كيف بدأ علم النحو؟

كيف بدأ علم النحو في اللغة العربية؟ وما علاقة الإمام علي به؟ وما سبب المناظرة الشهيرة بين الكسائي وسيبويه؟

في أواخر القرن الثاني الهجري، وفي بغداد، عاصمة الخلافة الإسلامية خلال حكم هارون الرشيد، شهدت الساحة العلمية الإسلامية حدثاً استثنائياً تمثّل في مناظرة شهيرة بين اثنين من أعظم علماء النحو في تاريخ الإسلام هما: سيبويه، إمام مدرسة البصرة النحوية، والكسائي، إمام مدرسة الكوفة النحوية. 

هذه المناظرة، التي عُرفت فيما بعد بـ "المسألة الزنبورية"، لم تكن مجرد نقاش علمي بسيط حول قواعد النحو، بل كانت تعبيراً عن صراع أوسع بين مدرستين نحويتين لهما رؤى مختلفة حول كيفية توثيق  اللغة العربية وفهمها.

دور الإمام علي في نشأة علم النحو

لفهم أهمية هذه المناظرة، يجب العودة إلى القرن الأول الهجري، حيث بدأت معالم علم النحو تتشكل استجابة للتحديات الجديدة التي واجهتها اللغة العربية بعد انتشار الإسلام. 

إذ مع توسع الدولة الإسلامية، ودخول العديد من الشعوب غير العربية في الإسلام، ظهرت الحاجة إلى وضع قواعد تحمي اللغة من التحريف والتشويه. 

ويُنسب الفضل في وضع اللبنات الأولى لهذا العلم إلى أبو الأسود الدؤلي، الذي أخذ إرشادات مباشرة من الإمام علي بن أبي طالب لتوثيق بعض قواعد اللغة العربية، عندما  أمسك الإمام صحيفة كانت أمامه وكتب فيها: 

"بسم الله الرحمن الرحيم.. الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف. فالاسم ما دلَّ على المسمى، والفعل ما دلَّ على حركة المسمى، والحرف ما دلَّ على ما ليس اسماً ولا فعلاً"، ثم قال لأبي الأسود: "انحُ نحو هذا"، أي أكمل على هذا النهج. ومن هنا جاء مصطلح "النحو". 

وكان أبو الأسود يدرس كلام الناس ويلاحظ الأخطاء الشائعة، ثم يقارنها بالقرآن الكريم والحديث النبوي والشعر العربي. بعد ذلك، كان يعود إلى الإمام علي ليعرض عليه القواعد التي توصل إليها، مثل العطف والنعت، والتعجب والاستفهام، وكذلك الفاعل والمفعول، والمضاف وحروف الرفع والنصب والجر والجزم. 

ومن بين ما عرضه عليه، حسب بعض الروايات، كان حروف "إنَّ" وأخواتها (إنَّ، أنَّ، ليت، لعلَّ، كأنَّ). فقال له الإمام علي: "لماذا لم تذكر"لكن"؟ فرد أبو الأسود: "لم أحسبها منها". فقال له الإمام علي: "أضفها".

وهكذا يمكننا القول إن الإمام علي وضع الأسس الأولى للطريق الذي سيسير عليه علم النحو في ما بعد. أما أبو الأسود، فقد كان جهده منصبّاً على وضع البذور الأولى لهذا العلم، بناءً على ما استطاع أن يصل إليه من خلال عقله، وما أقرّه عليه الإمام علي.

وكان أبو الأسود أول من أدخل نظام التشكيل لضمان القراءة الصحيحة للنصوص الدينية والشعرية، وهو ما مثّل البداية الرسمية لعلم النحو.

مدارس النحو وتطور علم اللغة

لاحقاً، انتقلت دراسة النحو إلى مدينتين رئيسيتين هما البصرة والكوفة. وفي البصرة، حيث كان هناك تركيز كبير على الحفاظ على نقاء اللغة العربية، ظهر علماء بارزون مثل الخليل بن أحمد الفراهيدي وسيبويه، اللذين وضعا أسساً قوية لعلم النحو. كان الفراهيدي رائداً في مجالات عدة، منها علم العروض، وكان له تأثير كبير على سيبويه. بفضل هذا التأثير، أصبح سيبويه من أبرز علماء اللغة العربية في عصره، وتمكن من تأليف كتابه الشهير "الكتاب"، الذي لا يزال يُعد من أهم المراجع في علم النحو حتى يومنا هذا.

واللافت في الأمر أن الذين أقبلوا على دراسة النحو وتطويره بشكل أكبر كانوا من "الموالي"، أي المسلمين من غير العرب، مثل الفرس والأفارقة والأتراك. إذ كانوا في حاجة ماسة لتعلم اللغة العربية للتخلص من الرطانة الأعجمية ولتفهم الدين الإسلامي بشكل أعمق.

