لماذا بقيت "تترات" مسلسلات سورية في الذاكرة؟
"يا روح لا تحزني".. هل تذكرون باقي هذه الجملة مع لحنها الخاص؟ لماذا نتذكّر بعض شارات المسلسلات السورية دون غيرها؟
مَنْ منّا لا يتذكَّر شارة مسلسل "صح النوم"، التي وضع لحنها عبد الفتاح سكّر، مُعتمداً على كَلِمتَي العنوان فقط، مع جُمَلٍ نغمية بسيطة، تحمل في طيَّاتها روح الفكاهة؟ وكم سيَبقى في الذاكرة تَتَرْ عمل "حارة القصر"، مع صوت حسين حمزة الفريد يُردِّد قصيدةً تتخللها بعض المقاطع الموسيقية لإبراهيم جودت، بما جعلنا نتماهى مع تلك الشارة وكأننا أحد سُكَّان تلك الحارة؟
وبالمثل، كيف ننسى ما قدَّمه إبراهيم جودت أيضاً في مقدمة حلقات مسلسل "أسعد الورّاق"، من تمازج الأصوات البشرية والآهات المديدة مع الإيقاع المتصاعد؟ أو كيف يمكن ألّا ننشدّ بكلِّ حواسنا إلى عظمة ما صنعه نوري اسكندر، في مسلسل "نساء بلا أجنحة"، من موسيقى تحمل الطابع السوري البحت.
هذه الأمثلة تؤكّد أنَّ شارات تلك الأعمال، والعديد غيرها، استطاعت الصمود بمرور الزمن، وبقي حضورها طازجاً في ذاكرة المشاهدين رغم مرور نحو 40 عاماً على بثّها، ما يُحيلنا إلى البحث عن أسباب تلك الديمومة، والاستيطان في الوجدان. هل يعود ذلك إلى قِلّة الأعمال الدرامية المُنتَجة في ذلك الزمن، وتفرّد التلفزيون السوري بعرضها بمعدَّل حلقةٍ واحدةٍ أسبوعياً؟ أم أنَّها استطاعت أن تكون عصيّةً على النسيان بسبب إبداع ملحنيها، واندغامهم بهواجس ما تريد تلك الدراما قوله؟ أم أنَّ الموضوع يتعلّق بتكرار عرض تلك الأعمال على القنوات المختلفة، على اعتبارها كلاسيكيات مؤسِّسة، وبواكير درامية من المهم الاطلاع عليها وعلى معظم تفاصيلها؟
حول أهمية أمثال تلك الشارت الدرامية، واحتفاظها بمكانتها في ذاكرة المشاهدين، أجرت "الميادين الثقافية" التحقيق التالي.
**
روح مغايرة
يقول الملحن سمير كويفاتي في حوارٍ خاصٍّ مع "الميادين الثقافية" إنَّ: "الاشتغال في الدراما عموماً كان يتمُّ بروحٍ مغايرةٍ عمّا يحصل الآن، وكان هناك أشخاصٌ مهمّومون وأصحاب فكرٍ يتمتعون بذهنية إبداعية متوقِّدة، لذا لم يتمّ الاعتماد في شارات الأعمال الدرامية التي عرضها التلفزيون السوري بدايةً على أغنيةٍ لشخص مشهور، لكي تترسّخ بأذهان المشاهدين".
ويُضيف أنَّ: "موسيقي العمل كان يقدّم مقترحه أمام مرجعية أساسية هي المخرج وحده، وفي كثير من الأحيان فإنه يقنع المخرج برؤيته، مهما بدت غير تقليدية، ومن ذلك ما اشتغله عبد الفتاح سكر وسهيل عرفة، المتشبِّعان بالجملة الموسيقية الشرقية، وأيضاً نوري اسكندر صاحب الخط المُغاير، الذي اشتغل موسيقى تصويرية معبِّرة، والأهم أنها سورية بحتة، داحضاً كل ما يُقال عن أنَّ هوية موسيقانا ضائعة، وهناك أيضاً إبراهيم جودت بغرائبية نظرته وفهمه العميق للدراما".
