عن يوسف الخال.. جدران وحريّة وولادات متكرّرة
اكتشف محمد الماغوط ونخبة من الشعراء والشاعرات العرب. في اليوم العالمي للشعر، من هو يوسف الخال؟
"كان صانعاً ومؤسساً ومتواضعاً.. وأنانياً كذلك، إلى أبعد الحدود. للصداقة عنده أهمية، وخصوصاً مع الشعراء، لا يفرّط فيها بسهولة. مضياف يحتفي دائماً بالآخرين. كان مهووساً بموضوع اللغة العربية، ويدعو إلى التخلي عن الإعراب وحركاته، لكنه يخالف الدعوة إلى الكتابة بالحرف اللاتيني، أو الكتابة باللهجة الدارجة أو العامية. كان يفرح بالشباب وبالتجارب الواعدة. كان فناناً وشاعراً وصاحب مزاج. يقدّر النكتة وإن كان راوياً سيئاً لها"، هكذا يصف الصحافي والنّاشر السوري الراحل، رياض نجيب الريّس، صديقهُ الشاعر اللبناني/السوري يوسف الخال، في مداخلةٍ بشأن "مجلّة شعر" ألقاها في "ملتقى الشعر العربي"، الذي أُقيم في دمشق عام 2008.
وإن كان الحديث عن مجلة "شعر" - ومشروعها وأثرها وتداعياتها - لا يمكن أن يمرَّ من دون ذكر الشاعر المثير للجدل، والمولود في "عمار الحصن" من قرى وادي النصارى في حمص السورية، والناشئ في طرابلس شمالي لبنان، فإن الحديث عن يوسف الخال لا بدَّ من أن ينطلق من "شعر" نفسها، لا بصفته ناشرها فحسب، بل لأنّهُ بثَّ أيضاً، في المطويّ من صفحاتها، البارزَ من قصائده ومواقفه وآرائه وترجماته. ولأنَّ "خميس مجلّة شعر" - ملتقى نخبةِ الشعراء والكتّاب في بيروت الخمسينيات (1957-1959)، حيث تمَّ اكتشاف محمّد الماغوط، ومطبخ الأفكار الخارجة عن المألوف حيث بدأت "لن" أنسي الحاج - انعقدت جلساته الأولى في صالة فندق بلازا في شارع الحمرا، ثمَّ انتقل لينعقد في منزله عند نزلة أبي طالب في رأس بيروت، ولأنَّ المجلّة ماتت بعد "اصطدامها بحاجز اللغة"، بحسب تعبير الخال نفسه عام 1964، ثمَّ عادت إلى الحياة عام 1967، كأنّها تحاكي أسطورة البعث التمّوزيّة، وما لبثت أن ماتت نهائيّاً عام 1970، بعد أن رسّخت دعوة شعرائها إلى التجاوز، فنالت الخلود كأيقونة، فإن المعنيَّ الأوّل بهذه التحوّلات كلّها هو لا غيره، يوسف الخال.
لكن، كما أنّه لا يجوز اختصار مجلّة "شعر" التي ضمّت شعراء ومفكّرين كباراً، أمثال أدونيس وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهما، في شخص مؤسّسها ورئيس تحريرها في فترتها الأولى (في فترتها الثانية أدارت المجلّة هيئة تحرير كان يوسف الخال أحد أعضائها)، فكذلك لا يجوز اختصار حياة الخال وتجربته الغنيّة في المجلّة المثيرة للجدل والإعجاب معاً، فخرّيج الجامعة الأميركيّة في بيروت، وأستاذ الأدب العربيّ فيها لاحقاً، لم يرحل في مثل هذه الأيام من آذار/مارس عام 1987 من دون أن يترك أكثر من 20 كتاباً بين الشّعر والنّثر والنّقد والتّرجمة.
أوّل هذه الكتب مجموعةٌ شعريّة ذات عنوانٍ دالٍّ على منطلقات يوسف الخال الفكرّية: "الحريّة". مفردة هكذا، أصدرها عن منشورات "دار الكتاب" عام 1944 وهو عام تخرّجه. بعدها انصرف صاحب "البئر المهجورة" أعواماً للتّدريس في الجامعة الأميركية في بيروت، قبل أن يسافر إلى الولايات المتّحدة عام 1948 للعمل في دائرة الصحافة والنشر في الأمانة العامّة للأمم المتّحدة، وهناك تعرّف إلى زوجته الأولى، الرسّامة اللبنانيّة هِلِن الخال، وعادا معاً إلى لبنان عام 1955، بحيث عمل فترةً قصيرة في "دار الصيّاد"، قبل أن يعود إلى التّدريس، ثمَّ يتفرّغ بعد 3 أعوام لإصدار مجلّة "شعر" وتحريرها وإنشاء مطبعة ودار نشر تحملان الاسم نفسه، من أجل نشر أعمال الكتّاب الذين بدأت تستقطبهم المجلّة وأفكارها الجذريّة.
