عاليات في حدائقهن.. 3 فنانات مغاربيات تجاوزن المدارس الحديثة في الرسم
تونسية وجزائرية ومغربية. ثلاث فنانات نلن شهرة عالمية بفضل أعمالهن. فما هي المشارب التي نهلن منها؟ ولماذا مثّلت بلدان شمال أفريقيا رافداً مهماً في الفنون البصرية المعاصرة؟
باية محيي الدين: عن النساء العاليات في حدائقهن
مثّلت منطقة القبائل بالجزائر مصدراً مهماً في مسيرة باية محيي الدين الإبداعية. ولا شكّ أن هذا الكنز الجغرافي والإثنوغرافي ترك أثره على أعمالها التي تنوّعت بين النحت على الخزف والرسم المائي. تعلّمت محيي الدين كيفية التحكّم في الزمن والذاكرة بأدوات بسيطة وبفطرة وصفت بالطفولية وبالبدائية. كانت صبية تجسّد خيالاتها بالطين، فتفطّنت إليها سيدة شغوف بهذا الفن، وفي غفلة من الزمان ومن ظروفها الاجتماعية القاسية، مدّت إليها مارغريت كامينات، يد العون لتمارس هوايتها الفريدة وفتحت أمامها أبواب عالم مليء بالألوان والمشاعر.
بدت محيي الدين (1931 - 1998) بنتاً صامتة منشغلة بعالمها العجائبي وفي الآن نفسه تجمع ما اقتنصته عينها من شتات الجمال الموزّع حولها. بيئة تقليدية غنية بالتفاصيل. النساء بثيابهن المتوارثة التطريز ومجوهراتهن وطريقة تصفيف زينتهن وتجميل شعورهن ووجوههن. وجمالهن الشمال أفريقي وحيواتهن المفعمة بالتفاصيل.
هكذا رسمت محيي الدين النساء بعيونهن الساطعة السواد وبنظراتهن التي تشبه نظرات الطير وأدواتهن في البيت. فكانت الأواني والمزهريات والمراوح والوسائد والكثير من الآلات الموسيقية المستخدمة في المالوف الجزائري. ولم تجد هذه الرسّامة حرجاً في أن تجمع في لوحاتها بين الماء والتراب، فرتّبت العالم وفق طريقتها. أسماك وسلاحف وأشجار ونخيل وزخارف تظلّلها يد أنثوية أو قامة ممدّدة على أريكة بغنج واضح. ولم تغفل باية محيي الدين الهدهد والطاووس والسلاحف. ترتيب لمعجم شعبي حول الأرواح وقداسة الطير في المدوّنة الإسلامية وارتباطه بالتعاليم الروحية. فتحة على امتداد اللوحة تطل على فراديس كانت تقضي وقتاً طويلاً في توضيبها.
وتفطّنت الفنانة الجزائرية مبكراً إلى الخرافات الشعبية التي تعجّ بها الموروثات الشفاهية في الجزائر والتي ظلت على مرّ الدهور تنتقل عبر الأطلس والأوراس لتصل إلى تونس والمغرب.
لم تتأثّر محيي الدين ببيكاسو أثناء إقامتها في باريس وعملها في ورشة مادورا بفالوريس بمحاذاة ورشة هذا الفنان. بل نشأت بينهما صداقة لطيفة تحدّثت عنها محيي الدين لاحقاً. ولم يستطع أي من معاصريها مقارنة أعمالها بخوان ميرو أو ماتيس. ذلك أنها كانت تعتمد الكتل المسطّحة التي تشمل الألوان المرتبطة بترتيب النساء والحيوانات في مساحاتها المحددة، وهو ما عبّرت عنه ناتاشا ماري لورانس في بحثها حول مدى تأثير باية محيي الدين في أعمال ماتيس وبيكاسو.
كما تحدّثت الباحثة عن الزخرفة التجريدية القديمة السائدة في شمال أفريقيا والتي تأثّرت بها هذه الفنانة. ورغم أن اندريه بروطون، زعيم السورياليين، أفرد لها مقالاً تمجيدياً في مجلة "وراء المرآة" مع فنانين آخرين أبهرتهم فرشاتها المتفردة، إلا أنه ظل بعيداً من فهم روح هذه الفنانة القادمة من ثقافة أمازيغية لها لغة أخرى للتعبير وللإيضاح تمثّلها الألوان التي اشتهرت بها لوحاتها. كانت لا تتهيّب من البياض وتمزج الوردي الهندي والأزرق الفيروزي والأخضر اللازوردي والبرتقالي والأرجواني الخبازي، وتمزج ألوان البحر مع ألوان الأرض.
ظلت باية محيي الدين وفية لذوقها ولهيئتها التقليدية وكيفية نظرتها للعالم ووفية أيضاً لمقولتها الشهيرة: "لم يعلّمني أحد ما يتوجّب عليّ القيام به. فقد كان يقال لي دوماً (باية اصنعي ما يدور في خاطرك)، وأنا أرسم كما أشاء ومن يريد يفهم ما يريد".
