كيف أثّر "العبيد" و"الجواري" في مجتمع مكة والمدينة؟
لم تقتصر حيازة "العبيد" و"الجواري" في شبه الجزيرة العربية على فترة زمنية محددة. ماذا تعرفون عن الموالي ودورهم في المجتمع الذي صاروا جزءاً منه؟
من المعروف أنَّ مكة كانت سيدة الوثنية قبل الإسلام، يؤمّ بيتها العتيق العرب قاطبة، وكانت مثوى القوافل التجارية، يزدحم الخطباء والشعراء في أسواقها، كسوق عكاظ ومجنة وذي المجاز، وكان فيها التجار البيزنطيون والفرس، وخير شاهدٍ على ذلك صهيب الرومي، الذي أسلم في ما بعد. وكان فيها كذلك جالية حبشية كبيرة، منهم بلال الحبشي. وقد قيل إنَّ صفية بنت عبد المطلب أعتقت في يوم واحد 41 "عبداً" حبشياً مملوكاً.
ويدلُّ كثير من النصوص على أنَّ القيان كنَّ كثيراتٍ في مكة، أثناء ما يسمى "العصر الجاهلي". ويروي الزمخشري في "الكشّاف" أنَّ النضر بن الحارث كان يشتري المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا وانطلق به إلى قينته، لتبعده عمّا يطلب، حيث يقول لها: "أطعميه واسقيه وغنِّيه"، ويقول: "هذا خير ما يدعوك إليه محمّد" [1].
أما القبائل العربية فكانت بدورها تبيع عبيدها وجواريها في أسواق مكة، وكان في مكة تجارة منتظمة للرقيق، تروّجها الحروب بين القبائل التي لا تنقطع، وكان يصل إلى أسواق مكة رقيق من الأسرى من المناطق البعيدة، كما في حادثة صهيب بن سنان [2].
كلُّ ما تقدّم يدلُّ على مكانة مكة في تلك الحقبة من الزمن، ما دفع المستشرق البلجيكي هنري لامنس (1862 - 1937) إلى مقارنتها بمدينة البندقية الإيطالية.
المجتمع القرشي بعد الإسلام
أدى انتشار الإسلام خارج شبه الجزيرة العربية إلى ازدياد الثراء والترف في المجتمع القرشي الذي كان ثرياً أساساً، بسبب التجارة ومواسم الحج في مكة. ولم يقتصر هذا الثراء على ما يرسله الولاة من الأموال والذهب والحرير والعقيق، بل تعدّاه إلى العبيد والإماء والتابعين، وهم خليط من العرب والموالي، كانوا جماعةً من الأجانب أسروا هم وأبناؤهم، وكانوا كثيرين في المدينة في عهدَي أبي بكر وعمر، وقد برز كثير منهم لأمهات أجنبيات، نذكر منهم أبناء بنات يزدجرد، علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب [3].
وقد ترك الزبير بن عوام وحده 1000 عبد وأمة. والجدير ذكر ه أنَّ أول رقيق دخل المدينة كان في عهد عمر بن الخطاب. إذ أرسل إليه معاوية بن أبي سفيان 4 آلاف من سبي قيسارية، وبعدها دخل المدينة رقيق كثير، وكانت بيوت الصحابة تعجّ بهم.
الجدير بالذكر أنَّ أول رقيق دخل المدينة كان في عهد عمر بن الخطاب، إذ أرسل إليه معاوية بن أبي سفيان 4 آلاف من سبي قيسارية.
ومن الطبيعي جداً أن يشارك هؤلاء في حياة المدن التي قطنوها، سلمها وحربها، وقد ذُكِر أنّه في موقعة "الحرّة" قُتِلَ منهم 5 آلاف. أما وقت السلم، فكانوا يقومون على خدمة ورفاهية المهاجرين والأنصار. يقول ابن خلدون: " لما ملك العرب فارس والروم، واستخدموا بناتهم وأبناءهم، ولم يكونوا لذلك العهد في شيءٍ من الحضارة، فقد حُكِيَ أنّه قُدِّم لهم المرقق، فكانوا يحسبونه رقاعاً، وعثروا على الكافور في خزائن كسرى، فاستعملوه في عجينهم، فلما استعبدوا أهل الدول قبلهم، واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم، واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك، والقوَمة عليهم أفادوهم علاج ذلك، والقيام على عمله، والتفنن فيه، مع ما حصل من اتساع العيش، والتفنن في أحواله، فبلغوا الغاية من ذلك، وتطوروا بطور الحضارة والترف في الأحوال، واستجادوا المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية... فأتوا من ذلك وراء الغاية" [4].
وعليه، نجد من كلام ابن خلدون أنَّ تأثير العناصر الأجنبية في المجتمع القرشي، وصل إلى حدود المطبخ القرشي، ولباسهم وبيوتهم وسلاحهم وفرشهم، وحتى آنية الطعام التي كانوا يأكلون بها.
