فيلم "رحلة يوسف" ابتسامة عميقة فوق ثغر الألم المديد
مقدمة فيلم "رحلة يوسف"، تتدرج بإبهارها ومفرداتها البصرية واضعة المشاهد في قلب الحكاية مختصرة نكبات وخيبات و حسرة وألم.
تشكّل الحرب المستمرة على سوريا منذ 12 عاماً، مادة متخمة بالآلام لصناع الفن السينمائي وغيره من الفنون، حيث الخصوبة المختلطة بين الدراما و التراجيديا و الكوميديا السوداء، تتيح مساحة كي يفضي السوريون بحكايا مقاومتهم للحرب بقوة الحياة.
المخرج السينمائي جود سعيد أحد المبدعين السوريين الذين بقصد أو من دونه، قفزوا فوق مقولة عدم قدرة الفنون على تناول أحداث الذاكرة القريبة، عبر استنباط أساليب مختلفة في شكل و مضمون”الإنتاج "،مع ما توفره الحرب من مفارقات تتصادم بين الحياة والموت.
"رحلة يوسف"، جديد أفلام المخرج جود سعيد ، أنموذجي في السير عكس المعتاد في تناول موضوعة الحرب ، إذ لا يكترث أن يستعرض همجيتها أو أن يمجد “أبطالها “ أو التجوّل بالعدسة بين الضواحي المدمرة. مع ذلك، الحرب حاضرة في فيلم "رحلة يوسف” كضيف ثقيل في فضائه، وما تغيييبها و عزلها البصري سوى إمعان المخرج في إدانتها و الانتقام منها.
مقدمة فيلم "رحلة يوسف"، تتدرج بإبهارها ومفرداتها البصرية واضعة المشاهد في قلب الحكاية مختصرة نكبات وخيبات و حسرة وألم ، لكنها لا تعثر الجد يوسف ( الممثل أيمن) في رحلته، فوق سديم من بياض الثلج، يجر خلفه حصان وعربة تحمل جثة لشاب فر من الحرب قتله الطريق الموحش، لينضم إلى "المنسيين" العنوان الثاني لفيلم "رحلة يوسف.
في هذا الجو من الرهبة والغموض، يجد السرد منصة مريحة لا تكلف فيها ولا فاصل بين ما هو خلف الكاميرا وما هو أمامها، يكملان بعضهما بعضاً، في البحث عن خلاص وسط صدام الأضداد وتجاورها في لعبة التوازي بين السينما والحياة إلى أن تكون إحداهما هي الأخرى.
كتب المخرج جود سعيد قصة "رحلة يوسف" مع الممثل أيمن زيدان، والسيناريو بالشراكة مع الكاتب وسام كنعان، وقسم العمل على فصول الطبيعة الأربعة : "الشتاء إلى أين تذهب يا جدي"، “الربيع سأبقى أحب من أجل عبد الهادي “، “الصيف أي حلم سأطير معه"، ويختم بعكس ما بدأ، "الخريف إلى أين ستذهب يا ولدي".
بعد المقدمة، ينقلنا جود سعيد من رحابة المشهد الخارجي إلى مشهد داخلي في كوخ عبد الهادي (الممثل سامر عمران)، حارس ظلال المحبة وما تبقى من عيش، ومع "نديمه” يوسف يتحايلان على البقاء أحياء ولو بمجاورة الجثث، يوسف يحمي حفيده الوحيد وآخر بقية عائلته، وعبد الهادي يثقب الجدران لوصل علاقة حب "أفلاطونية”بين مراهقين.
تبدأ "رحلة يوسف"، حين يعكر صفوّ قناعته بعدم المغادرة، سلطة أمر واقع ميليشاوية، "أبو الوليد”اللاهث خلف معشوقة حفيده لضمها إلى خيام حريمه، فيقرر يوسف الفرار إلى أحد مخيمات النازحين على الحدود اللبنانية السورية، ويدفع عبد الهادي حياته ثمناً لهذا الهروب.
