غرائبية الفانتازيا في رواية "ابتسامة بوذا" لشريف صالح
نص "ابتسامة بوذا" هو سفر في فندق التاريخ والذاكرة... الفندق هو الحياة وخياراتها ففي كل سفر ولادة وشحتها ظلال ثقافة كثيفة عبقت بالأساطير والفلسفة والمرويات وشخصيات.
يقول رولان بارت: "ما من نص إلا ويبنى على نص آخر"، فكل نص مشحون بتاريخه ومدلولاته في اتكاء على نص لاحق على سابق له يشتف منه أو يبني عليه أو يستعير إحدى صفاته. هذا ما يحيلنا إليه شريف صالح منذ العتبات النصية لروايته "ابتسامة بوذا" الصادرة عن خطوط وظلال للنشر والتوزيع عام 2023 واستهلالاته الأخرى الدالة على مرجعيتها الفلسفية، إذ يذهب بنا التفكير مباشرة إلى حنايا الفلسفة البوذية التي تحاول الاشتغال على سعادة الإنسان بنبذ الهموم والسعي لحالة النيرفانا واطمئنان النفس وسكينة الروح، وهو أسلوب اعتمدته أغلب الفلسفات الصوفية عموماً، إذ أخذت عن بعضها وتلاقحت اشتغالاتها وتنوعت مراميها. وقد تناولها عمر الخيام في حيز منها في رباعياته التي أنشدتها أم كلثوم:
لا تشـــغل الـبال بماضي الزمان ولا بـــــآتي العيش قبل الأوان
واغنم من الحــاضـر لـذاته فلـــيس في طبع الليـــــــالي الأمان
لكن صاحب "حارس الفيسبوك" يخاتلنا في معنى تلك الابتسامة التي يعنون بها نصه: هل هي لاطمئنان النفس أم تورية للتناقض في المعنى المستعار من التسمية ذاتها لأول تفجير نووي في الهند "ابتسامة بوذا" أم ليتوغل في الفكر الصوفي والفلسفة البوذية؟ مروحة من الاحتمالات في معاني التسميات التي كانت سمة بارزة في نصه السردي لناحية السخرية في بعضها كتسمية مديره بالسيد كيرميت بتورية لفساد الإدارة وتجارته بالضفادع، وفي بعضها الآخر للمفارقة بحضور شخصيات من عالم الغيب في غرائبية متصاعدة لا تقف عند حد.
يذهب السارد في رحلة عشقية مع صديقة عرفها عبر عالم الإنترنت بأسماء أطلقها كل منهما على الآخر "مار وتاليا"، ليسرقا من العمر توهج الروح والجسد. وهنا، تبدأ لعبة الاحتمالات معه: هل يصل إلى مبتغاه أو تتحطم به الطائرة، كما حصل مع كاميليا عشيقة الملك فاروق؟ وماذا لو مات أنيس منصور بدلاً منها في تجريب حيوات أخرى كاحتمال أو رغبة مدفونة في داخل كل منا؟ ليصل إلى الفندق المقصود ذي الحجز المسبق، حيث بدأ فيه حياة مكثفة في رحلة إلى شواطئ معانٍ تلتبس إشاراتها وتؤدي المفارقة الحاصلة بأسماء الشخصيات والأفكار والتهويمات دوراً محيراً نتيجة فقدان المنطق الواقعي للأشياء برؤى ما بعد حداثية لناحية التشكيك في أسلوب ومكان وجودها والتلاعب بنواميس الوجود، كالموت والحياة وفقدان التخوم في ما بينها وتحطيم جدار النوم واليقظة، فدائماً ما يوقعنا الكاتب في التباس حقيقة وجود شخوصه، فبعدما استقبله الضخم الباكستاني الذي أطلق عليه اسم "بوذا"، والذي قاد رحلة تجواله، فوجئ باستيقاظه في فندق مهجور لا يقيم فيه أحد في رحلة تيه، إلى أن التقى من سمّاها "سعاد حسني"، التي تؤدي دور نادلة المطعم في الفندق، فهو يعمد إلى كسر الإيهام بحقيقة ما يحصل، فبعدما أقنعنا بأن من يقابلها شبيهة سعاد حسني، وليست هي، يسحبنا استطراده في الكلام معها ليؤكد أنها هي عندما قالت له: "لو ضايقتني ممكن أعزمك على مسقعة"، بتضمين إشارة لفيلمها "موعد على العشاء" الذي تقوم فيه بتسميم زوجها بـ"أكلة المسقعة".
كل ذلك بسلاسة الحديث الناعم مراوحاً بين العنف والسخرية ليتحرك قليلاً عن الفانتازيا ليقر بأنه الروائي وسعاد حسني بطلته المفترضة التي يريد أن يؤلف كتاباً عنها.