ويتساءل الملحّن السوري: "لماذا لا نتذكّر إلّا بعض الشارات القديمة من دون غيرها؟ لماذا بقيت هذه في الذاكرة ولم تبقَ تلك؟ هل استطاعت شارة "صح النوم" الصمود في الزمن من بساطتها وسهولتها وسذاجتها؟ على العكس، هي ليست سهلة، فعندما تدخل على مكان فيه ناس من البساطة بحيث يكاد يكونون متخلفين عقلياً، وليس هناك غير شخصٍ واحدٍ استطاع أن يتفاهم معهم، فهل يكون متخلفاً عقلياً؟ طبعاً لا، إنما هو يملك من الذكاء والوعي ما مكّنه من التفاهم معهم".
ويوضح كويفاتي أنَّ "هذا ما فعله عبد الفتاح سكر، إذ اشتغل في مكانٍ لا يستطيع الكثيرون العمل فيه، هذه ليست بساطة وإنما إعجاز مكوَّن من 16 "ميزور" (جملة موسيقية صغيرة) تتم إعادتهم".
ويتابع: "بالمقابل، فإنَّ شارة "أسعد الورّاق" التي اعتمدت على تيمة عجيبة من الأصوات البشرية، ظلّت في الذاكرة ليس لغرابتها، وإنّما للتفرّد الذي حقَّقه إبراهيم جودت، من دون الرجوع إلى المخرج الذي كان من الممكن أن يكون رأيه مخطئاً فيها، فضلاً عن استخدامه لـ"الكريشيندو"، وهو مصطلح يعني "تصاعدي"، بحيث يتسارع "التيمبو" ليحقق فكرة المسلسل، وتصاعدها الدرامي".
ويشير كويفاتي كذلك إلى مسلسل "هجرة القلوب إلى القلوب"، الذي وضع له الموسيقى فاهيه دمرجيان، وهو عازف أورغ يعزف مع فرقة "التايغر" داخل الأوتيلات، وقد "تمكّن من صياغة شيءٍ جديدٍ وقابلٍ للعيش في الزمن، وهو من ألّف موسيقى تصويرية لبرنامج الأطفال "حكايات من قصص الشعوب"، ولكثيرٍ من المسلسلات".
ويسأل كويفاتي أيضاً في محاولةٍ للفهم: "لكن لماذا تترَي مسلسلَي "مقالب غوار" و"حمام الهنا" لم يلقيا الاهتمام الموسيقي بشاراتهم؟ ففي الأول تم الاستعانة بموسيقى رون غودوين لأوركسترا تعزف ألحاناً شرقية، إلى جانب مختارات من الموسيقى الكلاسيكية، بينما استفادوا في الثاني من لحن "على بلد المحبوب" لمحمد عبد الوهاب".
ويقول مؤلف أغنية "كذبك حلو"، التي غنّتها زوجته الراحلة ميادة بسيليس: "عندي تحفّظ شديد على شارات تمَّ تأليفها في زمن تحوّل الإنتاج الدرامي إلى التجاري، ولا أرى أبداً أنَّ ما يحصل اليوم في الشارات هو أهمّ مما قُدِّم سابقاً، على عكس بعض الآراء، وأتحدى أحداً أن يغامر بشارة كشارة مسلسل "أسعد الورّاق"".
ويشير كويفاتي إلى وجود "بعض الطفرات، ففي التسعينيات مثلاً ظهر شاب ذكي وموهوب، هو طارق الناصر، الذي صنع تيمات موسيقية جميلة لمسلسلات منها "نهاية رجل شجاع"، و"الجوارح"، وأنا على ثقة أنَّ هذا الشاب لو كان في زمن السبعينيات والثمانينيات لاشتغل بمزاجٍ آخر، فيه نفس الجملة اللحنية التي سيحبها الناس، كما فعل عبد الفتاح سكر مثلاً".
