أكثر المعادن إغراء.. لماذا يتنافس العالم على الذهب؟
يربط الكتاب في أكثر من موضع بين التنقيب عن الذهب والحملات العسكرية ذات الطابع الديني.
إن العالم ممتلئ بالذهب، هذا ما خلص إليه ماثيو هارت في كتابه "الذهب.. التنافس على أكثر معادن العالم إغراءً"، لكن وراء هذه الخلاصة دلائل كثيرة على حالة السعار الذي نتعامل به مع المعدن الأصفر، ورغم أن كمية المعروض من الذهب بلغ مستويات غير مسبوقة فإننا نشتري الذهب ثم نبيعه ثم نشتريه مرة أخرى، لدرجة أن أعضاء سوق المعادن النفيسة في لندن في العام 2011 تداولوا في ثلاثة أشهر فقط كمية من الذهب تعادل ما تمّ اكتشافه على مرّ التاريخ.
في الكتاب الصادر عن سلسلة عالم المعرفة ستكتشف أنه من الصعب إيجاز قصص ومسارات الكتاب، الذي في ثلاثمئة صفحة من القطع المتوسط، عن علاقة الذهب بقصص عمال المناجم والقاتلين المأجورين وجرائم الذهب، وعلاقات المعدن الأصفر بالتاريخ والجغرافيا وعالم الجريمة وغير ذلك، لكنني حاولت ذلك.
عبر اثني عشر مكاناً امتلأت كلّها بقصص الذهب الذي يحكم العالم البشري، ستنتهي رحلة هارت إلى تحكم دولار أميركا في اقتصاد العالم بدلاً من الذهب، وفي أثنائها يتجوّل هارت من منجم لينغلونغ الأسطوري في الصين إلى منجم مبونينغ في عاصمة جنوب أفريقيا، أعمق حفرة من صنع الإنسان على وجه الأرض، يكدّ في جوفه الرجال على بعد ثلاثة أميال عن سطح الأرض، باحثين عن المعدن الذي أشقى الإنسان منذ ستة آلاف عام.
الذهب المقدّس والمنطق الديني
يربط الكتاب الذي صدر بترجمة محمد مجد الدين باكير، بين التنقيب عن الذهب والحملات العسكرية ذات الطابع الديني في أكثر من موضع في الكتاب، فكانت شرارة تلك الأحداث هي حركة الغزو النشيطة في القرن السادس عشر، حينما بدأت السفن الإسبانية تتقاطر إلى العالم الجديد بحثاً عن الذهب والفضة، لرفد الاقتصاد الإسباني. وبدأ الغزو الإسباني لأميركا الجنوبية بقيادة بيزارو وحفنة من الجنود الإسبان المتعطّشين إلى الذهب.
ونجحت تلك العصبة القليلة البالغة 168 جندياً، والمسلحة بفولاذ طليطلة وبعشرات الأحصنة، في تقويض إمبراطورية كان جيشها يعد 80 ألفاً من المقاتلين الأشداء وانتصر الجشع وهيمنت الوحشية، وبدأت عملية محو الإرث الثقافي والفني لشعب المايا، فتلاشى نتاج آلاف السنين من الأعمال الفنية في أفران الصهر، وتحوّلت حضارة برمّتها إلى نقد، وتدفّق نهر من الذهب نحو أوروبا.
ولم تكن الحملات الحربية ذات الصبغة الدينية بمعزل عن المعدن اللامع، فلم يكن إدخال الناس في دين الرب الذريعة الوحيدة لحملات الإسبان على الأميركيتين؛ فقد كتب كريستوفر كولومبس عندما شرع في رحلته، إلى العاملين اللذين موّلا حملته أنه سيسعى إلى أن تعتنق شعوب كثيرة ديانتنا المقدّسة، لكنه لم يغفل ذكر الذهب، والعجيب أنه قد أشار إليه 114 مرة مقابل الإشارة إلى الرب 26 مرة.
ومن قبل ذلك كان الذهب هو المعدن المستخدم في تقديس الإله، وتروي لوحة المذبح الذهبية في كاتدرائية إشبيلية، مشهداً استغرق إنجازه أكثر من ثمانين عاماً، ويعلو صليب ذهبي تاج القديس إدوارد في برج لندن؛ حيث جسّد الصليب في ذلك كله الحق الإلهي الذي كان الملك يحكم بموجبه.
الصين والذهب: أن تأتي متأخّراً...
والصين، كما يذكر المؤلف، كان عليها أولاً أن تطوّع عداء الأيديولوجيا الشيوعية المتأصّل لهذه المادة (الذهب) التي تعتبر الأساس للثروة الشخصية.
لقد تغيّرت الآمال والأحوال المادية بفعل التحوّلات التي طرأت على الدولة الصينية، والتي أدت إلى تغيّر موقفها من التنقيب عن الذهب، بعد أن تخلّصت من هواجس تهديد الذهب للقيم الشيوعية المثلى، وتمثّل ذلك كله في وصول الصين إلى اقتناعات تعكسها احتياطياتها المتنامية من سبائك الذهب، لدرجة أنها في العام 2007 استطاعت أن تزيح جنوب أفريقيا عن عرش أكثر دول العالم إنتاجاً للذهب.
