كيف يحاصرنا الهاتف الخليوي؟
يقول بروس شناير: في كلّ صباح تضع فيه الهاتف الخَلَوي في جيْبك، أنتَ تعْقد صفقة غير مُعلنة تقول: "أريد أن أتبادل المكالمات بواسطة هاتفي الخَلَوي؛ وبالمقابل، أسمح للشركة التي تُعطيني خدمات الاتصال أن تعرف أمكنة وجودي".
تتضاعف أهمية المعلومات في كلّ يوم مع التطوير المتسارع للتكنولوجيا الخاصة بها، أو بالذكاء الاصطناعي والرقائق الإلكترونية، في سياق الحرب المفتوحة بين القوى العظمى والدول الصاعدة للاستحواذ على مُقوّمات السيطرة والهيمنة على الموارد الحيويّة والأسواق في العالم. وفي هذا الإطار، يُعدّ الهاتف الخَلَوي إحدى أبرز الأدوات التي توفّر المعلومات لأي دولة أو جهة تريد تحصيل أكبر قَدَرٍ من تلك المعلومات، مع اختلاف في الغايات والدوافع والمبرّرات.
يقول بروس شناير (رائد عِلْم التشفير الحديث) في مدخل كتابه: في كلّ صباح تضع فيه الهاتف الخَلَوي في جيْبك، أنتَ تعْقد صفقة غير مُعلنة تقول: "أريد أن أتبادل المكالمات بواسطة هاتفي الخَلَوي؛ وبالمقابل، أسمح للشركة التي تُعطيني خدمات الاتصال أن تعرف أمكنة وجودي بدقّة في كل الأوقات". لا ترِد تلك المقايضة في أي عقد، لكنها متأصّلة في طريقة عمل خدمات الخَلَوي..
الهاتف الخَلَوي حقيقةً ابتكار عظيم؛ لكنّه لا يعمل من دون أن تعرف شركات الخَلَوي مكان وجودك دوماً، ما يعني أنها تُبقيك تحت رقابتها المستمرّة.
ويتابع: المعلومات عن أمكنة وجودك قَيّمة، والكلّ يسعى للوصول إليها. الشرطة تريدها؛ إذ يُساعد تحليل المعلومات المكانيّة في التحقيقات الجنائية بطرق متنوّعة.. وتستعمل الحكومات أيضاً المعلومات عيْنها من أجل الترهيب والسيطرة الاجتماعية.. وهناك صناعة كاملة مُكرّسة للحصول على معلومات تتعقّب أمكنة وجودك على مدار الساعة، وفي الوقت الحقيقي الجاري.
وقد صارت "البيانات المكانيّة" قَيّمة جداً، إلى حدّ أنّ شركات الخَلَوي باتت تبيعها إلى سماسرة المعلومات، الذين يبيعونها بدورهم إلى كلّ راغب في الدفع مقابل الحصول عليها. وتتخصّص شركات ك "سينس نتوركس" (Sense Networks) في صنع "بروفايل" شخصي عن كلٍ منّا، استناداً إلى ذلك النوع من المعلومات.
وليست شركات الخَلَوي المصدر الوحيد للمعلومات عن الهواتف؛ إذ تبيع شركة "فيرنت" (verint) نُظُماً لتعقّب الخَلَوي إلى شركات وحكومات في العالم كلّه. وعلى موقعها الشبكي، تصف الشركة نفسها بأنها "رائد عالمي في حلول الذكاء العملاني لضمان الحدّ الأقصى من مشاركة العملاء، والأمن الاستخباري، ومنع الاحتيال والمخاطر وفرْض التجاوب والإذعان"، مع زبائن لها في "ما يزيد على عشرة آلاف منظّمة في أكثر من 180 بلداً".
كذلك، تستعمل وكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة (US National Security Agency)، ونظيرتها البريطانية، "مركز قيادة الاتصالات الحكومية"(Government Communication Headquarters)، المعلومات المكانيّة لتتبّع عامّة الناس. وتجْمع وكالة الأمن القومي البيانات المكانيّة للهواتف الخَلَوية من مصادر متنوّعة: أبراج الخَلَوي التي تتّصل بها الهواتف، وشبكات الـ "واي-فاي" التي تدخل إليها، ومواقع الأمكنة التي تُحدّدها تقنيّة الـ "جي.بي.أس" بواسطة تطبيقات الإنترنت.
وتحتوي اثنتان من قواعد البيانات في وكالة الأمن القومي، تحملان اسمين حركيين هما: "هابي فووت"(HAPPY FOOT) و"فاس- سي آي إيه"(FAS-CIA)، معلومات شاملة عن مواقع الهواتف عالمياً. وتستخدم الوكالة قواعد بياناتها لتتبّع تحرّكات الناس، ورصد من يلتقون بأشخاص تهتم بأمرهم؛ وكذلك توجيه أهداف الطائرات من دون طيّار ("درون"/Drone).
