ من هذا النوع يعدُّ مغامرةً جريئة وغير نمطية، ولكنّها تخدم التصوّر الرئيسي للعنوان "لوحات" وتعبّر عن شغف الكاتب بالصّورة، الشغف الذي يمتدُّ إلى أساليبه التعبيرية وتراكيبه اللغوية.
لغة علي جواد في الكتاب حسيّةٌ دافئة، لا يعتمد الصّدمة كتقنيّةٍ في نصوصه، وحتّى حين يتوجّه بنقد لا ينتقد بعنف، لا يتعمّد استعراض ثقافته ولا يسعى لخلقِ توتّرٍ لغويٍّ مبالغٍ فيه، يمشي على أطراف الكلام اللذيذ الخفيف مع اعتناءٍ خاصٍّ بالجماليّات، وترك حبالٍ معلّقة تفضي إلى آبار عميقة فيما وراء النّص ووراء المعنى الظاهر، حبالٌ تنمُّ عن ثقافةٍ جيّدة وخبرةٍ لغويّة ورؤية متنوّرة.
أطول النصوص في كتابٍ تلافى كاتبه وضع نصوصه تحت نوعٍ أدبيٍّ بعينه – وهذه حركةٌ ذكيّة - هو نصٌّ بعنوان "حديث مع من كنته" يتدفّق كمونولوج داخليّ على مدى 9 صفحات، ويتخلله حديث إلى الشجرة "أنت كنتِ تنتظرين الفصول/وأنا كنت أنتظر حديث المنام/ ويقظة النهار بعده/ لو كنت عارفاً الجواب/ لأصبحتُ قادراً على التأمّل مثلك".
"التأمّل" هنا يأتي مرادفاً للسّكون كصفةٍ ملازمةٍ للشجرة ويقابله المضيّ والتجاوز كصفةٍ ملازمةٍ للإنسان: "وتمضي إلى ذاتك... سأمضي خارج زمني ووقتي/ متجاوزاً الصوت والضوء..." فكأنّه في هذه الحركة المتدفّقة من أول النص إلى آخره، يحاور الاستقرار ويتمناه ويعرف أنّه لن يصله.
يمتلئ النص بمعاني النوستالجيا ويضيق بجدران الذاكرة "ردّني ليجتاز برق التجارب أضلعي/ ويحملَ النّسيان جدرانهم مني بعيداً بعيداً". يستحضرُ الشاعر السوري "أدونيس" في "الثابت والمتحوّل" ويختم النصَّ بحنينٍ وجوديٍّ رقيق: "يا من رأى روحي لأول مرّةٍ ونسي شكلها/ يا من رأى ضوء الشمس من روح أنثى/ سلامٌ إليك وعليك/ يا من رأى الكون لأول مرة/ ونسي كل شيء ومشى/ ليصير أنا المشتاق إليك...".
الأنثى التي لا تكاد تغيب عن صور الكتاب، لا تكاد تغيب كذلك عن نصوصه، فهي المخاطب غالباً، وهي المؤنّث الذي يؤنّث ما يمسّه: "تختطفين المساء بحركة عطر يدك الصغيرة/ ويستوقفني نبضك/ حين يختصر الأرصفة البعيدة/ ويؤنث وجه القمر القديم"، وهي السحر الذي يغيّر نظرتنا إلى العالم: "ستغيّر نظرتك إلى الدنيا سيدة تنثر في الهواء دفء عطرها/ ... ابتسمت فاختزلت بسمتها فتنة اللؤلؤ الأخّاذ/ إنها نسيم متمهل/ وإشراقة صحوة ريفية/ رائحتها لا تكرر نظرتها...".
تحضرُ المرأة في "لوحات" علي جواد كمحفّزةٍ على الحركة وباعثةٍ للحياة والخصوبة، وكثيراً ما يخرج بالتأنيث من مدلوله الحسّي القريب إلى معانٍ وجوديّة وصوفيّة ليذكّرنا بعبارة ابن عربي في رسائله: كلّ مكانٍ لا يؤنّث لا يعوّل عليه.
بالنّظر إلى أن هذا الكتاب هو تجربة علي جواد الأولى، نجد أنفسنا أمام كاتبٍ مجيد يمتلك شاعريّة الكلام ويعرف كيف يوظّف مجاز اللغة، لديه نفسٌ مسرحيّ وقدرةٌ على اختراقِ عوالم الرؤيا والكشف، كتابٌ ممتع وقلمٌ سننتظره في المحطّة القادمة.
وفي نهاية هذه القراءة نترككم مع نصٍّ من الكتاب بعنوان "حنين وجهات":
أمسكت الشلال ببصري ثم همست لخافقي: هنا يبدأ المعنى...
هنا.. في أحداق طفلٍ يمرّن العشب
ويطيعه النور في كتابة المجاز
ثمّة سؤال يسبح في الإجابات
يبدأ مع شروق يرصّع قمّة جبلٍ تحرّرت من أخطاء احتلّت الصحاري
صمتٌ بلّوري في جهة أجنبية
يعيدني إلى أول قوس قزح
إسوارة مكسورة في يد الشّرق
شجرة الحكمة تطيعني دائماً
إلا عندما أحنُّ إلى مهرجان الطفولة
قبل أن يذيبني نهدُ امرأةٍ مُنحَت سخاءَ الغيب
امرأةٍ تنثر خطاها مروجاً توقظ الأرض
قالت لي: لا ترفع رأسك عالياً كي لا تسقط على حلمك صخرةً
ولا تنحنِ إلا للحقيقة كي لا تسقط الحريّة من يدك...