من "خميس شعر" إلى العالم
حين صدر ديوان أدونيس "قصائد أولى" استكتب يوسف الخال بعض النقّاد بشأنه، لكنَّ تلك المقالات لم تعجب يوسف، فقال لأدونيس دع خالدة تكتب، فأجابه أدونيس: لكنَّ خالدة لم تكتب نقداً في حياتها، فأجابه مصرّاً: سوف تكتب! كرّرَ أدونيس: هي تكتب نصوصاً وجدانيّة، لكن لم يسبق لها أن كتبت النقد، فأصرَّ يوسف الخال مؤكّداً: بلى، إنّها تعرف وستكتب، سمعتُ مداخلاتها في جلسات (خميس شعر)".
هكذا – كما تذكر في مقابلة صحافيّة - بدأت الكاتبة والناقدة خالدة سعيد رحلتها مع النّقد، بعد أعوام على زواجها بأدونيس، الذي سافرت معه إلى بيروت لتلتقي يوسف الخال ورفاقه، وتصبح واحدةً من شخصيّات مجلّة "شعر". كتبت بدايةً باسمٍ مستعار، وواكبت نقديّاً تجارب أخرى لاحقاً، كمحمود درويش ووديع سعادة وعبّاس بيضون وغيرهم، وصدر كتابها النّقدي الأوّل "البحث عن الجذور" عام 1960، عن دار مجلّة "شعر".
قبلها بعام، كان محمد الماغوط يُصدر مجموعته الشّعرية الأولى "حزن في ضوء القمر" عن الدّار نفسها أيضاً. وفي صفحات مجلّة "شعر" كُتب الإعلان التّالي: "حزن في ضوء القمر/ شعر/ محمّد الماغوط/ هذه أوّل مجموعة تظهر لهذا الشاعر الفذّ الذي أوجد لنفسه طريقة جديدة في الأداء الشّعري، فصادفت عند الشعراء تحبيذاً وعند القرّاء ترحيباً وحماساً. إنّه وجه طالع مشرق في هذه المرحلة من نهضة الشعر العربي".
كان أدونيس قدّم رفيق سجنه محمّد الماغوط إلى الحضور في إحدى جلسات خميس مجلّة "شعر". تعرّف إلى يوسف الخال ونشأت بينهما صداقة. في العام التالي، 1960، أصدر الماغوط عن الدار مجموعة ثانية بعنوان "غرفة بملايين الجدران"، لكن لم ينقضِ عام 1961 قبل أن ينسحب صاحب "ضيعة تشرين" من المجلّة ويهاجمها بعنف - لأسباب جماليّة وسياسيّة واجتماعية وثقافية - في مقالٍ بعنوان "نخبة مجلّة شعر"، نُشر في جريدة "الأنوار" اللبنانيّة.
الولادة الثانية والزواج الثاني
لاحقت المعارك والاتهامات بالتغريب - بعد تبنّيها قصيدة النثر - حتّى التخوين - بسبب موقفها تجاه الأدب السياسي والتراث - مجلّةَ "شعر" وعُصبتَها، التي ما لبثت أن انفضّت عام 1964، ليتفرّغ الخال لأعماله الأخرى، بما فيها محاولة إحيائها لاحقاً، فشارك في ترجمة "ثلاثة قرون من الأدب" لنورمان فورستر من الإنكليزية، وأدار دار النهار للنشر في بيروت، حيث التقى زوجته الثانية، الشاعرة والرسامة مها بيرقدار، واستمر زواجهما حتّى وفاته بعد صراع مع السرطان عام 1987، وأنجب منها ولداً وبنتاً هما يوسف وورد، وهما ممثّلان معروفان.
