كيف سيطر اليمين الجديد على "إسرائيل"؟
تشكّل "إسرائيل" كدولة يهودية إثنوقراطية نموذجاً متحقّقاً لفنتازيا أقصى اليمين العالمي (الأوروبي) الجديد وأيديولوجيا القومية الأهلية التي يحملها.
تتضاعف أهمية الفهم والتحليل لظاهرة أو حالة صعود النزعة اليمينية العنصرية في كيان الاحتلال خلال العقدين الأخيرين، وصولاً إلى انخراط حكومة اليمين الفاشيّة بقيادة بنيامين نتنياهو في الحرب الوحشية المفتوحة على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تاريخ انطلاق عملية "طوفان الأقصى" التحريرية التي شنّتها حركة حماس الفلسطينية ضد الكيان.
واللافت في هذا الإطار هو استمرار الدعم "الشعبي" لهذه الحكومة الفاشلة والمتطرّفة، والتي نبذها العالم كلّه تقريباً، وبما يُثبت واقع نجاح اليمين الصهيوني "الجديد"، في مختلف تلاوينه السياسية والدينية، في ترسيخ هيمنته الشاملة على الحالة السياسية والعامة في الكيان الإسرائيلي.
هذا الكتاب يُقدّم قراءة واسعة ومركّزة لصعود اليمين الجديد في "إسرائيل". فهو يعرض السياق التاريخي والسوسيولوجي لهذا الصعود وأهم تيّاراته وأحزابه وجمعياته ومراكزه الفكرية ومميّزات خطابه، ويضيء على مشروعه، سياسياً واستعمارياً، وسعيه لحسم الصراع الداخلي بشأن هويّة "إسرائيل"، بالانتصار للهويّة القومية اليهودية المحافظة والصراع الخارجي في مقابل الفلسطينيين، عبر ترسيخ الاستعمار على كلّ متر ممكن في الأراضي المحتلة والعمل على حسم المسألة الفلسطينية من خلال سحقها.
يقرأ الكتاب هذه التفاصيل في سياق سيرورات العولمة المتناقضة من حيث تحويل العالم إلى قرية كونيّة مفتوحة من جهة، وتصاعد الخوف على الهويّة والقِيم الوطنية من جهة أخرى، وبموازاة الآثار المدمّرة لتوحّش النيوليبرالية، وتقاطع ذلك مع هجمات 11 أيلول/ سبتمبر، ولاحقاً الهجرة من الدول الإسلامية والعربية إلى الدول الغربية، كعوامل مركزية في صعود قوّة أقصى اليمين الجديد.
تقول محرّرة الكتاب، الذي شارك في كتابة فصوله عدد من الباحثين، إن الحكومة الإسرائيلية الحالية تُجسّد، بتركيبتها اليمينية الخالصة وحركة الاحتجاجات غير المسبوقة التي اجتاحت الشوارع في أعقاب إعلان خطة الإصلاح القضائي، لحظة تحوّل مهمة في المشروع الصهيوني ومخاض انتقاله من مشروع "دولة إسرائيل" التي تُدير الاحتلال وتُعمّقه إلى مشروع أرض إسرائيل الذي يوظّف "الدولة" من أجل حسم الصراع مع الفلسطينيين وتحقيق مشاريعه القومية والاجتماعية.
وتكمن أهمية الكتاب في الإضاءة على سيرورات التطرّف المستمر التي تشهدها "إسرائيل" وتطبيع العنصرية وتغلغلها إلى المستويات المتعددة في ظل تعزّز الشعبوية العالمية وتطبيعها، وما يتركه ذلك من آثار بعيدة المدى على مستقبل الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وخلق التحالفات الدولية لنزع شرعية النضال الفلسطيني من خلال وصمه بـ"الإرهاب" ومعاداة السامية والرجعية المرتبطة بصراع العالم الحرّ، وتحويله إلى مركّب إضافي في الصراع مع التطرّف الإسلامي.
كذلك، تشكّل "إسرائيل"، كدولة يهودية إثنوقراطية، نموذجاً متحقّقاً لفنتازيا أقصى اليمين العالمي (الأوروبي) الجديد وأيديولوجيا القومية الأهلية التي يحملها، فيها ومن خلالها تتماهى "الدولة" مع الجماعة الإثنية؛ وفي سياقها تتحوّل مؤسسات "الدولة" والميليشيات الاستيطانية المسلّحة التي تعمل تحت غطاء شرعي من "الدولة" والأحزاب الرسمية إلى تشكيل واحد في مواجهة السكّان الأصليين. ويشكّل مثال الاستيطان الرعوي وإقامة البؤر الاستيطانية (في فلسطين) نموذجاً عن هذا التداخل.
