لن تنطفئ…

لا يعتقدنّ أحد أنّ حجم التضحيات والخسارات الهائلة، بما فيها استشهاد رمز تاريخي كالسيد حسن نصر الله وقادة المقاومة في لبنان وفلسطين سوف يطفئ جذوة المقاومة.

مذ ولدنا ونحن عرضة للعدوانية الإسرائيلية، بل قبل ذلك بكثير. مذ ولد آباؤنا وأمهاتنا. ففي جعبة الذاكرة الكثير مما حكوه لنا عن ارتكابات الاحتلال بحقّ أهلنا وأسلافنا ومدننا وقرانا. بل يمكننا القول إننا نشأنا وترعرعنا على وقع العدوانية الإسرائيلية حتى بات في إمكاننا تأريخ مراحل أعمارنا بالحروب والمجازر والاعتداءات، كأنْ نقول فلان ولد خلال تلك الحرب، وفلانة أنجبت بعد تلك المجزرة، وهكذا دواليك. عمرٌ كامل من الحروب والعدوان.

لذا ليست جديدة علينا ارتكابات الاحتلال في فلسطين ولبنان، ولا هي جديدة عليه طبعاً. فهذا الكيان كما يعلم القاصي والداني قائم على المذابح والمجازر منذ دير ياسين وكفر قاسم وحولا مروراً بصبرا وشاتيلا وصولاً إلى جنين وقانا والمنصوري وما تلاها.

إلى جانب المجازر والمذابح تمثّل الاغتيالات جزءاً عضوياً من سلوك الاحتلال حتى قبل قيام "دولته" الباطلة، فللعصابات الصهيونية تاريخ حافل في هذا المضمار. "إسرائيل" التي اغتالت غسان كنفاني وكمال ناصر وحسن سلامة وأبو جهاد وأبو أياد وأبو علي مصطفى والسيد عباس الموسوي والشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي وصالح العاروري وإسماعيل هنية وعشرات القادة والمقاومين، ليس غريباً عليها أن تغتال سيد المقاومة في لبنان وقائدها الذي أفنى عمره في مقارعتها، وساهم من موقعه القيادي الاستثنائي في هزيمتها وطردها من الأراضي اللبنانية المحتلة، وراكم قوة لا يُستهان بها، وصار رمزاً وأيقونة لمقاومي الاحتلال. ولعل هذه اللحظة، لحظة الاستشهاد لم تغب عن باله قطّ، بل كانت جلّ ما يرجوه ويتمنّاه، وقد كان له ما رجا وتمنّى. فهل من عاقل يخال أن قائداً تاريخياً كالسيد حسن نصر الله يموت طريح الفراش؟!

لو عدنا قليلاً إلى الوراء، وراجعنا سجل اغتيالات قادة المقاومة في لبنان وفلسطين وما تلاها من وقائع وأحداث لوجدنا أن تلك الجرائم أدت إلى عكس المرجو منها. إذ إن جذوة المقاومة كانت تزداد اشتعالاً وضراوة مصحوبة برغبة عارمة في الثأر والانتقام من عدو لا يراعي حرمة ولا يأبه لحياة الأبرياء، وينفّذ عملياته مهما أوقعت من ضحايا مدنيين حتى لو كانوا من الأطفال الرضّع أو الخُدَّج كما حدث في غزة.

في العام 1982 وفي خضم اجتياح إسرائيلي جارف، ومن رحم الهزيمة استطاعت ثلة من الشباب المقاومتين الوطنية والإسلامية طرد "الجيش" الإسرائيلي من بيروت، ولاحقاً من معظم الأراضي المحتلة إلى أن تحقّق التحرير الكامل (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا). لذا لا يعتقدنّ أحد أنّ حجم التضحيات والخسارات الهائلة، بما فيها استشهاد رمز تاريخي كالسيد حسن نصر الله وقادة المقاومة في لبنان وفلسطين سوف يطفئ جذوة المقاومة.

ما يؤكده التاريخ وتخبرنا إياه التجربة، خصوصاً ما حدث في العام  1982، وما تلاه من تصاعد لعمل المقاومة اللبنانية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، أن الإرادة الصلبة والعزيمة القوية تولدان من رحم اللحظات المفصلية والمصيرية، وما نعيشه اليوم هو لحظة حاسمة في تاريخ الصراع مع المحتل الإسرائيلي.

نشير إلى محطات سابقة مع العلم أن اللحظة الراهنة تختلف عن سابقاتها. رغم حجم التضحيات وجسامة الخسارات وفداحة الضربات، إلا أن صاحب الأرض يظلّ هو الأقوى، ومهما تمادى العالم في قلب الحقائق، وفي الانحياز للقاتل ضد المقتول، وللمحتل ضد ابن الأرض، ومهما تمادى في تزييف الوعي وطمس الحقيقة، فإن أبناء الأرض يعرفون أن هذه الأرض لهم، وأنها سوف تبقى لهم، ومهما بدا الأفق شاحباً أو مظلماً فإن الدماء التي سالت وتسيل تشقّ درباً واضحة وصريحة نحو حرية آتية لا محال.

الوطن باقٍ والاحتلال إلى زوال.

***

هذه الأرض لنا(*)

مهما أوجعتنا البلادُ

وعاندتنا السارية

نرفعُ الأكفَّ أشرعةً نحو الله

نُصَلّي الفجرَ جماعةً

نَصْلِي العدا ناراً ضارية

تعدو أرواحنا حرّةً حافية

لا وجعَ ينهشُ عزائمنا

لا وهنَ يصيب أفئدتنا

نثقبُ الجُدرَ الصلدةَ

وندحرجُ الصخرة القاسية

لا تقل كفاني

قُلْ ما قاله كنفاني:

"لك شيءٌ في هذا العالم فقم"...وقاتل

ابذر آمالك حقل سنابل،

اجعل كلامك شدوَ بلابل.

قُلْ للخوف خَفْ

ردِّدْ مع سميح

ومع رفاق المناجل والمعامل:

"أنا لا أحبُّك يا موتُ لكنني لا أخافك"

وخُذْ من درويشَ صلاته:

"على هذه الأرضِ ما يستحقُّ الحياة".

(*) من قصيدة الشاعر "نشيد الحُبّ والأمل".

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.