يُقال أيضاً إن وكالة الأمن القومي تستطيع تَتبّع الهواتف الخَلَوية حتى حين تكون مُغلقة.
لكن، يلفت المؤلّف إلى أن القضية أوسع بكثير من جمْع البيانات المكانيّة من مصدر واحد (الجهاز الخَلَوي). فالحواسيب التي نتعامل معها تُنتج على الدوام معلومات شخصية حميمة؛ وتتضمّن ما نقرأه ونشاهده ونستمع إليه؛ وتُغطّي في النهاية ما نُفكّر فيه!
ويكشف شناير أن التكنولوجيا الرقميّة باتت تُعطي الحكومات والشركات قدرات جبّارة على الرقابة العامة. والرقابة العامة خطيرة؛ فهي تُمكّن التمييز استناداً إلى أي معايير تقريباً: العِرق والدين والطبقة والمعتقدات السياسية. ويجري استخدام تلك الرقابة في السيطرة على ما نراه، وما نستطيع فعله، وبالنتيجة على ما نقوله.
كما يجري استخدام تلك الرقابة من دون منْح المواطنين أي حماية أو قدرة حقيقية على الاختيار أو الرفض، ومن دون وجود ضوابط وتوازنات كافية.
في فصول الكتاب التي وضعها المؤلّف ضمن ثلاثة أجزاء، وردت معطيات كثيرة حول مصادر المعلومات ووسائل جمْعها وتصنيفها واستفادة الحكومات منها، مع تحليل لأبعادها السياسية والأمنية والتجارية؛ وصولاً إلى تقديم "حلول" للحكومات والشركات والأفراد في مواجهة ثورة المعلومات المذهلة ومخاطرها الجمّة.
يصف الجزء الأوّل مجتمع الرقابة الذي نعيش فيه. فهو يُدقّق في أنواع المعلومات الشخصية التي نولّدها أثناء حياتنا. ولا يقتصر الأمر على "البيانات المكانيّة" من الهاتف الخَلَوي؛ وإنما هناك أيضاً المعلومات عن مكالماتنا الهاتفية العادية، وبريدنا الإلكتروني، ورسائلنا النصيّة القصيرة؛ إضافة إلى صفحات الإنترنت التي نقرأها، والمعلومات عن معاملاتنا المالية، وأشياء كثيرة أخرى.
كما يُظهر المؤلّف كيف تُستعمل كلّ تلك المعلومات لأغراض الرقابة؛ وكيف تحدث في كلّ مكان، بصورة أوتوماتيكية، من دون تدخّل بشري، وبعيداً عن الأعين. إنها الرقابة العامة كليّة القدرة.
ويستطرد: من السهل التركيز على طريقة جمْع المعلومات من قِبَل الحكومات والشركات؛ لكن ذلك يُعطي صورة مُشوّهة. تكمن القصّة الحقيقية في كيفيّة معالجة تلك السيول من البيانات، وربطها وتحليلها. وليس معلومات عن شخص بعيْنه، بل معلومات عن الجميع. الرقابة الشاملة تختلف جذرياً عن تجميع كثير من معلومات الرقابة الفردية، وتحصل على مدىً لا نَظيرَ له من قبْل.
ويكشف شناير أن بيانات الرقابة تُجمع بشكل رئيس من شركات نتعامل معها كزبائن أو مُستَخدمين. لقد نشأت صناعة سمسرة معلومات كاملة تتركّز حول التكسّب من بياناتنا، وتُباع فيها معلوماتنا الشخصية وتُشترى من دون معرفتنا وبلا إذنٍ منّا. ويقود ذلك حالياً نموذج جديد من الحوسبة، قوامه تجميع بياناتنا في "سحابة" يجري الدخول إليها بواسطة أجهزة ك "آي فون"، هي أيضاً تبقى تحت السيطرة اللصيقة للمُصنّع. وبالنتيجة، صارت الشركات تستطيع الوصول إلى معلوماتنا الأكثر حميميّة والسيطرة عليها بشكل غير مسبوق.
وهنا، تبرز أهمية قضية الرقابة الحكومية، حيث تفرض كلّ حكومات العالم رقابة على مواطنيها، وتقتحم حواسيبهم، محلياً ودولياً. ترغب الحكومات بالتجسّس على الجميع للوصول إلى المجرمين والإرهابيين، وكذلك - تبعاً لنوعيّة الحكومة - الناشطين السياسيين والمنشقّين وناشطي البيئة والمُدافعين عن حقوق المستهلك والمفكّرين الأحرار. ويُركّز المؤلّف بشكل رئيس على "وكالة الأمن القومي" لأنها الوكالة الحكومية السريّة التي بتنا نعرفها أكثر من غيرها، بسبب تسرّب وثائق إدوارد سنودن.