الغناء في مكة والمدينة
لم يكن تأثير العبيد والإماء في الرجل والمرأة القرشيين خارجياً فقط، من ناحية المسكن والملبس والمشرب والمطعم، إذ كان فنياً أيضاً. وكان الغناء على رأس هذه الفنون، فأهل مكة والمدينة شُغفوا به شغفاً شديداً، وقد نمّاه وطوّره مواليهم، بعدما كانت بيوتهم تكتظ بهم، وسرعان ما تجد في مكة دوراً خاصّةً بالغناء يقصدها الناس، ولم يكن الغناء كل لهوهم، بل طيران الحمام والرمي على الجلاهقات، وهي قوس البندق، كما لهوا بالنرد والشطرنج [5].
وشاع الغناء في شوارع مكة وبيوتها ومجالسها، حتى فُتن بعض الزاهدين بهم، ومنهم عبد الرحمن بن أبي عمار الجشميّ، الذي كان يُلَقّب بـ"القسّ، لعبادته وزهده، الذي ولِهَ بإحدى المغنيات التي تُدعى "سلامة"، حتى سُميت بـ"سلامة القسّ"، وهي قصة مشهورة [6].
وأصبحت الاتجار بالمغنيات رائجاً، ويدرُّ أرباحاً طائلة، ويروي أبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب "الأغاني" أنَّ دحمان اشترى جارية بمئتي دينار، وعلّمها الغناء فباعها بـ10 آلاف دينار. واشترى يزيد بن عبد الملك سلامة القس بـ20 ألف دينار، واشترى حبابة بـ4 آلاف دينار.
أهل مكة والمدينة شُغفوا بالغناء شغفاً شديداً، وقد نّماه وطوّره مواليهم، التي كانت بيوتهم تكتظ بهم، وسرعان ما تجد في مكة دوراً خاصّةً بالغناء يقصدها الناس.
ومن أشهر المغنين في صدر الإسلام طويس، الذي اشتهر في عصر عثمان بن عفان، وكان ينقر بالدّفّ، وهو أول من أدخل الإيقاع، وأول من صنع الهزج والرمل. ويقول الأصفهاني أنَّ أول غناءٍ هزج به هو:
قد براني الحبُّ حتى
كدتُ من وجدي أذوبُ
ومن أشهر المغنين أيضاً سائب خاثر، وهو فارسي اشتراه عبد الله بن جعفر وأعتقه، وهناك أيضاً معبد بن وهب، وهو مولى ابن قطن، أعتقه لوجه الله وكان حبشياً. ويقول إسحق الموصلي فيه: "هو فحل المغنين وإمام أهل المدينة في الغناء" [7]. وكان معبد إمام المغنين في عصره بلا منافس، واجتمع إليه كثيرون يأخذون عنه صنعته، أمثال حكم الوادي وابن عائشة ودحمان وحبابة وسلامة القس. وتوفي معبد في عهد الوليد بن يزيد في دمشق وهو عنده، وندبتهُ تلميذته سلامة القس.
ومن أشهر المغنيات عزة الميلاء، وهي مولاة للأنصار، ومن أقدم مغنيات المدينة، وأقدم من غنت الغناء الموقّع بالحجاز من الجواري. وكانت من أجمل النساء، ولها دار اتخذتها لتغني للناس فيها. وغنّت بعضاً من شعر عمر بن أبي ربيعة، وكانت تضرب بالمزاهر والمعازف القديمة. ومن أشهر المغنيات أيضاً، جميلة وهي مولاة للأنصار، وسلامة الزرقاء [8].
وأدى الموالي من المغنين والمغنيات دوراً أساسياً في نهضة هذا اللون من الفن نهضة واسعة، بحيث أصبح فناً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، إذ تكوّنت نظريته النهائية، وعُرِفت مصطلحاته وتقاليده، وأخرجت المدينة حينئذ كثرة وافرة من المغنين والمغنيات، واقترنت هذه النهضة لهذا الفن بنهضة كبيرة للأغاني، التي كانت تغنى وتصحب بالعزف والضرب على الآلات الموسيقية.
ومن الملاحظ أنَّ الشعراء كانوا يُعنَون بالغزل في الإماء من المغنيات، فكانوا يصرّحون بكلِّ ما يجول في أنفسهم، لا يكادون يتحرّجون من شيء. مع العلم أنَّ بعض المغنين والمغنيات كانوا يغنون بلغتهم، ويعزفون ألحانهم الخاصة التي حفظوها معهم من بلادهم.
