غَوْغِلْها وَتَوَكَّل!
مما لا شكَّ فيه أننا نخوض غمار عالم جديد تفرض فيه التكنولوجيا الذكية نفسها وتترك أثرها جلياً في شتى الميادين والمجالات، بما فيها العلاقات الإنسانية واليومية بين البشر على امتداد الكوكب.
لم يكن ينقصنا غير chat gpt حتى يكتمل النقل بالزعرور. فعلى أهمية الذكاء الاصطناعي ودوره في تقدّم البشرية، وفتحه آفاقاً واسعة أمام مزيد من التطور العلمي، خصوصاً إذا تم استخدامه في سبيل خير الإنسانية، لا في سبيل الحروب والنزاعات ونزعات الهيمنة والسيطرة فحسب.
الذكاء الاصطناعي كأي أداة أخرى يمكن أن يكون سيفاً ذا حدّين، والخشية كبيرة من استخدام حده السلبي أكثر من حدّه الإيجابي، ولا سيما في المجتمعات المستهلِكة لا المنتجة، إذ تتحول التكنولوجيا الذكية إلى أداة لنشر التفاهة والبذاءة والفتن عِوض أن تكون نقيض ذلك تماماً، ولنا في وسائل التواصل "خير" مثال على ذلك، إذ حولتها الجيوش الإلكترونية والغرف السوداء إلى واحدة من أدوات الحرب القذرة.
سابقاً، كان الباحث عن أي معلومة يحتاج إلى ساعات طويلة من القراءة والتدقيق والتمحيص للوصول إلى مبتغاه. ولعل العاملين في أقسام الأرشيف التابعة لمراكز البحث والمؤسسات العلمية والتعليمية ووسائل الإعلام وسواها، يعرفون أكثر من غيرهم الأهمية التي كان يمثلها قسم الأرشيف في كل مؤسسة، يوم كانت المجلدات تتراصف قرب بعضها بعضاً مالئة رفوفاً لا نهاية لها، وكان على الباحث معرفة تاريخ السنة والشهر وأحياناً اليوم لكي يُسهّل على نفسه الحصول على مراده.
ما نشير إليه ليس بعيداً أو غابراً؛ إنه البارحة، والبارحة في مقياس العلم والتطور يمكن له العبور بسرعة الضوء، وخصوصاً في عصر تسارعت فيه الاكتشافات العلمية المذهلة، ولا سيما على مستوى وسائل التواصل وتبادل المعلومات.
صحيح أن صناعة التكنولوجيا الذكية لا تزال وقفاً على أمم وشعوب بعينها، ولا تزال القوى العظمى والشركات الكبرى متحمكة في ما تريد له أن يُعْلَم ويُعَلَّم وما تسعى إلى إخفائه وإبقائه طي الكتمان حرصاً على مصالحها ومطامعها، ولا تزال الحكومات قادرة على حجب موقع هنا وموقع هناك، لكن لا مجال لمقارنة اليوم بالأمس، ومَن يدري ما الذي يحدث غداً!
رويداً رويداً، يغدو من الصعب احتكار المعلومات، ولنا في حكاية جوليان أسانج وسنودن خير برهان على ما نذهب إليه. ولئن كانت تكنولوجيا تبادل المعلومات طوع بنان الدول الكبرى، فإنها مع الوقت تعمّ وتنتشر، بحيث لا يعود في مقدار أحد، سواء كان جهة رسمية أو تجارية، الحؤول دون انتشارها، وما التنافس الضاري بين الشركات المصنعة لتلك التكنولوجيا سوى باب من أبواب انتشارها.
إنه عصر الذكاء الاصطناعي بامتياز.
