ضريرٌ غنّى الطبيعة.. الرودكي السمرقندي نصائحه "حلوة كالعسل"
يلقّب بأستاذ الشعراء، ويعدّ أول الشعراء الكبار في إيران الذين نظموا القصيدة بالفارسية الحديثة. من هو الرودكي السمرقندي؟
كثيراً ما تمارس إشعاعات البزوغ الأولى لشمس القصيدة الفارسية، إغواءها مع كل استحضار لرباعية أو بيت مثنوي أو مقفى أو مردف. وكثيراً ما تحاكي ألقاب الشعراء أو ما يسمى "تخلص الشاعر"، ذاك الحس المبهم الجميل فينا، والذي يسوقنا إلى التنقيب عن أثرهم، شاعراً شاعراً، عارفاً عارفاً.
كان ذلك بفضل الترجمات، وما عمل عليه المهتمون وأصحاب الهمم العالية، من سبر أغوار مجرة الأدب والشعر. فعرفنا بفضلهم باقةً من كواكب مشرقة، كالحكيم الفردوسي، والشيخ الأجل سعدي، والشيرازي الحافظ للقرآن، وآخرين.
إلا أن نصيباً، ولو بمقدار ضئيل ربما، لم يصلنا عن بلبل خراسان الأول، أبي الشعر الفارسي، الرودكي السمرقندي.
ولعل ما وصلنا عن سيرته فقط، كان من دواعي الوفاء لحياة زاخرة بالعطاء الشعري المرتبط ارتباطاً وثيقاً بعرى الأخلاق والإنسانية، تولى نقلها إلى القارئ العربي، بكل أمانة، الفيلسوف المتكلم أبو حاتم الرازي اللغوي، معاصر الرودكي، الذي مال بقلبه إلى اللغة الفارسية بعد أن لامس جمال أدبياتها، فألف معجماً في أشعارها، وهو الذي قال عنها:
بلاد بها نيطت علي تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
هو أبو عبد الله جعفر بن محمد بن حكیم بن عبد الرحمن بن آدم الرودكي السمرقندي. وُلِد في قرية "بنج رودك" الطاجيكية المجاورة لسمرقند في القرن الرابع الهجري (25 كانون الأول/ديسمبر 860 ميلادي)، في عصر الحكومة السامانية. الحكومة التي سعت لإحياء اللغة الفارسية الأصيلة وحضارتها العريقة، أكثر من أي حكومة أخرى بعد الإسلام.
فما قبل حملة المغول، عاش المجتمع الإيراني فترة قرون من الرخاء والاستقرار والازدهار في سائر مجالات الثقافة والعلوم والأدب والفنون. وأبدع الفنانون في تلك الحقبة، والأدباء والشعراء والموسيقيون، بحيث جاءت لغة الرودكي الشاعرية، انعكاساً للنسق المعرفي الاجتماعي العام. فكانت المواضيع المطروحة لدى النخب الأدبية والشعرية، تحمل الطابع الاجتماعي الأخلاقي، في مسعى لتحسين وضع الإنسان القيمي في المجتمع.
وعد الشعب الطاجيكي أن الرودكي يمثل هوية بلاده، ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال البلاد، الأمر الذي يراه الزائر بوضوح في أسماء الحدائق والمنتزهات التي تحمل اسمه في العاصمة دوشنبه، وفي تماثيله المنتشرة في مختلف المناطق.
ويجمع النقاد في إيران اليوم، على وصف نصائح الرودكي وتوصياته بـــ "الحلوة كالعسل". ففي زمان لم تكن النصيحة فيه قابلةً للتحمل، كان الناس يتوقون إلى الاطلاع على أبياته الزاخرة بالنصح والموعظة الأخلاقية بشغف. فيقول لهم:
فما الزمان إذا أمعنت طرفك إلا نصيحة
ويقول:
أسداني الزمان نصيحةً كوصية الأحرار
لُقّب الرودكي بأستاذ الشعراء، ويُعَدّ أول الشعراء الكبار في إيران، الذين نظموا القصيدة بالفارسية الحديثة. كانت له شعبية واسعة في بلاط الأمير نصر الساماني، ومدح أمراء البلاط كسائر الشعراء من أقرانه، وجمع ثروةً طائلة، إلا أنه كان بعيداً عن التملق والنفاق. وفي أواخر حياته، عانى جفاءَ السلاطين له، فعاد خائباً إلى قريته، حيث وافته المنية عام 921 م.
تعلم الرودكي القرآن في سن الثامنة، وعُرف بالشاعر المثقف والمتفقه. وبلغ الرودكي مقامه الرفيع من دون معلم أو مدرّس. في كتابه "المعجم في معايير أشعار العجم"، عد شمس الدين محمد بن قيس (أبي حاتم) الرازي الشاعر الرودكي مبدع الشعر المزدوج، قائلاً إن بدايات شاعرية الرودكي تعود إلى أنه ذات يوم، سمع صوتاً عذباً لصبي يلعب بالجوز، وهو يردد فرحاً عبارات وكلمات منغمةً وملحنةً تروق لها النفس، فيقول: "يدور الجوز ويدور حتى يدخل الحفرة"، الأمر الذي ترك أثراً طيباً في نفس الرودكي وجعله يردد اللحن نفسه طوال الطريق إلى منزله. وفي الحال، نظم الرودكي قصيدةً على هذا الوزن الموسيقي.