يرى المستشرق الفرنسي ريجيس بلاشير (1900- 1973) أنَّ الغناء في مكة والمدينة امتزجت فيه التأثيرات الفارسية بالعناصر المحلية، لتخلق مدرسة حقيقية. هذا وانتقل اكتساب التقنية الصوتية والآلية تدريجاً من حال غريزية مصوغة، ليصبح للمغنين والمغنيات مكانة مرموقة في مكة والمدينة، حيث أدخلهم الرجال في مغامراتهم العشقية، بل حتى في مواسم الحج، حيث كانت أصوات المغنين تثير المحتشدين.
كما كان للمغنيات مكانة عالية، حيث كان لفنهنَّ، بقدر ما لجمالهنَّ، نصيب من المجد الذي بلغنَ، وحرصت تالياً الطبقة الأرستقراطية في المجتمع القرشي على اقتناء المغنيات والمغنين، ما يفسر اقتناء بعض الخلفاء لهم في قصورهم وحمايتهم، كحماية المغني ابن سريج من قِبل الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك [9].
لعب الموالي من المغنين والمغنيات دوراً أساسياً في نهضة هذا اللون من الفن نهضة واسعة، بحيث أصبح فناً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة.
في تفسيره لهذه الظاهرة الاجتماعية، يرى الدكتور شوقي ضيف أنَّ الفتوح دفعت العرب والموالي إلى أن يعيشوا حياة مشتركة، في النواحي كافة، وفي كل مظاهر الحياة، إلى درجة أنَّ العرب تزوجوا كثيراً من إمائهم، على نحو ما هو معروف من اتخاذهم للسراري والجواري، وهذا أتاح للعرب اطّلاعاً أكبر على الثقافات الأخرى، وجعلهم يمتزجون بها ويأخذون عنها ويستفيدون منها.
ولم يقتصر هذا الأمر على الغناء وحسب، بل تعدّاه إلى الحِرَف والزراعة والتجارة والطعام واللباس والشراب والعمران، حيث بنى معظم الصحابة القصور بالآجر والجص، وجعلوا أبوابها من الساج. ولا نَغفل هنا عن الدواوين التي أسسها عمر بن الخطاب، بعد نصيحة المرزبان الفارسي له، فدّون الدواوين وفرض العطاء، وجعل لكل واحدٍ من المسلمين نوعاً مقرَّراً. وبهذا فإنَّ تأثير العناصر الأجنبية بلغ حدود شكل الدولة، وطريقة رسم تعاملاتها مع أفرادها [10].
في الختام، نجد مما تقدَّم أنَّ العبيد والإماء كان لهم تأثير كبير في تطور المجتمع القرشي، وأنَّ الصحابة اطّلعوا على ما عند الأمم الأجنبية واقتبسوا منها، بخاصَّة مع بداية عصر عثمان بن عفان.
ومن الملاحظ التغيُّر الذي كان واضحاً على أبنائهم وأحفادهم، في أسلوب حياتهم وكيفية تمضية أوقات فراغهم باللهو العفيف، بعد إقصائهم من الحياة السياسية بعد موقعة "الحرّة"، ونقل عاصمة الخلافة إلى دمشق حاضرة الأمويين، كالاستماع للأصوات العذبة من المغنين والمغنيات، وإنشاد الشعر، والأكل والشرب في آنية الفضة والذهب، وبناء القصور وارتفاع الدور، ولبس الحرير والديباج، وتدوين الدواوين، بل وحتى الزواج والإنجاب منهنَّ كما حدث مع بنات يزدجرد.
المصادر والمراجع
[1] انظر "تفسير الكشاف"، طبعة دار "الفكر"، في سورة لقمان وتعليقه على الآية الكريمة: "ومن الناس من يشتري لهو الحديث".
[2] "الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي" للدكتور يوسف خليف، دار "المعارف"، الطبعة الرابعة، صفحة 107.
[3] "تاريخ الأدب العربي - العصر الإسلامي" للدكتور شوقي ضيف، دار "المعارف"، الطبعة 13، صفحة 169 وما بعدها.
[4] "مقدمة ابن خلدون"، طبع بولاق، صفحة 144.
[5] "تاريخ الخلفاء" للسيوطي، طبع المطبعة اليمنية، صفحة 64.
[6] "الأغاني" 8/334 وما بعدها.
[7] نفس المصدر السابق 1/38 .
[8] "الشعر والغناء في المدينة ومكة" للدكتور شوقي ضيف، الطبعة الخامسة منقحة، دار "المعارف"، صفحة 57 وما بعدها.
[9] "تاريخ الأدب العربي"، بلاشير، ترجمة الدكتور إبراهيم الكيلاني، طبعة ثانية، دار "الفكر"، صفحة 800 ومابعدها.
[10] "الشعر والغناء في المدينة ومكة" للدكتور شوقي ضيف، الطبعة الخامسة منقحة، دار "المعارف"، صفحة 25 وما بعدها.