تحت عنوان "اليمين الجديد في إسرائيل: مشروع بناء الهيمنة الشاملة"، تلفت مُحرّرة الكتاب إلى أن تشكّل اليمين الجديد وتطوّره في "إسرائيل" جاءا في سياق الصهيونية المؤسّسة التي انطوت على بذور التطرّف والأصولية بمجرّد ارتكازها على علمنة الدين وتحويل القصص التوراتية إلى خطة عمل، مُعتقدة أنها يمكن أن تسيطر على ديناميّتها والتحكّم الدائم في وجهتها وفق حساباتها.
كما زعزعت التحوّلات الديمغرافية الاجتماعية التي نتجت بعد هجرات "الشرقيين" ونسب الولادة العالية بين الحريديين وتشكّل المستوطنين، معاً، هيمنة المؤسّسين، وأدّت إلى إقامة تحالف المهمّشين بين الليكود والشرقيين وصولاً إلى إطاحة حكم مباي (حزب "عمّال أرض إسرائيل") في عام 1977. ومنذ هذا الانقلاب واليمين يحكم إسرائيل بشكل شبه مستمر، باستثناء فترات قصيرة.
دفع احتلال الأراضي، التي تشكّل، وفق المخيال الديني، لب "أرض إسرائيل التوراتية"، في عام 1967، إلى الواجهة الجماعات الدينية القومية اليمينية من أتباع الحاخام (أبراهام) كوك، والتي عدّت المشروع الصهيوني غير مكتمل من دون استكماله عبر استيطان "أرض اسرائيل الكاملة"؛ وهي فرّخت تيّارات جديدة على رأسها الحردليّة، التي تجمع بين التزمّت الديني والقومي وتدفع في اتجاه استرجاع المملكة وإقامة "دولة شريعة يهودية".
مع الوقت، وبسبب خطاب اليمين الجديد المعادي لمؤسّسات "الدولة" وتأكّل قِيم الدولاتية، تعمّق الصراع والاستقطاب الداخلي، والذي وصل ذروته مع إقامة حكومة بنيامين نتنياهو السادسة (مطلع العام 2023) من أقصى اليمين الجديد الاستيطاني والكهاني والحريدي والشعبوي، وطرح مشروع الإصلاح القضائي لـ"وزير العدل" ياريف ليفين.
عن "جمعيات ومنظّمات اليمين الجديد وتأثيرها في السياسة الإسرائيلية"، يلفت الباحث عبد القادر بدوي إلى تزايد التأثير والنفوذ لهذه الجمعيات والمنظّمات في السياسة الإسرائيلية عموماً، وفي صياغة الأجندات الحكومية خلال العقد المنصرم بصورة لافتة، وصولاً إلى المؤسسات غير الحكومية، والمجال الإعلامي والمجال الأكاديمي والجامعات.
وعملياً، فإن نخب اليمين الجديد في "إسرائيل"، والتي تشكّل فواعل هذه الجمعيات، تسعى لأن تكون فاعلاً رئيساً، ووحيداً، في بلورة الخطاب والتصوّر الإسرائيليين في القضايا الآنيّة والمستقبلية؛ بل هي ترى أن مشروعها الأيديولوجي القومي هو الصالح العام، ويُعبّر عن رغبات الشعب اليهودي وتطلعاته في "إسرائيل".
الباحث مهنّد مصطفى، تحت عنوان "الصهيونية الدينية: من الحالة القطاعية إلى التشظّي والتعدديّة"، يتحدّث عن أبناء الصهيونية الدينية الذين يتحوّلون إلى أفراد لهم ميول سياسية واجتماعية وفكرية متباينة، بحسب موقعهم، طبقياً وثقافياً، وتربيتهم الدينية ومكان سكناهم؛ وبذلك نالوا شرعية أكبر لأفكارهم وحضورهم ممّا كانوا ينالونه كقطاع منفصل ومنعزل. والتشظّي والتباين هذان ساهما في تعميق تأثيرهم في المفاصل السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية في "الدولة".
ويمثّل تولّي نفتالي بينيت، من تيّار الصهيونية الدينية، رئاسة الحكومة في حزيران/يونيو 2021، مثالاً على تحوّل الصهيونية الدينية من هامش الحقل السياسي الإسرائيلي إلى مركزه، على الرغم من ولايته القصيرة، التي انتهت في حزيران/يونيو 2022.
بشأن "الحردليّة: التيّار المتزمّت دينياً والقومي سياسياً والمحافظ ثقافياً"، يقترح الباحث وليد حباس النظر إلى الحردليّة كمكوّن أساسي من مكوّنات ما بات يُعرف باليمين الجديد في "إسرائيل"، مع الاهتمام بدوره في تغيير معالم الحركة الاستيطانية في "أرض إسرائيل الكبرى" بصورة عامة، والضفة الغربية والقدس بصورة خاصة، إلى دوره في احتلال الدولة العميقة وإحداث تغييرات من الداخل على الأجندات السياسية لحكومات "إسرائيل" في المستقبل، كما على الأجندات الاجتماعية، الثقافية والاقتصادية الخاصة بـ"المجتمع الإسرائيلي"، ومصير القضية الفلسطينية، انطلاقاً من أن الحردليّة ترفض، من حيث المبدأ، واستناداً إلى أيديولوجيتها التوراتية المتطرّفة، قيام "كيان" سياسي لغير اليهود فوق "أرض إسرائيل"!
