عبد الحليم فضل الله... أزمة العلوم أم أزمة العولمة؟
يقترح عبد الحليم فضل الله فهماً أعمقَ لحضور الدين في الحياة الفكريّة، يجمع بين دوره التاريخي ودوره المعرفي، بين جوانبه الروحية وجوانبه السياسية.
ينطلق الدكتور عبد الحليم فضل الله، رئيس «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق»، في كتابه «العلم والعولمة – قراءة في الأزمة من منظور اقتصادي ومعرفي» (الصادر عن «مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي») من كون أزمة العلوم ليست فقط انعكاساً للتحوّلات والانهيارات التي يشهدها عالمنا الحديث، وللأزمات الكبرى التي تعيشها المنظومة الرأسماليّة، بل هي ـ أي أزمة العلوم ـ في صلب أزماتنا الكبرى. فحالات الاختلال والفشل التي تعيشها، والانحرافات التي تواجهها، والعقبات التي تعترضها وتمنعها من المضي قدماً في تحقيق التقدم والرخاء، وصناعة التوازن الاجتماعي والتطوّر البشري وحماية الإنسان، إنما هي تجسيد لنظام معولم اقتلع الإنسان من مكانه المركزي في قلب المعادلة الحضاريّة، ليُخضع العالم للمنطق النيوليبرالي القائم على الربح الفاحش والمتوحّش، لديكتاتورية السوق، وللمنطق الإمبريالي الذي يفرض المصالح الاستراتيجية للمركز المهيمن، على المجتمعات والشعوب.
ولم يعد غريباً، والحالة تلك، «أن يؤدي الاستخدام المتحيّز لمخرجات العلوم، أو حتّى تزييفُها، إلى إضعاف الأسس المزعومة للحداثة المتمثّلة في التعددية والتسامح والتنوّع والمساواة، ليصبح العنف الطريقة الأمثل لإعادة تشكيل العالم على هيئة الأقوى».
وكان لا بد إذاً، من تهميش العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، وتحوير هويّة العلوم الاقتصاديّة بفصلها عن العلوم الإنسانيّة واختزالها إلى معادلات رياضيّة، وأخيراً تغليب الأبحاث التطبيقية على البحث النظري في مجال العلوم الطبيعية. فمنطق الربح السريع في العالم الرقمي والتكنولوجي هو الذي يحكم الأبحاث العلمية، التي باتت تخدم متطلبات الصراع والحروب والمشاريع العسكريّة. وهذه الأبحاث التي تقود دفّة التقدم، تجري بإشراف شركات ضخمة وبيروقراطيات حكومية، بعيداً من المؤسسات والمعاهد الأكاديميّة الحاضنة والمجتمع العلمي القديم. هكذا يتوقف الكاتب مثلاً عند الاقتصاد الاستهلاكي الذي أنفق أكثر من نصف ترليون دولار أميركي على الإعلانات في العام 2019، نصفُها تقريباً إعلانات رقميّة. كما يَلفت إلى أن الإنفاق على وسائل الترفيه ووسائط الإعلام الرقمي فاق الإنفاق العسكري، وأن الإنفاق على صناعة التجميل ينمو بأعلى من نمو الإنفاق الصحّي، وقد يتضاعف خلال زمن قصير ليلامس ترليون دولار أميركي!
أما العثرات المزروعة في طريق العلم، فيرى الدكتور فضل الله أنّها قد تُعزى إلى الاقتصاد السياسي الذي يتحكّم بتمويل الأبحاث، أو إلى الانقسامات غير المبرّرة في مجتمع البحث العلمي والمنافسة غير النزيهة بين باحثيه. وإذا كان من أمثولة يمكن استخلاصها من جائحة كورونا وغيرها من الكوارث، يكتب، فهي أنّ قوانين السوق لا تصلح لحلّ مشكلة الإنتاج العلمي على المدى الطويل، لانحيازها إلى تلبية الحاجات المباشرة، وضعف قدرتها على التقاط الطلب الاجتماعي والتعامل الاستباقي مع الكوارث.
«لا تُدان الليبراليّة الجديدة - يكتب الدكتور فضل الله – فقط بسبب ما تفصح عنه من تعظيم لدافع الربح والكسب، ومن حثّ على زيادة المنفعة والمتعة بوصفهما علامتين بارزتين في طريق الرفاهيّة، بل لما تسكت عنه أيضاً، بتركها زمام الأمور إلى التكنولوجيا، لتقرير مصير البشر، وتحديد مستقبل عيشهم، وهكذا صارت التكنولوجيا ذاتية التطوّر في جانب، والسوق المنفلتة من عقالها في جانب آخر، وجهين لعملة واحدة مآلها سلب الإنسان الحرّ حق اختيار نظام حياته».
وأخيراً لا يمكن تناول كتاب فضل الله، هذا الكتاب الغني بالإحالات والمعارف، القائم على رؤية نقدية وأخلاقية واسعة للتاريخ السياسي والفكري والعلمي والاقتصادي، والحافل بمقاربات غنيّة ومتنوعة في تحليل أزمة العلم بمختلف مجالاته في سياق اقتصاد السوق وقوانينه، لا يمكن تناوله، من دون التوقف عند مناقشته لمكانة الدين ودوره، بعيداً من العلمانيّة السطحية التي باتت ديانة بيضاء وإقصائيّة. لن نستحضرَ المقولة المستهلكة عن «مصالحة العلم والدين»، فالمسألة أكثر عمقاً وتعقيداً. هناك تواشج خفي نستشفه في الكتاب بين منهجيّة ماركسيّة في التحليل (أم تراه إسقاطاً شخصياً؟)، وبين القيم الأخلاقية التي هي جوهر الإسلام. يتناول فضل الله الدين هنا «بوصفه فاعلاً اجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً وأيديولوجيّاً، وحتى ملهماً فكريّاً تنويريّاً وتحررياً».
في زمن تمزّق الهويّات الذي خلّفته العولمة، وعزّزه الاقتصاد المتوحّش الذي انتزع من الإنسان قيمته الانسانيّة، قد يستعيد الدين مكانته الحيويّة في مقلب المعارضة، أو على الأقل «كمَساحة حرّة خالية من حضور القوى المهيمنة اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً» (...) مَساحة بحث عن المعنى، خارج هيمنة الخطاب السلطوي.
يقترح المؤلف فهماً أعمقَ لحضور الدين في الحياة الفكريّة، يجمع بين دوره التاريخي ودوره المعرفي، بين جوانبه الروحية وجوانبه السياسية. يمكن أن نفهم الدين – يكتب - «إلى جانب جوهره الروحي، بأنّه قوةٌ تاريخيّة تقوّي التفاعل بين المعرفة والمجتمع، وكذلك التفاعل بين المثال والواقع». ويضيف: «نحتاج أيضاً في الزمن المناسب إلى ثورة في طريقة إنتاج المعرفة الدينية نفسها، لا تمس جوهرَها الثابت بل طريقة تجسيدها في الواقع، والكيفية التي ترتبط فيها بحركة التاريخ، وبالسيل المتدفق من المفاهيم والتصورات والحقائق والنظم المستجدة التي ولدت على أيدي البشر». ويستخلص: «لا يمكن إدراك هذا المنحى التغييري والثوري للدين، إلا من خلال (...) توسيع معنى الاجتهاد، وتوطيدِ صلاته المتبادلة والجدلية مع العلوم العصريّة».
إنّه لمشروع يستحق الاهتمام حقّاً.