فنانو غزة يعبرون عن ألمهم ببراعة في معرض "مبنى للمعزول"
في معرض "مبنى للمعزول" في غزة تتعدد المحاولات الفنية، لكنه المشهد القاتم ذاته؛ تقييد الحرية، بطالة، مرض، اكتئاب. لقد اعتاد الغزيون التعبير عن ألمهم ببراعة.
يحارُ فنانو العالم عند تجسيد أعمالهم الفنية نظراً لوفرة الأفكار في فضاءات بلادهم التي تستقبلهم برحابة وتُغني تجاربهم؛ بينما يكاد يَحجر الحصار على مخيلة الفنان الفلسطيني في غزة، فهو عادة ما يصطدم بالحواجز التي فُرضت على القطاع منذ 15 عاماً، ليتوقف محدقاً بِغلظة القيود في السجن الكبير الذي يحتجز داخله أكثر من 2 مليون انسان.
تتعدد المحاولات الفنية لكنه المشهد القاتم ذاته؛ تقييد الحرية، بطالة، مرض، اكتئاب. لقد اعتادوا التعبير عن ألمهم ببراعة، وربما يمثل هذا لدى البعض فرضاً أخلاقياً تجاه الوطن، أو كما يقول جبرا إبراهيم جبرا: "إذا لم يكن الفن متصلاً بجحيم النفس، فإنه لن يتصل بفراديسها".
في اليومين الأخيرين من شهر أيلول/سبتمبر الماضي شارك 13 فناناً في معرض للفنون البصرية في غزة، نظمته اللجنة الدولية للصليب الأحمر وحمل اسم "مبنى للمعزول"، ويعرض معاناة سكان القطاع على مدار 15 عاماً من الحصار المستمر، حتى انتهى بهم المطاف "كعلبة سردين" محكمة الاغلاق من جميع الاتجاهات، بينما يتكدس السردين داخلها تماماً، كما فعلت الكثافة السكانية في القطاع.
"كعلبة سردين" هو عمل فني للفنان التشكيلي محمد جحلش (41 عاماً). فور دخولك إلى المعرض تستقبلك علب السردين المرصوصة على الحائط ويقف إلى جوارها الفنان جحلش ليفسر للزوار ما يرونه؛ وقال في حديث خاص لـ "الميادين الثقافية" إنه: "وجدت علبة السردين مناسبة لكي أخاطب الناس من خلالها، فقد وضعت بداخلها بعض المشكلات التي نعانيها كالبطالة وإغلاق المجال البحري في وجه الصيادين، وتقييد حركة التنقل وغيرها"، والحقيقة أن 30 علبة سردين كانت كفيلة بأن تعبر عن المزيد من الأوضاع الصعبة كالصحة والتعليم، الهجرة ومعاناة المسيحيين الذين لا يمكنهم زيارة القدس والصلاة في كنيسة القيامة هناك.
وبالمناسبة فإن علبة السردين عادة ما تكون جزءاً من المساعدات الغذائية التي تقدمها وكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" للاجئين، وقد تمكنت بعض أعمال الفنان جحلش من المشاركة في معارض دولية في حين لم يتمكن هو من الخروج من القطاع، ويقول: "شعوري بالسعادة منقوص لعدم السماح لي بمرافقة أعمالي، فالمشاهد بحاجة للفنان للاستماع إليه حين يوضح فكرته".
هَش
أما الفنان محمود الحاج (32 عاماً)، فقادته الصدفة إلى استخدام أشرطة الدواء بينما كان يرتبها للاحتياط من الجائحة، وبدا له إمكانية تكوين عمل فني بواسطة الأشرطة الفارغة والتي تتسم بالهشاشة وتحمل دلالة على الألم والقلق؛ القاسم المشترك لكل العالم في ذلك الوقت.
"بدأت بدمج صور أشرطة الدواء الفارغة مع الصور التي اعتدنا رؤيتها؛ فنتج عنها تكوينات بصرية تعبر عن هشاشة الصورة وتكوينها وهو ما نعانيه في غزة بسبب الحصار"، قال الحاج الذي أضاف: "لا تقتصر الهشاشة على البناء والحياة الاجتماعية، وهي كما أشرت في لوحاتي تسيطر على حياة البسطاء الذين يستخدمون الدواء بكثرة بسبب المرض أوالضائقة النفسية التي يعيشونها وما يرافقها من إحباط وقلق".
