عرب آسيا الوسطى.. من هم، وبأي لهجات يتحدثون؟
من هم عرب آسيا الوسطى؟ وهل يمكن أن نسمع لهجات عربية أخرى خارج بخارى؟
يحلّ فصل الربيع في مدينة بخارى، تبدأ التحضيرات لاحتفال سنوي ضخم يحمل عنوان "مهرجان الحرير والتوابل"، وهو تقليد حديث بدأ العمل به منذ 23 عاماً. تنفض المدينة القديمة عنها آثار الصقيع، وتتزين بأبهى الحلل لتستعيد مجداً غابراً مرّت عليه الحقب. في هذا الجوّ المفعم بعبق التاريخ تختلط لغتي أهل المدينة الأوزبكية والطاجيكية، وتتناثر مفردات عربية دخلت فيهما بين الحين والآخر، لكن المفاجأة أن تسمع حديثاً عربياً مفهوماً إلى حد كبير. أي لهجة عربية هذه؟ ومن يتحدّث بها؟ وهل يمكن أن نسمع لهجات عربية أخرى خارج بخارى؟
إنهم عرب آسيا الوسطى، الذين يشكّلون أقلية عرقية تندمج مع السكان المحليين إلى حد بعيد، لكنها ما زالت تحافظ على اللغة العربية بصعوبة. أقلية تحتفظ بلهجاتها لكنها لا تصارع ضد الذوبان في محيطها. يعتبر الباحثون أن اللهجات التي يتحدث بها عرب آسيا الوسطى الشائعة بين عرب طاجيكستان وأوزبكستان الحاليتين، هي من اللهجات المهدّدة بالانقراض، بعدما كانت أداة التواصل والتعبير لدى العديد من المجتمعات المستقرة والبدوية لدى قبائل استوطنت نواحي من مناطق سمرقند وبخارى وقشقداريا وسرخانداريا (أوزبكستان الحديثة) ومنطقة خاتلون (طاجيكستان الحديثة) وفي بعض مناطق أفغانستان الحديثة.
متى وصلوا؟
ظهر العرب الأوائل في آسيا الوسطى في القرن الثامن أثناء "الفتوحات" العربية. منذ ذلك الحين، عاش معظم عرب آسيا الوسطى في مجتمعات معزولة نسبياً، حيث لم يختلطوا مع سكان البلاد حتى أواخر ستينيات القرن العشرين. وذلك ما سمح للغة العربية بالبقاء حتى هذا الوقت.
لكن خلال حقبة الاتحاد السوفياتي، اضطر عرب آسيا الوسطى في أوزبكستان وطاجيكستان إلى التخلي عن أسلوب حياتهم البدوي، وبدأوا في الاختلاط مع الأوزبك والطاجيك والتركمان. حالياً، يتم التحدث باللغة العربية في آسيا الوسطى في عدد قليل من البلدات، والمتحدثون الأصليون بهذه اللغة هم في الغالب من كبار السن.
بعد عدد من الجولات الإثنوغرافية، وضع الأساس لدراسة لهجات آسيا الوسطى العربية في ثلاثينيات القرن العشرين الأكاديمي السوفياتي غيورغي فاسيليفيتش تسيريتيلي (1904-1973) وإسحق نتانوفيتش فينيكوف (1897-1973)، عبر عمل تأسيسي احتوى على 67 نصاً مسجّلاً من أحاديث سكان عرب من قريتي جوغاري وعربخانه، تراوحت أعمارهم بين 25 و64 سنة.
كما أدّى الأكاديمي البارز إغناتي (اغناطيوس) يوليانوفيتش كراتشكوفسكي (1883-1951) دوراً مهماً في اكتشاف اللهجات العربية في آسيا الوسطى، ما اعتبره "أعظم اكتشاف علمي يدل على ثورة أكيدة في اللهجات العربية". وكان قد أوفد في عداد إحدى البعثات العلمية تلميذته الباحثة الأكاديمية الفلسطينية كلثوم عودة فاسيليفا (1892-1965)، التي كانت تنشر نتائج بحوثها في المجلة الإنثنوغرافية السوفياتية، قالت آنذاك (صيف 1935): "تغيّرت ملامح الكثيرين منهم لتزاوجهم بالأوزبكيّات والتركمانيّات والطاجيكيات، وإن كانوا هم لا يُزوِّجون بناتهم لغير العرب. ولهذا بقي فيهم الكثير من الجمال العربيّ البدويّ؛ قوام أهيف وخصر ضامر وسواعد ممتلئة وعيون سود كحلاء".
تجدر الإشارة أيضاً إلى عمل تسيريتيلي لإثبات وجود لهجتين مختلفتين، هما لهجتا بخارى وقشقداريا، نتيجة مهمته العلمية الأولى في آسيا الوسطى عام 1935. كما كرّس نيقولاي فلاديميروفيتش يوشمانوف (1896-1946)، وبعده أوتو ياستروف وقنسطنطين فيستريخ وغيرهم من الباحثين جهودهم لهذا الموضوع، وقدّم الباحث العراقي مظفر عبد الرومي إضافة مهمة عبر مقارنته لهجة قشقداريا باللهجتين العراقيتين القديمة والحديثة.