تتساوى الحكومات والشركات في امتلاك شهيّة لا تشبع لمعلوماتنا، والطرفان يعملان معاً، وعبر وسائل متعدّدة، في إطار ما سمّاه المؤلّف "شراكة القطاعين العام -الخاص في الرقابة"؛ وذلك تحالف عميق الغور. إنه السبب الرئيس في جعْل الرقابة واسعة الانتشار، وإعاقتها محاولات إصلاح النظام.
وكمثال، فإن الرقابة تشكّل نموذج الأعمال التجارية على الإنترنت، وذلك لسببين رئيسين: ميْل الناس إلى المجّاني، وانجذابهم أيضاً إلى ما هو مُريح. على الرغم من ذلك، تبقى حقيقة أن الناس ليس لديهم خيار فعلي؛ وتتمثّل الحال في أنه إما الرقابة أو عدم الحصول على شيء؛ ولكون الرقابة غير منظورة، وهو أمر مُريح، فليس عليك التفكير فيها!
في الجزء الثاني من كتابه، يتناول المؤلّف الرقابة العامة الشاملة، مُبيّناً الأضرار التي تَنْجم عنها، على الرغم من الثقة الممنوحة من المواطنين للشركات التي يتعاملون معها، كما للحكومات التي يعيشون في ظلّها. وفي السياق، يُناقِش المؤلّف الأضرار التي تنجم عن رقابة الحكومة. فقد بيّن التاريخ تكراراً الأضرار المتأتّية من السماح للحكومة بممارسة رقابة عامة مُنفلتة على مواطنيها؛ وتشمل قائمة الأضرار المحتملة السيطرة على المواطنين والتمييز بينهم، والآثار المُرعبة على حريّة التعبير والتفكير، والإساءة الحتميّة لاستخدام السلطة، وضياع الحريّة والديمقراطية. تملك الإنترنت قدرة كامنة في أن تكون مُحرّكاً ضخماً للحريّة والتحرّر عالمياً؛ لكنّنا نُبدّد تلك الإمكانية بالسماح للحكومات بممارسة رقابة عالمية شاملة.
ومن ثمّ، يلفت شناير إلى الأضرار الناجمة عن انفلات رقابة الشركات؛ إذ باتت الشركات حاضراً تُحكِم سيطرتها على "أمكنة" تَجَمّعنا على الإنترنت، وتُنقّب في المعلومات التي نتركها هناك، كي تُوظّفها لمصلحتها. وبسماحنا للشركات بأن تَعْرف كلّ شيء عنّا، فإننا نُتيح لها أن تُصنّفنا وتَتلاعب بنا. يجري ذلك التلاعب في الخفاء ومن دون قوانين، وتزداد فعاليته مع تطوّر التقنيّة.
كذلك، تؤدّي الرقابة الشاملة إلى أنواع أخرى من الأضرار، وخاصة في المجال الاقتصادي، المرتبط بقطاع الأعمال الأميركيّ تحديداً؛ وهذه الأضرار تحدث عندما يُحاول مواطنو دول مختلفة حماية أنفسهم من رقابة وكالة الأمن القومي وحلفائها. فالإنترنت تُمثّل منصّة عالمية؛ وسوف تتسبّب المحاولات التي تبذلها بلدان، كألمانيا والبرازيل، لبناء جدران وطنية حول معلوماتها، بأضرار مُكلِفة للشركات التي تُتيح للحكومات أن تُمارس الرقابة، خصوصاً الشركات الأميركيّة.
كما يتطرّق المؤلّف إلى الأضرار التي يتسبّب بها ضياع الخصوصية. إن أنصار الرقابة - من وكالة الاستخبارات الألمانية الشرقية التي اشتُهرت باسم ستازي (Stasi)، إلى ديكتاتور تشيلي السابق الجنرال أوغستو بينوشيه، إلى مدير "غوغل" إريك شميدت - اتّكأوا دوماً على القول المأثور: "إذا لم يكن لديك ما تُخبّئه، فليس لديك ما تخشاه". يجسّد ذلك القول مفهوماً ضيّقاً بشكل خطير لمفهوم الخصوصية.
ويوضح شناير: إنّ الخصوصية هي حاجة إنسانية أساس، وهي مركزيّة لقدرتنا على التحكّم بالطريقة التي نتفاعل بها مع العالم. والحرمان من الخصوصية يحطّ من إنسانية البشر بشكل أساسي؛ ويتساوى في ذلك أن يُلاحقنا مُخبر شرطة سرّي، أو أن ترصد جداول حسابات ("خوارزميّات"/ Algorithms) في الكمبيوتر كلّ تَحرّك نأتي به.