رغم وجود أعمالها في معارض وغاليريهات وفضاءات كثيرة تعنى بالرسم، ظلت باية محيي الدين تلك التي تحدّث عنها الصحافي والناقد الطاهر جاووت قائلاً: "باية هي أخت شهرزاد. تلك المرأة الأخرى التي تحلم لتعويض عزلتها. وها نحن هنا في الحكاية بعوالمها الرائعة. تنسج باية الأشكال والتصنيفات والأبعاد. فالطير يتمدد ويصير أفعى. والأشجار والأكواخ تنحرف. والمزهريات تتفرع لتصبح مثل ذيول أو أعراف الطيور. في هذا النوع من القرى الأصليّة". أما الفرنسي ألبير كامو فوصفها بأنها "أميرة وسط البرابرة"، وبأن أعمالها متعة للعين وللقلب في باريس المظلمة والخائفة. كما أعجب بوقار وقفتها أمام الحشود وقت استقبالها لهم عند عرض أعمالها.
الشعيبية طلال: وجوه تضج بالحياة السعيدة
كما هو الشأن بالنسبة لباية محيي الدين، لم تتلقَ الشعيبية طلال (1929 - 2004) تعليماً مدرسياً، وكان تكوينها الفني شخصياً وفطرياً يعتمد على موهبتها الخام. ولم تستطع جماعة كوبرا في الرسم ضمّها إليها. رغم أنّ هذه الحركة كانت تتبنّى مناهضة التخصص الأكاديمي وتشكيل أسلوب فني جديد. وتدعو إلى خلق أصالة فنية تستمد جذورها من الأساطير والموروثات التي تتسم بها الأعمال الفنية لأعضائها.
وكانت الناقدة وتاجرة الأعمال الفنية، سيريس فرانكو، من المدافعين عن الشعيبية طلال التي ظهرت في مجلات كثيرة أشهرها مجلة "فوغ" مرتدية ملابسها التقليدية ومجوهراتها، ومتشحة بغطاء رأسها المشهور مع وشمها الأمازيغي وزينتها التي تحوّلت إلى مكمّل جمالي لشخصيتها في عالم الرسم.
بعد حلم غريب وهي لم تتجاوز سن الــ 25، قرّرت هذه الفنانة المغربية ذات صباح أن ترسم. واشترت أدوات بسيطة لتحرّر شغفها على الورق. وكما في الحكايات، زارها الناقد الفرنسي بيير جودبيير للاطلاع على أعمال ابنها الفنان حسن طلال، وفوجئ بلوحاتها المتميّزة محدّثاً الحضور "دعوها ترسم. فإما أن تتحوّل إلى فنانة مشهورة وإما أنها ستتوقّف عن هذا". لكن الشعيبية طلال تواصل الرسم وتعرض أعمالها للمرة الأولى عام 1966 في باريس، وهي التي ما انفكت تردّد: "حين أرسم أصبح كالطائر في السماء وكالغرس في الأرض. واللوحات التي أرسمها نابعة من الطبيعة في مسقط رأسي".
الفتاة الصغيرة التي ولدت في قرية "أشتوكة آيت باها"، والتي عرفت بغرابة الأطوار كانت تضع تيجاناً من الزهور فوق رأسها تجمعها من الحقول.
وفي حوار لها مع فاطمة المرنيسي، أكدت أنها كانت مجنونة بعشق شقائق النعمان والأقحوان ومختلف الأزهار. وفي كتاب "الشعيبية أسطورة حية" لعبد الله الشيخ، تجيب الفنانة عن سؤال "لماذا لا توجد في أعمالها أشياء محزنة؟ ولماذا الفراشات والعصافير؟"، تجيب بأنها تحبها وحين ترسم تكون في منتهى السعادة. وهي لا تستطيع شرح ذلك وتنقل فرحها على القماشة. ربما نظراً لطبيعتها المرحة وعدم تعقيد شخصيتها ظلت محافظة على براءتها الطفولية الأولى. روح فتاة ريفية صغيرة قست عليها الحياة ولكنها قاومت بالعمل والفن. لذلك تعجّ لوحاتها بالوجوه المشرقة والمتراصة والألوان المفعمة بالبهجة ومظاهر الحياة اليومية. واتسمت أعمالها بأنها مزيج قوي بين العفوية والخيال الذي بقي طليقاً ولم تشذّبه التعليمات الأكاديمية.
ومن المعروف أن أعمال الشعيبية طلال عرضت أيضاً في عواصم كثيرة وقوبلت بترحاب كبير، لأنّ الفنانة المغربية آمنت بأنها لو غيّرت أسلوبها في الرسم لن تعود هي نفسها.
حياة القاسمي: فنّ عفوي بربري
منذ نحو 5 عقود ترسم حياة القاسمي لوحات صنّفت بأنها مزيج من الفنّ العفوي البربري والأفريقي. ورغم أنها لم تتعلّم قواعد الرسم في مؤسسات متخصصة، إلا أنها اعتمدت على موهبتها.
وقد تحدّثت مع "الميادين الثقافية" عن خصائص تجربتها في عالم الفنون البصرية بأنها تنتمي لمدينة باجة بالشمال الغربي في تونس وهي منطقة أمازيغية.
وأقامت القاسمي أول معرض لها وهي في الــ 15 من عمرها. وورثت الفنانة التونسية موهبة الرسم عن والدها. أما مصادر إلهامها فكان منزل عائلتها.
أما اهتمامها بالرقص الزنجي وبالطبيعة الأفريقية فيرجع إلى المربيات في طفولتها، حيث تعود جذورهن إلى القارة السمراء. وكذلك كان شغفها برسم الألعاب التراثية واعتماد الألوان الحارة المستمدة من مناخنا ومن هذا التداخل بين الفن واليومي. اذ إن الحياة بما فيها من تفاصيل تحيل إلى عالم رحب فيه أشكال وأصناف متعدّدة للتعبير، وهذا موجود في لوحاتها التي تمتد على أكثر من 50 عاماً.