جمع الرودكي بين الشعر نظماً وإلقاءً، والعزف على القيثارة والإنشاد بصوته وبلغته، بالإضافة إلى الترجمة. ونظم ما يقارب مليوناً و300 ألف بيت شعري بأنماط متعددة، أهمها: القصيدة، والغزل، والمثنوي والقطعة وغيرها.
وُلد أبو عبد الله كفيفاً، أو أصيب بالعمى في أواخر حياته، بحسب ما يذكر بعض الباحثين الذين تأملوا في رومنطيقية الشاعر وتوصيفه الساحر لتفاصيل الطبيعة من حوله، الأمر الذي يستبعد من شاعر خُلق ضريراً، كما عبروا. بالإضافة إلى أن الدراسات التي أجريت على جمجمته وعظامه، أشارت إلى أنه فقد بصره بعد التعرض لمعدن منصهر. هذا الأمر علله البعض بتعذيب تعرض له على خلفية ميوله الإسماعيلية القرمطية آنذاك، وتجاهله المذهب الشائع في زمانه. ولقبه عدد من شعراء زمانه بـــ "شاعر النور ذي العينين الداكنتين".
نظَم الرودكي أشعاره في قالب البيتين، فعُرفت هذه الأشعار فيما بعدُ بالرباعيات، وأصبح الرودكي مبدع القالب الرباعي للأشعار. كما أبدع أوزاناً وقوالب جديدة للشعر الفارسي، محاولاً بذلك إبعاد الشعر الفارسي عن اتباع الأوزان والقوافي العربية، وأفسح المجال لتطور الشعر الفارسي من خلال إنشاد قصائد تعليمية وحكمية وترجمته الكتب والأشعار العربية إلى الفارسية. في إحدى رباعياته (رقم 2)، يحاكي موضوع الحب والحبيب، قائلاً:
قلبي الحزين ينزف من هجرانك دماً
لكن فرحي بهذا الحزن أكبر من حزنه
أتأمل في ليلي وأقول: يا رب السماء!
إن كان هذا هجره فكيف بوصله [1]
ومن أهم أعماله كذلك، نظمُه كتاب "كليلة ودمنة" الهندي و"سندبادنامة" أو رسالة السندباد، على شكل شعر مثنوي بالفارسية. وذكر الشاعر الملحمي الإيراني أبو القاسم الفردوسي قصة نظم رودكي هذا الكتاب في "الشاهنامة"، كما ذكر الشيخ البهائي في كتابه "الكشكول"، أن الرودكي نظم "كليلة ودمنة" في 12 ألف بيت. وفي أحد أبياته المثنوية في "كليلة ودمنة"، يقول:
ليس من كنز يضاهى قدره بثقافة
فاعمر الأرض بما تثقفه أنى استطعت
تتوافر في شعر الرودكي المواعظ والحكم بصورة لافتة، الأمر الذي يتجلى في أشعار الكثيرين من أمثال الكسائي المروزي، وأبي القاسم الفردوسي، وناصر خسرو القبادياني، وغيرهم. غير أننا نجد لشعر الرودكي تأثيراً كبيراً في عدد من الشعراء الإيرانيين، أمثال مولانا جلال الدين البلخي الذي ضمن أشعاره أبياتاً من شعر الرودكي، وكذلك حافظ الشيرازي أكبر شاعر غزل في إيران، والذي تأثر كثيراً بشعر الرودكي وفكره وحكمته ونمطه الشعري، وهذا ما نلمسه بوفرة في غزلياته.
ولعل هذا التأثير يعود إلى عمق المعنى وبلاغة المبنى وانسيابية الموسيقى في النمط الرودكي، والتي شكلت معاً توليفةً أدبيةً تمارس وقعها العميق في القارئ والمستمع، بسبب ما تجمعه من جمالية شعرية بلاغية وموسيقية. ولا يمكن تجاهل القيم العرفانية التي تبث انطباعاً روحانياً على قصيدته، مثل الزهد والورع والتواضع، والصدق والحب والإخلاص والعشق الإلهي. ففي عصره، كان أهل الحكمة دأبوا على مقاربة قضايا الإنسان من نافذة الربوبية والوجود.
