طوفان افتراضي عربي: هل نجحنا في الدفاع عن فلسطين؟
منذ بدء عملية "طوفان الأقصى"، شهدت مواقع التواصل زخماً في التضامن مع فلسطين والتعريف بقضيتها. فهل نجحنا فعلاً في الدفاع عن فلسطين؟
"إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين لا أن نغيّر القضية"، يقول غسان كنفاني. معركة "طوفان الأقصى" ليست الجولة الأولى في زمن الطفرة الافتراضية وقدرة الفرد على التحول إلى جبهة إعلامية متكاملة، ولكنّها أوّل معركة تحظى بهذا التفاعل الشعبي العربي لأسباب كثيرة. فهل نجحنا أخيراً في الدفاع عن القضيّة الفلسطينية بعد أن أدركنا أهمية الكلمة والصورة حين تقترنان بالوعي بكيفية إدارة هذا النوع من المعارك، أم أنَّها مجرّد هبّة غضب عربيَّة مؤقتة؟
ليست مجرّد جولة في صراع طويل. ما جرى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان استثنائيّاً بكل المقاييس، وحجم الإجرام الإسرائيلي الذي عبّرت عنه المجازر كان استثنائيّاً أيضاً.
ليس هذا من باب التناسب بين الفعل وردّ الفعل، فمن البديهي أن فعل المقاومة هو - بمعزل عن مكانه وتوقيته - ردّ مستمرّ ومشروع على فعل عمره 75 عاماً، بل من باب إدراك طرفي الصراع أنَّه وصل إلى مرحلة الحسم: المقاومة بكل تشكيلاتها تعرف أنَّها باتت أقرب إلى تحقيق حلم التحرير النهائي من أي وقت مضى، والعدو أدرك أنَّ تصفية القضية الفلسطينيَّة إلى الأبد لا يمكن لها بعد الآن أن تحصل على مراحل، ولا أن تقترن بالصبر والأناة والقضم البطيء والتدريجي، والأهم، أنَّه بات من الصعوبة بمكان إنجاز ذلك مع الاستمرار بارتداء الأقنعة والقفازات.
واقع المعركة فرض على العدوّ الانتقال في أيام قليلة من حلم تصفية القضية والتخلص من المقاومة إلى الأبد، إلى حلم تحقيق نصر يحفظ ماء وجهه أمام جبهته الداخليَّة ويؤجّل سيناريو السقوط من الداخل، وحتى هذه، كان مضطراً للمفاضلة بين تحققها وبين الاستمرار في خداع الرأي العام العالمي - والغربي منه على وجه الخصوص - وتضليله، وكانت نتيجة المفاضلة اختياره الأولى وانشغاله بها عن الثانية، ومن ثم الفشل في الإثنتين، فلا هو نجح في تحقيق نصر عسكري، ولا في الحفاظ على صورته لدى الرأي العام الغربي كجزيرة تحضّر ورقيّ ومدنيّة وسط محيط من الكراهية والتعصّب والعنف والتخلف، كما يدّعي.
كيف خاض العرب حربهم الإعلامية التي فتحت أدوات العصر الحديث باب المشاركة فيها أمام الجميع من دون استثناء؟ وهل أجادوا - وهم أهل القضية التي لم تكن يوماً إلا قضية إنسانيَّة وعالميَّة - اقتناص هذه اللحظة التاريخيَّة، واستغلال افتضاح همجية العدو أمام العالم كله؟
تأتي وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها "فيسبوك" في طليعة الخيارات التي يفكر بها العربي حين يقرّر التعبير عن قضاياه، لكن "الموقع الأزرق" وأخواته في "ميتا" خيَّب آمال الكثيرين وطور من إجراءاته القمعيَّة مع بداية "طوفان الأقصى"، حتى بات المناصر لفلسطين من خلاله كمن يخاطب نفسه، هذا إن أجاد القفز بين عقبات الخوارزميات وألغامها، وإن لم يفعل فلن يبقى له حساب يخاطب من خلاله نفسه!
هذا الواقع أعاد إلى الواجهة نقاشاً قديماً عن ضرورة استحداث مواقع بديلة، يأتي فيها الآخرون إلينا لا العكس، وعلى هامش هذا النقاش برز سؤال حول حقنا في المطالبة باستخدام هذه المنصة خلافاً لأهواء أصحابها، وعن "الوقاحة" في انتقادنا لهم في عقر دارهم.
النقاش ضروري ولكن توقيته غير مناسب مع احتدام المعركة، أما السؤال فتقتضي الإجابة عنه التفكير في الصورة التي يقدّم "فيسبوك" وسواه من منصات أنفسهم من خلالها كمساحات لحرية الرأي والتعبير مفتوحة أمام العموم، ومناصِرة للقضايا الإنسانية على اختلافها ولحقوق الإنسان كافة.
فتواجدنا في هذه المساحات حق طبيعي لا "وقاحة"، واعتراضنا على قيودها وانعدام العدالة فيها هو من باب إلزام أصحابها بما ألزموا به أنفسهم. لكن شكل الاعتراض ومحاولات "كسر القيد" و"الخروج من عنق الزجاجة" شابها الكثير من الارتجال، فماذا يعني أن ننشغل بنسخ منشورات مكتوبة بصيغ متعددة تتوسل التفاعل من خلال التعليق عليها بكلمة، بوصفه حلاً سحريّاً لكسر الحصار الافتراضي، ثم نكتشف أننا لم نفعل شيئاً في الحقيقة سوى حرف الأنظار عن الحدث الحقيقي من حيث لم نقصد؟
والحقيقة أن قدرتنا كأفراد على التأثير محدودة بمعزل عن القيود المستحدثة، فدائرة أصدقائنا في هذه المواقع تقتصر غالباً على أشخاص يشاطروننا الهوية ذاتها والأفكار ذاتها واللغة ذاتها، والتعويل الحقيقي هو على "المؤثرين" الذين يحظون بنسب متابعة عالية تتجاوز الحيّز الجغرافي الذي يتحدّرون منه.