أيضاً، هناك أضرار تُلحقها الرقابة بالأمن. غالباً ما تُصوّر الرقابة الحكومية العامة باعتبارها مكسباً أمنياً، وشيئاً يحمينا من الإرهاب. على الرغم من ذلك، لم يقم دليل فعلي على نجاحات حقيقية للرقابة الشاملة حيال الإرهاب، في مقابل وجود أدلّة مُهمّة على حدوث أضرار بسببها. الحال أنّ التمكّن من ممارسة رقابة شاملة يفرض الإبقاء على الإنترنت غير آمنة، ما يجعلنا جميعاً أقل أمْناً تجاه الحكومات الأخرى المُنافسة، وتجاه المُجرمين وقراصنة الحواسيب ("هاكرز").
في الختام، يرسم المؤلّف في الجزء الثالث من الكتاب ما يجب علينا فعله كي نحمي أنفسنا من رقابة الحكومات والشركات. إنّ المعالجات مُعقّدة بقدر القضايا المتّصلة بالرقابة الشاملة، وتتطلّب تنبّهاً جيّداً للتفاصيل. وهنا، يعرض المؤلّف لعدّة مبادئ عامة تُوجّه التفكير في تلك المسألة، وتوصيات تقنيّة محدّدة وأخرى متعلقة بالسياسات (المطلوبة) تجاه الرقابة.
كما يُقدّم، فضلاً عن ما يمكن لكلّ منّا فعله فردياً، بعض النصائح التقنيّة المفيدة عملياً، ومقترحات لما يمكن فعله سياسياً. فنحن نعيش في عالَمٍ تستطيع التقنيّة فيه أن تَتغلّب على السياسة، كما يمكن للسياسة أن تَتغلّب على التقنيّة؛ لكنّنا نحتاج أن يعمل كلاهما معاً.
وفي السياق، يدعو شناير إلى التفكير في ما يمكن فعله بصورة جماعيّة كمجتمع. فالتوصيات المقترحة تتطلّب إجراء نقْلة في طريقة فهْمنا للرقابة وأهمية الخصوصية؛ لأننا لن نتوصّل إلى إجراء إصلاحات قانونية مهمّة من دون أن يُطالب المجتمع بها. هناك فائدة كبرى من تجميع معلوماتنا لغايات البحث الطبّي، وتطوير التعليم، ووظائف أخرى مُفيدة للمجتمع. يجب أن نعرف كيف نستفيد من ذلك جماعياً، مع تقليص الأضرار. هذه هي القضية الأساس التي يرتكز عليها كلّ شيء في هذا الكتاب.
أخيراً، يوضح المؤلّف أنه "ليس مُناهضاً للتكنولوجيا، وليس الكتاب مُناهضاً لها أيضاً. لقد جَلَبت الإنترنت، والعصر المعلوماتي عموماً، منافع ضخمة للمجتمع؛ وأعتقد أنهما سيستمرّان في ذلك. لستُ مُناهضاً للرقابة. لقد ساهمت المنافع المتأتّية من معرفة الكومبيوترات لما نفعله في إحداث تحوّل في الحياة بأسْرها. أحدثت الرقابة ثورة في المُنتجات والخدمات التقليدية، وأطلقت أنواعاً جديدة كلّياً من التجارة، وصارت كذلك أداة لا تُقدّر بثمن في دعم القانون وإنفاذه. لكن(تبقى) مخاطر الرقابة حقيقية، ولا نتحدّث عنها بصورة كافية".
"إنّ ردّة فعلنا على هذه الرقابة الزاحفة سلبيّة عموماً؛ فنحن لا نُفكّر في الصفقات التي نعقدها، لأن أحداً لم يضعها أمام أعيننا بوضوح بتلك الصيغة. تحدث التغيّرات التقنيّة ونتقبّل معظمها، ويصعب إلقاء اللوم علينا؛ فالتغيّرات تحدث بسرعة فائقة إلى حد أننا لم نُقيّم حقاً تأثيراتها أو نوازن عواقبها. هكذا انتهينا إلى العيش في مجتمع الرقابة الذي تسلّل خفية إلينا".
ولذلك، يدعو شناير إلى البدء "بإعادة التفاوض حول الصفقات التي نعقدها بمعلوماتنا. علينا أن نكون فاعلين في طُرُق تعاملنا مع التقنيّات الجديدة؛ وعلينا التفكير في ما نرغب أن تكون عليه بُنيتنا التحتيّة تقنياً، وما القِيم التي نرغب أن تُجسّدها. علينا أن نوازن أهمية معلوماتنا للمجتمع بطابعها الشخصي؛ وعلينا أن نتفحّص مخاوفنا، ونُقرّر بكم من خصوصيّتنا نحن مُستعدّون للتضحية مقابل راحتنا. علينا أن نتفهّم الأضرار العديدة للرقابة المُفرطة".