لعلَّ نزار قباني أنصف يوسف الخال ومجلّة "شعر"، في كلمة ألقاها في لندن عام 1986، حين قال إن: "مجلّة شعر فتحت باب الاجتهاد ولم تفتح كازينو للقمار، فتحت أفقاً ولم تفتح ميليشيا شعريّة مسلّحة، طالبت بحريّة التعبير ولم تطالب بحريّة الاغتيال، طالبت بالتجريب ولم تطالب بالتخريب، بشّرت بولادة القصيدة الآتية ولم تسخر من القصيدة الماضية، هيّأت مناخ الحريّة وتركت الشباب يشتغلون كلٌّ حسب موهبته أو حسب ما أعطاه الله، وإن كانت مجلّة شعر اتُّهمت بالعمالة والقبض من السفارات الأجنبية، فهذه التهمة أصبحت تهمة كلاسيكية من صميم التراث السياسي العربي، تُلصَق بكل من يحاول الخروج على سلطة أهل الكهف ومنطق أهل الكهف وشرائع أهل الكهف".
في مطلع الثمانينيات، أصدر "بطريرك الحداثة"، كما وصفه قبّاني نفسه، مجموعة شعرية بعنوان "الولادة التانية" كتبها "باللغة العربية الجديدة"، بحسب تعبيره، وتبدو فصحى مخفّفة، أو خليطاً من الفصحى والمحكيّة اللبنانيّة، تأتي في سياق محاولاته "اختراق حاجز اللغة"، الذي لم تنجح مجلة "شعر" في اختراقه. لاحقاً أصدر مجموعة نثرية بعنوان "يوميات كلب"، وكتاب "على هامش كليلة ودمنة: منطق الحيوان"، يحمل الطابع اللغوي الجديد نفسه.
الحديث عن يوسف "قصائد في الأربعين" يطول ويتشعّب، ونجد أنفسنا في نهاية هذه القراءة معجبين بحيويّة هذا الرجل وتوقّد ذهنه. أمّا شعره فالأحسن من الحديث عنه تركهُ هو يتحدّث عن نفسهِ ونفسِ صاحبه، عبر قصيدة "البئر المهجورة"، التي نُشرت في العدد الثاني من مجلّة "شعر" (نيسان/أبريل 1957)، ونختم بها هذا المقال:
عرفتُ "إبراهيمَ"، جاريَ العزيزَ، من زمانٍ،
عرفتُه بئراً يفيض ماؤُها
وسائرُ البشرْ
تمرُّ لا تشرب منها، لا ولا
ترمي بها، ترمي بها حجرْ.
"لو كان لي أن أنشر الجبينَ
في سارية الضياءِ من جديدٍ"،
يقول إبراهيمُ في وُريقةٍ
مخضوبةٍ بدمّه الطليلِ،
"تُرى، يُحوّلُ
الغديرُ سيرَه كأنْ تبرعم الغصونُ
في الخريف أو ينعقد الثمرْ،
ويطلع النباتُ في الحجرْ؟"
***
"لو كان لي،
لو كان أن أموتَ أن أعيش من جديد،
أتبسطُ السماءُ وجهَها،
فلا تمزّق العقبانُ في الفلاةِ
قوافلَ الضحايا؟ أتضحك المعاملُ
الدخانُ؟ أتسكتُ الضوضاءُ في الحقولِ،
في الشارع الكبيرِ؟ أيأْكل الفقيرُ خبزَ
يومهِ بعرق الجبينِ،
بعرق الجبينِ لا بدمعة الذليلِ؟"
***
"لو كان لي أن أنشر الجبينَ
في سارية الضياءِ،
لو كان لي البقاءُ،
تُرى، يعود يولسيسُ؟
والولدُ العقوقُ، والخروفُ، والخاطئُ
الأُصيبَ بالعمى
لِيُبصرَ الطريقا؟"
وحين صوَّب العدوُّ مدفعَ الردى
واندفع الجنودُ تحت وابلٍ
من الرصاص والردى،
صِيح بهم: "تقهقروا. تقهقروا.
في الملجأ الوراءِ مأْمنٌ من
الرصاص والردى".
لكن "إبراهيمَ" ظلّ سائراً،
إلى الأمام سائراً،
وصدرُه الصغيرُ يملأ المدى !
"تقهقروا. تقهقروا.
في الملجأ الوراءِ مأمنٌ منَ
الرصاصِ والردى!"
لكنَّ إبراهيمَ ظلّ سائراً
كأنه لم يسمعِ الصدى.
***
وقيل إنه الجنونُ.
لعله الجنونُ.
لكنِّي عرفتُ جاريَ العزيزَ من زمانٍ،
من زمن الصِّغَرْ
عرفته بئراً يفيض ماؤُها،
وسائرُ البشرْ
تمرُّ لا تشربُ منها، لا ولا
ترمي بها، ترمي بها حجرْ.