من هنا عادت فكرة "القوائم السوداء والبيضاء" إلى التداول، لتفصل بين المؤثرين العرب والمسلمين الذين حملوا مظلومية أطفال غزة وحق مقاومتها في الدفاع عن النفس على عاتقهم، وساهموا في تصويب المفاهيم عند الجمهور الغربي، وبين أولئك الذين اختاروا الصمت والاختباء خوفاً على مصالحهم.
وهناك من يستنكر أصل لهاثنا خلف الرجل الأبيض لإقناعه بعدالة قضيتنا في معركة هي الأوضح منذ النكبة، في الوقت الذي لا ينفعنا فيه سوى قوتنا، ولا ينصت العالم إلى صوتنا ويستمع إلى روايتنا إلا إذا كنا أقوياء ومنتصرين، وجزء من هذا الكلام صحيح، ولكنه لا يلغي حقيقة أهمية وصول روايتنا إلى شعوب الغرب، مع ما تمتلكه هذه الشعوب من قدرة للضغط على حكوماتها كي تخفف من دعمها للإحتلال، ما من شأنه أن يؤثر في طبيعة الصراع ويقلب مجريات المعركة تماماً.
من هذه الزاوية، يبدو لوم أيقونات مثل المصري محمد صلاح لاعب ليفربول محقاً ومفهوماً، فإن كان صلاح لا يستطيع تكرار ما صنعه باسم يوسف من تأثير في وعي المتلقي الغربي لحقيقة الصراع، لأن ما فعله باسم لا يمكن لأحد غيره أن يقوم به ببساطة، فإن هذا لا يبرّر الصمت، ولا يبرّره أيضاً الحديث عن "عصامية" صلاح في تحقيق ما حققه من إنجازات فردية. فالمعركة هنا لا تخصّ دولةً قصَّرت في رعاية مواهب أبنائها ولم تقدّم لهم شيئاً، بل أمةً كاملةً ينتمي الفرد إليها سواء اعتزَّ بذلك أم لا، وقضيَّة إنسانيَّة صارت محور اهتمام العالم كله، ولمتابعي ومعجبي الفرد – النجم حق عليه بأن ينطق باسمهم ويهتمّ لأمرهم ويتألم ويفرح معهم، لا يقل عن حقّ الناخبين على من اختاروه لتمثيلهم في مجلس أو هيئة ما.
ذروة العبث والتخبّط في التعاطي الشعبي العربي مع معركة بحجم "طوفان الأقصى"، وما يبرّر الخشية من كونها مجرد فورة عربيَّة مؤقتة تنتهي بانتهاء المعركة، يمكن أن تختصره هذه الحكاية: ينشئ "ناشط" سوري معارض حساباً حديثاً على "تيكتوك" ينشر من خلاله مجموعة من الفيديوهات التمثيليَّة الرديئة، يلهث في أحدها بشكل مفتعل زاعماً أنه يبحث عن جثة لطفل قضى في قصف للجيش السوري. لكننا لا نرى جثة للطفل الذي لا نعرف إلا اسمه الأوَّل، ولا نقع على أي دليل آخر على صحة الكلام، ولا نسمع في الفيديو أصوات قصف أو طائرات ولا نرى دخان القصف ولا آثاره على الإنشاءات ولا أية آثار أخرى، ولو على شكل حفرة في التراب أو ذرّات غبار على ملابس "الناشط" الداكنة النظيفة والمكوية جيداً. نبحث في وسائل الإعلام بما فيها تلك المعادية للدولة في سوريا خبراً عن استهداف للبلدة التي يتحدّث عنها "الناشط" فلا نجد شيئاً، ولا تختلف بقية الفيديوهات عن أولها إلا في رداءة الأداء التمثيلي.
لكن مع ذلك كله، يجد بعض العرب ضرورة ملحّة لقطع تفاعلهم اليومي مع مجازر حقيقيَّة مهولة تحدث في غزة موثقة بالصوت والصورة، للتفاعل مع "عاشق الأضواء" هذا والحديث عن "معاناة الشعب السوري". فالإنسانية لا تتجزَّأ كما يقولون، ولا يلتفت هؤلاء إلى أن الربط المنطقي الوحيد بين سوريا وغزة في زمن "طوفان الأقصى" نجده في التطابق في تشكيلة اللاعبين على كلا المحورين: هنا فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية وسوريا وإيران واليمن والعراق، وهناك "إسرائيل" والولايات المتحدة والغرب المنافق وعرب التطبيع وتكفيريون تباهوا مراراً بتلقيهم العلاج في مستشفيات الكيان، وحين انخرطت فصائل المقاومة جميعها في معركة مفتوحة مع العدو فعّلوا نشاطهم في استهداف مواقعها في سوريا!
يبقى الحكم على الهبة الشعبية العربية في الشوارع والساحات وعلى منصات التواصل، رهن بلحظة ما بعد المعركة، فإن كانت الأغلبية بيننا ممن ستبقى فلسطين حاضرة في قلوبهم وعقولهم وعلى ألسنتهم مدركين أننا لم نكن يوماً إلا في حرب مفتوحة ومستمرة لا تنتهي إلا بتحرير فلسطين كلها وإزالة الكيان من الوجود، فسيمكن القول عندها إن "طوفان الأقصى" نجح في إيقاظ العرب من سباتهم. وإلا، فما علينا سوى انتظار جولة قتال جديدة كي نسارع إلى "كيبورداتنا" ونركب "الترند"!