وقع الحاج هو نفسه في شرك الاحباط بعد فشل عشرات المحاولات للمشاركة بأعماله الفنية خارج غزة، لكن ما سعى اليه لم ينله كاملاً، "سُمح لأعمالي بالمشاركة في المعارض الدولية بينما لم يسمح لي وكنت محبطاً جداً".
جدير بالذكر أن الحاج تمكن قبل عام فقط من السفر للمرة الأولى برفقة أعماله الفنية، لكنه لا يعلم ان كانت الكرة ستعاد.
من بين أعمال المعرض يقف في منتصفه مجسم على هيئة انسان، تم تكوينه بإعادة تدوير مجموعة من القطع الحديدية المختلفة، وتظهر للناظر مجموعة من التروس التي تدل على دورة الحياة، كما يتوزع في المجسم مجموعة من البراغي والقطع التي تدفع المعدات على الحركة والاستمرار.
يعود هذا العمل للفنان التشكيلي عساف الخرطي (28 عاماً)، الذي اعتبر أن إعادة تدوير قطع الخردة وتوظيفها بطريقة صحيحة سيساعده في التعبير عن حاجة الشباب لإعادة تدوير أحلامهم وآمالهم ليستمروا في الحياة، ويخلقوا فرصاً جديدة، بعد تعطل حياتهم الذي تسببت به سنين الحصار.
وعن سبب استخدامه للحديد يقول الخرطي لـ "الميادين الثقافية" إنه "اخترت الحديد لأن له طابع جميل، الحديد بصلابته ومادة الصدأ فيه يضيف للحياة توازنها".
"ننتظر رداً من البحر"
3 فتيات يقفن بجوار لوحة استحوذ عليها اللون الأزرق بدرجاته؛ اللوحة تحمل عنوان "ننتظر رداً من البحر"، وتعود للفنانة آلاء الشوا. اللوحة مصنوعة من أقمشة ملونة تم بواسطتها تمثيل حالة موج البحر الذي لا يهدأ ووصف القارب وهو يغرق في البحر. لم تكن الفنانة الشوا متواجدة لتحكي عن لوحتها، لكنها تركت إلى الجوار أسوة بزملائها لافتة توضيحية كتبت عليها "هذا العمل مستوحى من صور أحد القوارب التي كانت تُقل شباباً مهاجرين في البحر الأبيض المتوسط عام 2014 جنوب شرق مالطا".
وذكرت أنها أرادت معالجة مفهوم الهروب من المعلوم إلى المجهول ومحاكاة تجربة المعاناة التي يعيشها جيل الشباب النازح من وطنه هروباً من الفقر والبطالة، حتى بات الهروب ظاهرة لم تقتصر على فئة الشباب بل نال الأطفال نصيبهم منها.
الفتيات الثلاث طالبات في الجامعة ويدرسن تخصص الهندسة، وهن: هيفاء البرعي، رؤوفة يونس وروان الشيخ يوسف، وقد أعربت ثلاثتهن أن الأعمال المعروضة أثرت فيهن ولامست مشاعرهم، فمن وجهة نظر روان "الحصار يجعل العالم يسبقنا بمراحل، فهو يحد من فرص مشاركتنا مع الآخرين وتبادل العلم والثقافات خاصة في مجالنا الذي يحتاج لمواكبة كل جديد". بينما تقول هيفاء، التي يبدو أن اللوحة الزرقاء سيطرت على تفكيرها، إن "لوحة البحر أعادتني سنوات إلى الوراء، فأنا أعرف عائلة أحد المفقودين في تلك الحادثة، ورغم مرور كل هذا الوقت إلا أنهم لا مازالوا يعتقدون بأن ابنهم مفقود وسيعود إليهم يوماً ما"، تصمت هيفاء وتردد إحدى زميلاتها "ننتظر رداً من البحر".