وقد ترجم الرودكي أفكاره العرفانية في رباعيات وقصائد عكست مذهبه الباطني الإشراقي، وسلوكه مدرسة الأنبياء والقديسين. يقول:
على خطى سلوك الأنبياء لي نصيب
فكيف أطلب من نهر اليونان الجاف ماءً
هل أربي الجسم والروح جريحة
أيليق بروح القدس أن تحرس كلبي؟
ويتناول في أحد أبياته المقفاة موضوع الاستقامة، فيقول:
اسلك الدرب القويم السهل يا خلي العزيز
وابتعد عن كل درب مستحيل متعب
ويقول في الزهد والاستغناء:
إذا ما وجدت مالاً لا تفخر بنفسك
فيوم ترى وتفهم، سيكون الوقت متأخراً
يُحكى أن الأمير نصر الساماني توجه يوماً إلى هرات من بخارى، وتعلق قلبه بهواء هرات فلبث فيها 4 أعوام. ولم يتمكن أحد من إعادته إلى بخارى. فطلب جنوده، المشتاقون إلى بخارى، من رودكي أن يفعل ما في وسعه لإقناع الأمير بالعودة، في مقابل مكافأة قدرها 50 ألف درهم.
هكذا أنشد رودكي قصيدةً كان نظمها للأمير، وغناها عازفاً على القيثارة في حضرته. يروى أن الأمير نصر فور سماعه الأغنية، غادر هرات إلى بخارى مسرعاً، من دون أن ينتعل حذاءه. ويقال إنهم حملوا حذاءه ولحقوا به وصولاً إلى بخارى.
وكانت القصيدة بعنوان "بوي جوي موليان" بمعنى " رائحة نهر موليان". وهي رباعية من الشعر المقفى المردف في الأدب الفارسي، بحيث إن القافية فيها تنتهي بالألف والنون (موليان، مهربان، پرنیان..) والرديف هو "آيد همى" الواردة في معظم الأبيات في النص الفارسي. فالقافية هي الكلمة التي تأتي آخر الأبيات والشرط فيها ألا تتكرر بعينها ومعناها، فإن كانت متكررةً فهي تسمى الرديف.
ترجمة القصيدة:
إني أشم رائحة نهر موليان
ما زالت تذكرني بعطر الصديق
وعلى خشونته.. سهل آموي الرملي
يستحيل تحت قدمي عذباً كالحرير
مياه النهر في جيحون تفيض
ومن فرح اللقاء تكاد تغرق الخيل
مدينة بخارى! فلتفرحي ولتفخري
فسعادة الأمير إليك قادم
أميرك كالقمر ومثل السماء أنت
هوذا القمر يتجه نحو السماء
أميرك كالسرو وكالبستان أنت
ها هي السروة تأتي إلى البستان
يليق بك المديح والتبجيل
ورغم ما سينقص من خزائنك
(نظراً إلى أن الشاعر سيتقاضى أجره في مقابل هذه القصيدة من خزينة البلاط)
ويقول:
يا من وجهك كالصباح دليل الموحدين
وشعرك مثل ليل ملحد في لحده
يفخر المكي بالكعبة، المصري بالنيل
المسيحي بالأسقف، والعلوي بجده
مثل فخري بعينيك السوداوين
حين تجلتا من خلف النقاب
في هذه الأبيات، تتجلى الفكرة والمعنى الذي يتلازم مع جمالية اللغة عند الرودكي. الفكرة البسيطة أو السهلة الممتنعة الحاضرة عند الشاعر، الذي يبوح بمكنوناته بكل بساطة وعفوية، مقارناً عظمة هذا الشعور الذي اختزله بالفخر والتباهي، بعظمة مشاعر لها قداسة معينة، مثل المؤمن وعاشق الأرض، فيُفلح في نقل جمال مشاعره إلى القارئ، من دون جهد كبير، ومن دون تنميق معقد للغة وأدوات البيان.
وفي ارتباط الابتلاءات الدنيوية بنمو الإنسان وسموه، نرى أب الشعر الفارسي يقول ما يعكس إيمانه العميق بالتقدير والحكمة الإلهيين، بحيث يرتبط البلاء عنده بحركية الإنسان نحو التعالي:
إنما في حضرة البلاء العظيم
تظهر النعم والشهامة والبطولات
وأبدع الرودكي في وصف الطبيعة، فكانت التشابيه والاستعارات والكناية طوع يديه كالصلصال ينحتها كما يحلو لروحه الشفافة، الأمر الذي ألهم شعراء الرومنطيقية من بعده، كالشاعر منوجهري دامغاني، الذي تميزت قصيدته بتناول موضوعات الطبيعة ووصفها، مثل:
جاء الربيع بطيبه وبلونه
وأتى تجلجله الحلي بزهوها
ويقول:
إذا شدا البلبل بين غصون الصفصاف
أجابه الزرزور من أعلى السرو مغنياً
مصادر
- المعجم في معايير أشعار العجم، شمس الدين محمد بن قيس الرازي
- مجله فرهنگ و جامعه، زاد روز رودکی پدر شعر پارسی ونگاهی گذرا به او وکارهایش
- إذاعة طهران، رودكي.. رائد الشعر الفارسي
- گنجور دردانه های أدب فارسی، رودکی
- راسخون، پيوند زبان و انديشه در شعر رودکي
- راسخون، خدا در اندیشه رودکی
- جام جم، آیا رودكی تاجیك بود؟!
**
[1] كل الأبيات الواردة في المقالة من ترجمة مريم ميرزاده.