بات محرك البحث الشهير "غوغل"، رغم اختلاط حابله بنابله، مرجعاً لكل باحث عن معلومة، مهما كانت شائكة ومعقدة. وبفضل التكنولوجيا الذكية المتاحة للجميع تقريباً، لم يعد الباحث محتاجاً إلى الذهاب إلى المكتب أو المكتبة أو الأرشيف، إذ أمست كلها محمولة ومخزنة في جهاز صغير بحجم كفّ واحدة يدعى الهاتف المحمول.
مقارنة سريعة بين حجم أجهزة الكمبيوتر مطلع التسعينيات من القرن المنصرم وحجمها الآن تكشف لنا مقدار التطور الهائل الذي عرفته البشرية على هذا الصعيد خلال عقدين ونيف تحقّق فيهما ما كان يحتاج قروناً في الماضي، والأرشيف الذي كان يحتل مساحات واسعة بات اليوم يُخزّن في شرائح أصغر من أصبع اليد.
في البيت، المكتب، المقهى، أو أي مكان آخر، نتحادث ونتجادل في شأن ما، ربما تاريخ ميلاد إحدى الشخصيات المؤثرة أو اسم صاحب اختراع ما أو بيت شعر لا نعرف قائله أو... أو... إلى آخره. وحين يستعصي الأمر علينا، نلجأ إلى "العم" غوغل عبر أي هاتف ذكي محمول. "نغوغلها" فيأتينا بالخبر اليقين بدلاً من جهينة التي دفناها بين طيات الكتب وقصص الأسلاف.
ولئن كان "غوغل" قادراً على توفير سيل من المعلومات، فإن chat gpt وما يعادله من تطبيقات بات قادراً على صياغة تلك المعلومات وتقديمها على شكل نصوص ومحتويات توفّر على الباحث عناء الصياغة والإعداد، وعناء التأليف والإخراج والمونتاج وسواها من وسائل صناعة النصّ أو الصورة، لكن هل سهولة الحصول على المعلومات تعني بالضرورة أننا بتنا أمام مشهد ترتفع فيه وتيرة المعرفة وتنتشر الثقافة العامة أم العكس هو الصواب؟
لا جواب حاسماً. المسألة تحتمل الكثير من البحث والتحليل والنقاش. سهولة الوصول إلى المعلومات وفرت معرفة أفقية واسعة، لكن السّؤال يبقى عما إذا كانت تساهم في توفير عمق معرفي تراكمي، فكما أسلفنا، كنا في سبيل معلومة واحدة نقرأ أكثر من كتاب، وفي طريق الوصول إلى ما نبحث عنه نقرأ ونتثقف ونعرف الكثير مما لم يكن هدفنا أو غايتنا. اليوم، نصل إلى المعلومة مباشرة بلا أدنى جهد أو عناء.
وفي مثل هذا الأمر المستجد، تكمن مخاطر هائلة، منها الكسل والاتكالية وخفوت الرغبة في البحث والتمحيص، وتركّز عمليات البحث والمعرفة واكتشاف الجديد في أيدي نخب تتبع مؤسسات عملاقة وحكومات مهيمنة، ولا عزاء حينئذ للمتكاسلين والمتقاعسين عن حجز مكان لهم في مقاعد الأمم المتقدمة.
مما لا شكَّ فيه أننا نخوض غمار عالم جديد تفرض فيه التكنولوجيا الذكية نفسها وتترك أثرها جلياً في شتى الميادين والمجالات، بما فيها العلاقات الإنسانية واليومية بين البشر على امتداد الكوكب.
المعلومات أكثر، المعرفة أقلّ؟ مجرد سؤال من أسئلة لا حصر لها كي لا تغدو الأجهزة المحمولة أكثر ذكاءً من حامليها!
جاء في الحديث الشريف: "اعقلها وتوكّل". اليوم، نقول "غَوْغِلْها" وتوكّل، بمعنى لا تكفّ عن البحث والتنقيب والتمحيص وتطوير الذات، ولا تتّكل فقط على ما توفره التكنولوجيا من معلومات سريعة وسهلة أشبه بالوجبات السريعة وغير الصّحية.