بشأن "اليمين الجديد والتيّار الإفنجيلي"، يشير الصحافي والمترجِم علاء سلامة إلى نجاح التيّار الإفنجيلي في أن يكون مؤثّراً أساسياً في السياسة الأميركية الخارجية، التي عدّها أداته الأساسية، من خلال اعتماده على قاعدته الانتخابية الضخمة والنشيطة، ومن خلال التوفيق بين الخطابين الديني والسياسي، والذي جعل مواقف هذا التيّار الدينية تبدو متطابقة إلى حد بعيدٍ مع المصالح الأميركية. العالم بالنسبة إلى الإفنجيليين (المسيحيين الأصوليين) ميدان معركة بين الخير والشر، لا مكان فيها للوقوف على الحياد، ولا أمل فيها للسلام. ومن أجل هذه المعركة، عمل الإفنجيليون على مدى عقود كي تشكّل أميركا و"إسرائيل" جبهة واحدة، دائماً.
وبالنسبة إلى الملايين من الإفنجيليين الأميركيين، كان "الانتصار المعجزة" على الجيوش العربية في حرب عام 1967 دليلاً على أن "يد الربّ" كانت فاعلة في أرض المعركة لمصلحة "إسرائيل"، وأن الربّ بدأ، إذاً، تسيير العالم بخطوات واسعة نحو هرمجدون (المعركة الأخيرة بين الله والحكومات البشرية أو بين قوى الخير وقوى الشر).
والمثير أن التناقض بين هؤلاء الإفنجيليين، الذين يعتقدون بضرورة تنصير اليهود من أجل تيسير عودة المسيح، وبين الصهيونيين اليهود وغير اليهود، لم يُترجَم في أرض الواقع إلاّ دعماً لـ"إسرائيل" والصهيونية، وهو ما يجد فيه اليمين الإسرائيلي الجديد منفعة تسمح له بالتغاضي عن الأفكار الإفنجيلية التي تستعدي اليهود وتعاملهم كأدوات في سبيل تحقيق النبوءة.
تحت عنوان "الحريديم: من الهامش السياسي إلى عُقر اليمين الاستيطاني"، يتحدّث الباحث برهوم جرايسي عن مجتمع الحريديم، والتغيّرات التي طالته وساهمت في تحويله من لاعب سياسي قطاعي منشغل بمصالحه إلى جزء من اليمين الإسرائيلي السياسي الفاعل.
ويجيب الباحث عن سؤال بشأن إلزامية تبنّي الحريديم للفكرة الصهيونية على خلفية تفاعلهم النشط مع اليمين الاستيطاني، بالنفي، مع تمسّكهم بما جاء في التوراة، ومفادها أن "مملكة إسرائيل" ستُقام حينما يأتي المسيح لأول مرّة إلى العالم. وتبنّيهم الفكرة الصهيونية سيعني بالضرورة سحب بساط القاعدة الدينية التي يقفون عليها ويتمسّكون بها، وهي أساس وجودهم وأساس معتقداتهم.
أخيراً، تحت عنوان "ما بين "الصهيونية الجديدة" واليمين الإسرائيلي الجديد"، تناول الباحث في الشؤون الإسرائيلية أنطوان شلحت كيفيّة ارتباط تيّار الصهيونية الجديدة (Neo-Zionism)، باليمين الجديد الإسرائيلي؛ أو بالأصح كيف استطاع هذا اليمين استملاك تيّار الصهيونية الجديدة بصورة ناجزة، فضلاً عن قيامه باستخدامه من أجل الدفع قُدُماً بأجندته اليمينية المخصوصة.
وأشار الباحث إلى أن الجدل بشأن هويّة "إسرائيل" بين المكوّنات السياسية والدينية المتنازعة سبق سنّ قانون القومية في تموز/ يوليو 2018، والذي أغلق الباب على أي مبادرات إصلاحية (أو تجميلية)، مثل تلك التي طرحها رئيس الكيان السابق، رؤوفين ريفلين، في عام 2015، وعدّ في سياقها المواطنين العرب "أحد الأسباط الأربعة" في هذا الكيان.
ووصل الكاتب إلى خلاصة فحواها أن "إسرائيل" قوت وجودها من الأيديولوجيا الصهيونية، وستظل كذلك على نحوٍ دائمٍ وحيوي، وأنه لا يمكن القفز عن الصهيونية، لا في واقع "إسرائيل" الحالي ولا في مستقبلها، حتى لو لم يُكثر الإسرائيليون الكلام على الصهيونية.