في المخيم "مجتمع” ليس اجتماعياً، كل يعيد تأليف ذاكرته وترتيب القرابات والأنساب بحكم الواقع الجديد، الذي يتطلب من النازح انتحال صفة وهوية ومهن، تحت عين "المنظمات الإغاثية الأممية”التي ترى النازحين، مجرد أرقام في سجلاتهم الوثيرة.
يعود "الشر" إلى مطاردة يوسف الذي تزوج ورزق بطفل، فيضطر إلى الموافقة على سفر حفيده إلى ألمانيا بعد اكتشاف صحفية ألمانية (من أصل سوري)، موهبته الكروية، خلال إنتاجها لفيلم وثائقي عن حال النازحين. لكن، خطة الهروب لا تنجح هذه المرة، وتنتهي بفاجعة مقتل العاشقين بينما يوسف يستمر في رحلته من مكان يجهله إلى مكان مجهول آخر.
تحتل الصورة مكانة أولى في أعمال جود سعيد، ويرقى بلغتها في "رحلة يوسف” إلى رهافة توفر الكثير من الحوار، متيحة وساعة للتأويل لا للتفسير. معظم المشاهد الداخلية صورت داخل الخيام والاكواخ الضيقة لكن المشاهد لا يشعر بهذا الضيق، واللقطة الضيقة الوحيدة تعمدها المخرج في مشهد اغتصاب الطفل الملقب ب "أبو شادي”الذي يطبق بقسوته على الروح والقلب.
استفاد جود سعيد من لعبة الفيلم الوثائقي داخل فيلم "رحلة يوسف، لتنويع الكوادر، والأهم إيجاد منصات "اعترافية” لشخوص الفيلم، كي يصرحوا بمكنوناتهم من مخاوف وقلق وطموحات وآمال.
المخضرمان أيمن زيدان وسامر عمران، يتقاسمان لعبة الأداء، زيدان عملاق بإدارة الصمت، وعمران براق بإدارة الكلام. تواطؤهما مع جود سعيد، فني وإنساني وكيمائي. فهم أيمن زيدان لشخصية "يوسف” دفعه إلى نبش مشاعرها ومكنوناتها لا إلى تمثيلها، بإدراك منه أن شخصية "يوسف”تمثله في الحياة كما في السينما.
"المروجيكي” سامر عمران نسبة إلى الكاتب المسرحي البولندي سلافومير مروجيك، عفريت لغة الجسد ولغة الحوار، ويعرف كيف يتحرر كمسرحي من صرامة ضوابط الكادر السينمائي، وكيف يولد حيوية تركت طيف روح شخصية "عبد الهادي"، تحوم طوال مدة الفيلم إلى ما بعد "موته".
ولوج جود سعيد إلى عمق المأساة السورية، هو ولوج ابن الدار، "سينماه” كذلك، يؤلفها وتؤلفه، يكتب لها وتكتبه، تماه وأكثر ويكاد مشاهد أعماله لا يدرك الخط الفاصل بين السينما والحياة، حتى يكتشف أنه شريك في ما يرى، بالفعل ربما أو بسكوت أبلغ من فعل. وهذه الشراكة بين المبدع والمتلقي نابعة بالأساس من شراكة "جذرية”بين أعضاء عائلة فريق العمل .
هذه الشراكة تسمح للمخرج سعيد أن ينتج أعماله بميزانيات متقشفة، و"رحلة يوسف” أكثرها تقشفاً عن المعقول. مع ذلك، نحن إزاء عمل فذ بكافة مستوياته، وما الحفاوة والجوائز التي يحصدها "رحلة ييوسف” في العديد من المهرجانات والفعاليات السينمائية العربية والعالمية، إلا توكيد على قيمة سوريا في الفن والثقافة والتاريخ.
* الفيلم عرض في هولندا ضمن فعاليات مهرجان روتردام