أميركا والذهب والسيطرة على العالم
في القرن التاسع عشر اندلعت أحداث ما يعرف بفورة الذهب (أيضاً حمى الذهب) في كاليفورنيا ما بين العامين 1848 و1855، وبدأت جموع الأميركيين الآتين من دول العالم الأخرى بالتهافت على الغرب الأميركي سعياً وراء الذهب، بعد اكتشاف جيمس مارشال الذهب في قيعان بعض الأنهار بكاليفورنيا، استقل آلاف الناس القطارات والعربات والسفن، وانتقل بعضهم سيراً على الأقدام، طمعاً في الغنى السريع.
وينتقل الكتاب في سرديته إلى فورة ذهب كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية، في القرن نفسه الذي شهد ولادة ما يُعرف بمعيار الذهب. ويستقرّ الذهب في صلب النظام النقدي العالمي، وتبدأ حقبة من التوسّع الاقتصادي، بيد أنّ مثالب معيار الذهب العظيمة تسرّع عجلة الأحداث.
لكن يبقى المشهد الأهم الذي يتوقّف عنده الكتاب هو مشهد اجتماع 730 عضواً من أعضاء الوفود الذين حضروا إلى بريتون وودز ليوافقوا على تشكيل عالم اقتصادي جديد تحكمه أميركا بشكل واضح وصريح، ويمثّل فيه الدولار اللاعب الأهم، لأن أعضاء هذه الوفود سيوافقون على ربط عملاتهم بالدولار وليس الذهب، ولكن كيف حدث ذلك؟
وبعد ربع قرن تقريباً تنقلب موازين الأمور مجدداً في إثر ما عُرِف بصدمة نيكسون، ويفكّ ارتباط الدولار بالذهب نهائياً، ويتحوّل الذهب إلى نقد وهمي في مخيلة الإنسان، ومع ذلك، وبعد سيطرة الدولار شبه المطلقة، لا يفقد الذهب بريقه وجاذبيته، بل يضطلع بدور جديد في المرحلة الاقتصادية التي أعقبت صدمة نيكسون، وفي تلك الأثناء تندلع فورة الذهب "الصفراء" وتتحوّل الصين إلى صدارة الدول المنتجة للذهب في العالم، وتبدأ فصول المرحلة التي يعيشها العالم حالياً.
يجيب الكتاب بأنه مع تسلّم روزفيلت مهام منصبه كرئيس للولايات المتحدة الأميركية التي كانت مصابة بنزيف اقتصادي رهيب أدى إلى استنزاف 320 مليون دولار ذهباً من الخزانة الأميركية في أقل من شهرين، هذا إضافة إلى سحب مبالغ كبيرة على هيئة ذهب وتوجيهها إلى دول أخرى يراها المودعون ملاذات آمنة، ليصدر روزفلت قانوناً بتحريم اكتناز النقد الذهبي والسبائك الذهبية وشهادات الذهب إلا للعملات النادرة، أو لحشوات الأسنان وغيرها من الاستخدامات غير المؤثّرة.
اختُبِرَ القانون حين اعترض عليه محامٍ اسمه فريدريك كامبيل طلب من البنك سحب سبائكه التي تبلغ قيمتها 200 ألف دولار، ليعترض البنك ويقاضيه كامبيل الذي أنهى القضية خاسراً ومحكوماً عليه بالسجن لمدة عشرين سنة، ومع تحوّل الذهب الخاص إلى الحكومة امتلأت خزائنها في العام 1935 بعشرة آلاف طن من الذهب، وسيرتفع إلى 21 ألف طن من الذهب في 1940 وقبل شهرين فقط من دخول أميركا الحرب العالمية الثانية.
خرجت أميركا من الحرب منتصرة، وخرج وراءها العالم يتبع سياساتها وعملتها كذلك، لأن روزفلت في هذه اللحظة حصل على صلاحية تقليل كمية الذهب المغطاة بالدولار بنسبة 60%، وبالتالي تراجعت قيمة الدولار، لكن عرضه ارتفع بمنحنى رهيب وهذا هو ما أراده روزفلت، وهو أيضاً ما أوصله للنتيجة النهائية بربط عملات العالم بالدولار في بريتون وودز في العام 1944 وبعد أسابيع قليلة فقط من انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.
الذهب والجريمة والفقر
وربما كان من الطبيعي أن يتوقّف الكتاب عند حكايات الذهب مع الأثرياء ورجال المال، لكن اللافت للنظر أنه توقّف كذلك ليثبت صحة تزاوج ثنائيات الذهب/ القتل والعنف، فيحكي قصص بيزارو، الابن الأمّي لكولونيل إسباني وامرأة ريفية، الذي رافق المستكشف العالم بلباو قبل أن يقطع رأسه! هذا إلى جانب ارتكابه جرائم عديدة بحق الملك.
ومن جريمة بيزارو إلى وي شونغزيان الذي تنازل عن خصيتيه ليحصل على وظيفة في البلاط الملكي الصيني، فيتحوّل من مقامر يائس إلى مقرّب من ولي العهد، حتى ولّاه على منجم لينغلونغ، فيرفع شونغزيان إنتاج البلد إلى أربعين ألف أوقية من الذهب سنوياً، ولكن بمجرد أن توفي الإمبراطور قتله أعداؤه ونزعوا أحشاءه.
ناهيك عن قصص براد وود المجرم المحترف المسؤول عن تأمين أحد أهم مناجم الذهب في العالم، والذي وجّهت إليه تهمة قتل أربعة من عمال المناجم من دون أن يدان، أو تهريب القذافي لسبائك ذهبية بقيمة مليار دولار في بضعة أيام، وغيرها من القصص الحقيقية التي تبدو ضرباً من الخيال.