ويردف كويفاتي أنَّ "هناك شارات جديدة واضحٌ من خلالها أنَّ الموسيقي مهمومٌ بصناعة شيءٍ. عندما أتاني مسلسل "أبناء القهر" مثلاً، أخبرتُ الشاعر سمير طحان أنَّ العمل فيه 3 شباب تربّى كل واحدٍ منهم ضمن بيئة مختلفة، واجتمعوا على الشر الذي ولّده القهر الدفين في داخلهم، نتيجة العوز والفقر... حينها قال لي طحان: "هذا لا يكفي"، لذا طلب أن أقرأ له السيناريو كاملاً لأنّه كفيف، وبعدها كتب "أصل السبب مني.. أنا بالوادي جريت/ والعود ال نَبَتْ مني.. أنا بناره انكويت/ بيكفي ها الجرح تجريح.. من حقه المجروح يصيح..." وهذه شارة استمرت 20 عاماً، ولا أقلل من أهمية أحد، لكن بقاء هذه الشارة ليس من براعة المخرج، ولا المؤلف، بل من براعة سمير طحان، ولا أريد القول بأنني استطعت أن أضع له لحناً مناسباً، مع العلم أنّهم كانوا ضدّي، لأنني وضعت صوت إنسان يصرخ من القهر".
ويتّهم كويفاتي الكثير من المخرجين بأنّهم إما تَهُمُّهُم الشهرة أو المال، ولا يبحثون عما يُظهر الشغف في عناصر المسلسل المختلفة، ويوضح كيف يتم الترويج للشارة المؤلفة من أغنية لمطرب مشهور، حتى قبل المسلسل، وكيف يتم تصوير المطرب وهو يسجلها والموسيقيين وراء الزجاج مع أوراق النوتة، وكأنهم يقودون الحملة، قائلاً: "ذلك مسخرة، فمن المفروض أن يُبَثّ المسلسل والناس يسمعون الشارة ليس لينطربوا، وإنّما ليتحضّروا نفسياً وروحياً لما سيشاهدونه، وليعرفوا روح العمل. وليس ضرورياً أن تكون الشارة أغنية يمكن أن تشارك ضمن حفل يانصيب، أو تُغنّى في مهرجان الزهور، ومن المعيب أن يبقى الحديث بين المخرج والمنتج حول عدد المشاهدات التي حصدتها الشارة على مواقع التواصل الاجتماعي".
ويستذكر كويفاتي إحدى المرات التي ألّف فيها شارة مسلسل، واختلف مع الشركة المنتجة لأنه عندما أَسْمَعَهُم تصوّره الأوّلي بصوتٍ عادي، قبل أن يغنيها مطرب، كانت أول ملاحظة سمعها منهم أنَّ "هذه الشارة لا تُرقِّص، وإيقاعها بطيء. نحن نريد موسيقى يتسابق عليها الناس ليضعوها رنة في موبايلاتهم".
قيمة فنية عالية
بدوره، يوضح الموسيقي طاهر مامللي، في تصريحه لـ"الميادين الثقافية" أنّه عندما يتابع الجمهور المسلسل التلفزيوني، فإنه يتابع كل عناصره الفنية وأولها الشارة الموسيقية، التي يبدأ بها العمل وتعتبر بمثابة التمهيد للحضور، وتتكرر في حلقات المسلسل مع البداية والنهاية، لتحفر في ذاكرة المتلقّي إن كانت تحمل مقوِّمات الخلود، مع أنَّ "ذاكرة التلفزيون قصيرة"، كما يُقال.
يقول مامللي إنَّ: "بعض الشارات نجحت بما تحمله من قيمة فنية في البقاء في ذاكرة المتلقّي، كما سقط الكثير منها في طي النسيان، وذلك لعدة عوامل منها: نجاح المسلسل بحدِّ ذاته، وبالتالي يتحقق عنصر المتابعة وتكرار البث على عدة قنوات، أما فشل المسلسل فيعني فشل جميع عناصره الفنية، بما فيهم الشارة الموسيقية حتى لو كانت عظيمة فنياً. وبالتوازي اعتمد بعض المؤلفين الموسيقيين على تحميل الشارات ملفات موسيقية ذات قيمة فنية عالية، بعيداً عن فكرة السوق والاستهلاك والترويج. وحتى الشارة المُغنَّاة لم تكن تحمل طابع الأغنية الهابطة لتصل إلى المتلقي. أي لم يكن الاعتماد على المغني النجم للترويج للعمل من خلال أغاني السوق الرائجة، والتي قد تصلح لتكون شارة أي عمل، بِغضّ النظر عن موضوع المسلسل أو نوعه، بل كان استقدام أي نجم لغناء الشارة يخضع للشرط الفني فقط".