ومن الخبراء البارزين في دراسة اللهجات العربية في آسيا الوسطى البروفيسور غورام تشيكوفاني (جيكواني)، مدير مركز دراسات الدول العربية والعالم الإسلامي في جامعة تبليسي الحرة. يقوم تشيكوفاني بجمع المواد اللغوية في منطقتي بخارى وقشقداريا في أوزبكستان منذ ثمانينيات القرن العشرين، وقد نشر 4 دراسات وأكثر من 50 مقالاً علمياً عن عرب آسيا الوسطى وتاريخهم وثقافتهم ولغتهم وفولكلورهم وعاداتهم.
كم عددهم؟
يفترض الباحثون أن منطقتي قشقداريا وبخارى شهدتا موجتين للهجرة العربية إليهما. من المرجح أن الموجة الأولى حدثت في القرنين السابع والعاشر الميلاديين، حيث من الممكن أن يكون استيطان الأسلاف المباشرين لعرب قشقداريا في هذه المنطقة قد حدث آنذاك، لكون سكان قرية غيناو حافظوا على التقليد الشفهي لاستيطان أسلافهم في القرون الهجرية الأولى. وتشير المصادر التاريخية إلى وجود العرب في منطقة قشقداريا بآسيا الوسطى في القرنين السابع والثاني عشر. فالعرب الذين يعيشون في قشقداريا الحديثة، وأولئك الذين استقروا في القرنين السابع والعاشر، مرتبطون بعضهم ببعض.
إن مقارنة لهجة القشقدارية مع لهجة بخارى على مستوى المعطيات اللغوية تثبت أن لهجة قشقداريا العربية أكثر قدماً، ولها أوجه تشابه أكبر مع العربية الفصحى، وهو ما يمكن تفسيره بعزلتها الجغرافية واللغوية عن بقية اللهجات.
إذ تنتمي اللهجات العربية في آسيا الوسطى (لهجتا بخارى وقشقداريا على نحو خاص) إلى المجموعة الشرقية من اللهجات العربية. وهذه اللهجات توفّر مواد بحثية غنية للباحثين في اللسانيات والتلاقح اللهجي على مستوى التواصل بين اللغات السامية (العربية)، والهندو أوروبية (الطاجيكية، الأفغانية الدرية) والتركية (الأوزبكية، التركمانية). تختلف لهجتي بخارى وقشقداريا لغوياً عن اللهجات العربية الأخرى، وقد اعتبرتا مستقلتين عن اللهجات العربية.
كما لاحظ الباحثون فروقاً بين هاتين اللهجتين، ولهذا السبب في بعض الأحيان لا يفهم عرب بخارى وقشقداريا بعضهم البعض، ويفضّلون التحدّث في ما بينهم باللغة الأوزبكية أو الطاجيكية. ويمكن تفسير الاختلاف اللغوي بين اللهجتين باختلاف موجة الهجرة ووقتها لكل واحدة منهما. ولهذا السبب تُلاحظ اختلافات في التلفّظ بحروف العلة وفي الصرف، وكذلك في المفردات. ولا يخفى كذلك تأثّر كل منهما بالموقع الجغرافي السياسي، إذ تتأثّر قشقداريا باللغة الأوزبكية (التركية)، فيما تتأثّر البخارية العربية بالطاجيكية (الفارسية الدرية).
في ما يتعلق بعرب بخارى، فمن المحتمل أن أسلافهم المباشرين قد استقروا في منطقة جدوفان الحالية في القرن الــ 14. ويمكن افتراض ذلك بناءً على التقاليد الشفهية، فإن أسلاف عرب بخارى قد استقرّوا في آسيا الوسطى على يد تيمورلنك. يُظهر التحليل اللغوي للهجة البخارية بعض الظواهر الجدلية المشتركة بين اللهجات العربية، والتي لم تشهد عليها المصادر الأدبية قبل القرن الــ 14.
يتحدث بلهجة بخارى العربية سكان قرى دجارغاري، تشاغداريا، شوخانبيه، منطقة غيجوفان، في منطقة بخارى، وكذلك قرية عربخانه التابعة لمنطقة فوبيند، بينما يتحدث باللهجة العربية القشقدارية في قرى جيناو وكاماشي، بشكيند شمال غرب منطقة كارشي.
وفقاً للبحث الميداني لتشيكوفاني، يتحدث بلهجة بخارى ما يقرب من 3 آلاف شخص في تلك البلدة في الوقت الحالي، بينما يتحدث ما يصل إلى 1500 شخص باللهجة القشقدارية العربية. أهؤلاء كلّ من تبقّى من الـ17 ألف نسمة، الذين ذكرتهم كلثوم عودة في تقريرها؟
بطبيعة الحال، يتجاوز عدد السكان العرب في تلك البلاد، بشكل كبير، عدد الناطقين بها وتغيب الإحصاءات الرسمية، ومن المقدّر أن تختفي اللهجات قبل ذوبان الأقلية في محيطها. وربما يؤدي غياب النص العربي المكتوب (سواء بالحرف العربي أو السيريلي) وعدم معرفة عرب آسيا الوسطى الكتابة بالعربية دوراً في اضمحلال لهجاتهم شيئاً فشيئاً. لكنهم ما زالوا هناك، يكسب معظمهم عيشه من الأنشطة التقليدية كتربية الأغنام وبعض الحرف اليدوية وتقوم النساء بحياكة السجاد العربي التقليدي، كما أنهم يشاركون بنشاط في الزراعة، ويتزوجون من بعضهم البعض... إلا أنهم أيضاً قيد الذوبان والاختفاء كأقلية عرقية.