وسيبويه لم يكن عربي الأصل، بل فارسياً، ومع ذلك استطاع من خلال دراسته المتعمقة للغة العربية أن يصل إلى مكانة علمية مرموقة. قضى سيبويه جزءاً كبيراً من حياته في دراسة اللغة في البصرة، حيث سافر إلى البادية للتأكد من صحة القواعد التي كان يضعها، معتمداً في ذلك على لهجات القبائل العربية الأصلية في الحجاز ونجد. 

وكان كتابه "الكتاب" شاملاً جمع فيه كل ما يتعلق بقواعد اللغة العربية، وكان هذا الإنجاز علامة فارقة في تطور علم النحو.

من ناحية أخرى، كانت الكوفة أيضاً مركزاً علمياً مهماً، ولكنها اتبعت نهجاً مختلفاً في دراسة النحو. وكان نحاة الكوفة أكثر تسامحاً في قبول اللهجات المختلفة للعرب، وكانوا يميلون إلى التخفيف من بعض القواعد الصارمة التي اتبعتها مدرسة البصرة. 

هذا التباين في النهج أدى إلى ظهور منافسة حادة بين المدرستين، وخاصة بين سيبويه والكسائي.

مناظرة سيبويه والكسائي وصراع المدارس النحوية

الكسائي، إمام نحاة الكوفة، كان شخصية مؤثرة في مجال النحو، لكنه كان أكثر براعة في الخطابة والمناظرة من سيبويه. وتمتع الكسائي بنفوذ كبير في بلاط الخليفة العباسي هارون الرشيد، وكذلك تأييد من نخبة المجتمع البغدادي. 

في ظل هذا التنافس، دعا الوزير خالد بن يحيى البرمكي سيبويه والكسائي إلى بغداد لعقد مناظرة علنية لحسم الخلاف بين المدرستين النحويتين.

"المسألة الزنبورية" التي دارت حولها المناظرة، كانت تتعلق باستخدام صيغة معينة في اللغة العربية. ادعى سيبويه أن القاعدة تتطلب أن تُرفع الجملة في سياق معين، في حين أصر الكسائي على أن العرب قد يستخدمون النصب في  السياق نفسه. وبما أن اللغة العربية كانت تُفهم وتُمارس بصورة شفهية إلى حد كبير في ذلك الوقت، تقرر اللجوء إلى الأعراب من قبيلة الحطمة، الذين كانوا يُعدّون من أفصح العرب، لحسم الجدل.

عندما شهد الأعراب لصالح الكسائي، اعتبر الحكم أنه انتصار لمدرسة الكوفة. إلا أن هذه النتيجة لم تكن خالية من الشكوك، حيث اعتقد العديد من العلماء لاحقًا أن سيبويه كان على حق من الناحية النظرية، وأن الحكم لصالح الكسائي كان نتيجة للتأثير السياسي الذي مارسه في بلاط الخليفة. 

علاوة على ذلك، كان سيبويه يعاني من بعض الصعوبات في النطق بسبب أصوله الفارسية، التي قد تكون أثّرت سلباً على أدائه خلال المناظرة الشفوية.

بعد خسارته المناظرة، غادر سيبويه بغداد وعاد إلى مسقط رأسه في فارس حيث توفي بعد فترة وجيزة في سن مبكرة. ورغم هزيمته، فإن إرثه العلمي استمر لقرون طويلة. فقد ظل كتابه "الكتاب" المرجع الأساسي لعلماء النحو في العالم الإسلامي، وكان حجر الزاوية في تطوير هذا العلم. مع مرور الزمن، أصبح سيبويه رمزاً للتفاني في البحث العلمي، وأثبت أن النحو العربي ليس مجرد قواعد جافة، بل هو علم متكامل يهدف إلى الحفاظ على جمال اللغة العربية ودقتها.

أما الكسائي، فقد استمر في صعوده ليصبح المعلم الخاص لأولاد الخليفة هارون الرشيد، وكان له تأثير كبير على تعليم الأجيال القادمة من الحكام والعلماء. ومع ذلك، لم يكن لمدرسة الكوفة  الأثر الطويل الأمد نفسه الذي حققته مدرسة البصرة، وخصوصاً بفضل عمل سيبويه والفراهيدي.

في المحصلة، لا يمكن النظر إلى مناظرة سيبويه والكسائي باعتبارها مجرد خلاف نحوي تقني، إذ كانت أيضاً تعبيراً عن صراع ثقافي وعلمي أوسع في العالم الإسلامي.