ويرى مامللي أنَّ تدخّل رأس المال، المتمثّل في شركات الإنتاج، في تفاصيل العمل الفني، وفرض رأيه التجاري بعيداً عن القيمة الفنية، ساهم في سقوط بعض الشارات، في ظِلِّ غياب المنتج الفني الحقيقي بشكلٍ عام، إلى جانب انحدار المستوى الفني للأعمال الدرامية أثناء الحرب في سوريا، ما أدّى إلى تراجع مستوى جميع العناصر الفنية، وأولها الملفات الموسيقية، فضلاً عن أنَّ تراجع مستوى الذائقة الفنية الجمعية، عالمياً وعربياً ومحلياً، ساهم أيضاً في صعوبة تخليد الأعمال الموسيقية الدرامية ذات القيمة الفنية العالية، من ناحية، واستسهال العمل من قِبل بعض المؤلفين الموسيقين، واعتمادهم على "الوجبات الفنية السريعة" أيضاً، مما ساهم في خروج تلك الملفات عن الذكر والذاكرة، من ناحية أخرى.
اختراق حاجز الزمن
أما الناقد الموسيقي جمال سامي عوّاد فيبيِّن في حديثه لـ"الميادين الثقافية"، أنَّ "جزءاً من الشارات الموسيقية التي أنتجت حديثاً ستحظى بفرصة اختراق حاجز الزمن، وستصل للأجيال القادمة على أنها شارات عاشت واستمرت بسبب قيمتها الجمالية العالية، كما حدث تماماً مع بعض الشارات الموسيقية القديمة أيضاً. وهذا ما يجعلنا ملزمين بعدم الاعتماد كلياً على معيار (قديم – جديد) في تصنيف هذه الأعمال. فنحن مضطرين إلى تقييم أيِّ عملٍ بالنظر إلى معطيات وظروف إنتاجه الخاصة".
ويضيف: "لكن بالرغم من ذلك، فإننا لا نستطيع تجاهل أن الفرصة التي حظيت بها الأعمال القديمة في تقديم قيمة جمالية عالية، هي أكبر من الفرصة المتوفرة في عصرنا هذا، وهذا لا علاقة له بالمتغيرات الطبيعية للمفاهيم الجمالية، بل بالتشويه المقصود للذائقة الفنية في العالم بشكلٍ عام، وفي عالمنا العربي بشكلٍ خاص. كما لعبت تقنيات الإنتاج الموسيقي دوراً كبيراً في عصرنا هذا، حيث أصبح بإمكان أي موسيقي غير موهوب أن يقوم بإنتاج موسيقي ضخم، ويستحضر مئات العازفين والمغنين إلى جهاز الكمبيوتر، مما يشوش على ذائقة المستمع العادي، ويوحي بقدراتٍ إبداعيةٍ عند الملحن غير موجودة في الواقع".
يتابع عواد: "بعبارة مختصرة، يمكن القول إنَّ الفرق بين القديم والجديد هو مثل الفرق بين التحف اليدوية الصنع والتحف الآلية الصنع. وهناك أيضاً فرقٌ واضحٌ في طريقة العمل، فالملحن كان أكثر قرباً واطلاعاً على نصوص الأعمال الدرامية، ما جعل شارته أكثر قرباً وملاءمة، والنتيجة هي حصولنا على عملٍ فريدٍ وجميلٍ في ذاته من جهة، وجميل بسبب نجاح العمل الدرامي نفسه من جهة أخرى. فلا يمكن لشارة مهما كانت جميلة أن تنجح بدون نجاح العمل الدرامي نفسه. و في النهاية، لا بُدَّ لنا من الانتباه إلى عنصرٍ شديد الأهمية، وهو أنَّ الشارات التي نجحت في الماضي جاءت من فترةٍ كان فيها الإحساس أوضح بالهوية، بينما نعاني اليوم هبوطاً عنيفاً في المناخ الفكري والثقافي، وفوضى الهويات الثقافية في العالم كله، وهو ما بعثر الجهود، وشتت الجمهور والموسيقيين، فصار العالم مسرحاً مكتظّاً بالجمهور، يغنّي فيه عدة مطربين، كلٌّ على ليلاه، في الوقت نفسه".