في كل مكان من لحظة دخوله الفندق حتى الصعود في طوابقه، ما من شخصية تظهر عرضاً. كلها تعكس وجهاً آخر غرائبياً يظهر في ما بعد ليخالف افتراضات السارد، فكل شيء موجود ومخفي في الوقت نفسه، كل إغراء يعقبه خيبة؛ كل وضوح يعقبه غموض ومتاهة؛ في رحلة لاوعي وفقدان الحدود بين ما هو افتراضي أو خيالي وبين واقع مترجرج بنته ذاكرة من متاهات روايات وأساطير وحكايا احتشدت في ذاكرته وكونت شخصيته التي تدّعي لامبالاتها بشيء، ولكنها في أعماقها معنية بكل شيء، يشرح ذاته بأنه ضحية ندوب عميقة.. ندوب إثبات الرجولة في غياب أب ووحدة أم في متاهة سقوط جدار الواقع، فلا نميز بين ما يفكر فيه وبين ما يحدث فعلاً، ليلوح جزء من واقع الشخصية الحقيقة في غياب أبيه وتفرد أمه بتربيته وموتها وواقع العمل الوظيفي وانتهازية المدير، إذ يضرب ستاراً على زمنه الحقيقي ليبدأ تلك الرحلة الغرائبية بعالم افتراضي لا شيء يبدو حقيقياً فيه، إنما غوص في معاني الأشياء معترفاً بأن أناه بناء هش من ألف قصة وألف أغنية وألف إحساس، وهو إلى ذلك غير معني بإصلاح العالم، ولكنه حس السخرية الخفي الذي يفضح زيف ادعاء السارد باللامبالاة، فهو يدخل إلى مطعم سعاد حسني في رواية لم يكتبها بعد، وتخرج له تاييس من رواية أناتول فرانس، وتهبط مادونا من إطار الصورة، وتصعد كنداكي من المسبح في جيم تديره شويكار، وتسيبا ترعى النبع والتوتة.
الغرائبية والفانتازيا بين واقع غير مدرك تصبح وقائعه الاحتمالية حقيقة في واقع آخر جعلت كل ما يراه مجرد إطارات تتحرك فيها شخصيات من خياله وذاكرته كماء يتشكل بحسب البحر والنهر والبئر، وبحسب الكوب مالح وعذب وثلج وبخار، وفق تعبيره، فالصور التي رآها في مقدمة الفندق كانت من خياله وليست من الواقع، مخاتلاً القارئ الذي ما إن يقف معه على أمر أو يستقر على فهم حتى يبلبل قناعته بأنه أمر آخر مبهم كذلك.
ولعل من أبرز سمات أدب ما بعد الحداثة التركيز على عالم المهمشين من البشر، إضافة إلى التشكيك في المسلمات وكسر قدسيتها، فالباكستاني سائق الحافلة أعطاه دور الحكيم العارف والناطق بالحكمة الذي يؤكد أن الصلاة وسيلة لإراحة الشخص وتنقية الأرواح من سمومها.
يغرق الكاتب النص بفانتازيا الفلسفة، إذ يردد حكم "تاليا" التي لم نعرف إذا التقاها، والتي لم يجد سوى رسالتها بالفندق مثل: "لا معنى أن تتفرج على متع الحياة ولا تعيشها أو تجربها"، لتثير التساؤلات الوجودية المؤرقة: هل نتلقى معرفة بلا حواس؟ كيف يترسخ خبر في ذاكرتك دون مجسات استشعارية أو مسرى تنتقل من خلاله؟
بفهم صوفي عميق في تعبير منسوج على فلسفة ابن عربي: "كل طقس لا يحيل إلى خلاص لا يعول عليه"، فمحاولته في التقاط صورة الطائر ذي المنقار الأصفر والمرأة بالثوب البرتقالي تلاشت حين ضغط على زر الكاميرا ولم يصور سوى عشب وعمود إنارة في تلميح لوهم يعتمل في داخله وغور أكبر في فانتازيا الخيال والغرائبية التي تنضح من خلايا النص.
نص شريف صالح هو سفر في فندق التاريخ والذاكرة... الفندق هو الحياة وخياراتها، ففي كل سفر ولادة وشحتها ظلال ثقافة كثيفة عبقت بالأساطير والفلسفة والمرويات وشخصيات تخيلها أو حلم بها وعرفها بإطارات مختلفة، عبر تهشيم قواعد الرواية التقليدية في تجريبية اجتراح أسلوب خاص كمن يسير في مجهول، وكما الحياة نكتشفها تباعاً ضمن المتناقضات وضمن ما اختزن في الذاكرة من أحداث وأفكار ورؤى، وأولها تحطيم أفق توقعات القارئ الذي يفترض جواً ساخناً لعشيقين اتفقا على تمضية رحلة عاشقة، ولكن تمضي الأيام ولا لقاء، ممسكاً بتشويق قارئ يترقب استمراراً لما بدأ به، ولكنه يأخذه إلى مكان آخر ويسرح به في لعبة خلق الأسئلة والخروج عن الثابت والمألوف عبر ترانيم لغة وأفكار وتداعيات تتغيا أفقاً مغايراً للمتعة والسؤال.