صيام الجزائري ما بين العادة والعبادة
مع مرور الزمن توارثت الأجيال التي عايشت الاستعمار تقديس شعائر رمضان وإحياء مظاهره بشكل دائم من جيل إلى آخر، وبعد الاستقلال استمرت عملية تقديس شهر رمضان بالأشكال نفسها.
إشكالية الدين والتديّن
تطرح ظاهرة التديّن الكثير من الإشكاليات لدى مختلف المجتمعات، لأنّ هناك فرقاً بين الدين والتديّن. فالدين مجموعة من التعاليم والنصوص التي تشكّل منظومة قيم وسلوكيات متجانسة في نسق واحد، إلا أن الفرد والجماعة والمجتمع لا يلتزم بها عند اعتناقه من دون إدخال تعديلات وإخضاعها وفقاً للأعراف والعادات والقيم التي يخضع لها، من خلال موروثه التقليدي والعرفي وما استجد من تحوّلات، جعلته يراجع ويعدل في تديّنه.
لذلك من المهم تسليط الضوء على تديّن الأفراد والمجتمعات وتشخيص ما هو ديني محض وما هو مزيج من الأعراف والعادات، تم إدماجها وفق النسق الديني حتى يخيّل للناس أنها أصل في الدين. فلا تخلو مجتمعات من هذا التداخل، بل حتى الأيديولوجيات التي برزت مع الحداثة وما قبل الحداثة، في جزء منها، ما هي إلا رد فعل لما هو ديني أو محاولة لتجاوز هيمنة الديانات على المجتمعات، مثل الحداثة التي تطالب بتعويض الأخلاق الدينية بالأخلاق العقلانية والعلمانية التي تريد تقزيم الحضور الديني في حياة الأفراد، وحتى الإلحاد الذي يتحوّل إلى أيديولوجية لعبادة الذات وتقديس فردانية الأفراد.
من هنا ارتأيت مناقشة تديّن الجزائري ومحاولة تمييز ما هو ديني عما هو عرفي في الممارسات وحتى الاعتقادات. وكان لزاماً أخذ الصيام كعينة نظراً لتقديسه من قبل الجزائريين، وتنوّع الطقوس التي تميّزه طوال شهر الصيام.
صقلت التجارب التي عاشها المجتمع الجزائري إلى حد ما تديّنه، ولعل طبيعة تعامل المجتمع الجزائري مع شعيرة الصيام في شهر رمضان مرآة عاكسة لتداخل الديني بالعرفي، وإخضاع الممارسات الدينية لأهداف المجتمع ورغباته، وفقاً لطبيعة السياق الذي يمر به والضغوط التي تمارس عليه، بحيث لا يحتاج المراقب لكثير من الذكاء ليقف على تقديس الجزائريين لشهر رمضان مقارنة بالشعائر الأخرى.
فإذا كانت الصلاة أرفع قيمة من صيام رمضان في ديننا، بحكم أنها تأتي في الركن الثاني، فإن سلوك المجتمع الجزائري يجعل من صيام رمضان أكثر رفعة، بالرغم من أنه يعتبر الركن الرابع، والدليل على ذلك أن المجتمع يتساهل مع تارك الصلاة ولا يتسامح مع منتهك حرمة شهر رمضان، فلا يمكنك إطلاقاً الإفطار جهراً في شهر رمضان لأن المجتمع كباراً وصغاراً يراقبون عملية الصيام ولا يتساهلون مع منتهكيها إطلاقاً.
لكن في الوقت نفسه قد نجد مجموعات من الشباب جالسة في الأحياء أثناء إقامة صلاة الجمعة ولا أحد متضايق من ذلك، أو على الأقل منكر وزاجر، بل نجد الكثير من تاركي الصلاة من ذكر وأنثى ومن مختلف الأعمار في الأسر الجزائرية، من دون اعتراض حقيقي وعملي من باقي أفراد العائلة، والمجتمع عموماً، ما عدا بعض التوجيهات والنصائح من تارة لأخرى.
وهذا يعني أن تقييم السلوك الديني لا يخضع بالضرورة لنظام المكافأة والجزاء المنصوص عليه في القرآن والسنة وفتاوى العلماء، وإنما هناك نظام ضبط ومساءلة اجتماعي، قائم على الأعراف والعادات يطرح نفسه كبديل لضبط ومراقبة السلوك الديني، يتأرجح بين المرونة والجمود بحسب طبيعة التحوّلات وما تفرزه من ضغوطات.
البعد التاريخي لتقديس الجزائريين لشهر رمضان
بالعودة إلى ظاهرة تقديس شهر رمضان وشعيرة الصيام نجد أن سبب ذلك يعود إلى أجيال خلت أثناء الفترة الاستعمارية، حيث كان الجزائريون يتعرّضون للقمع والاضطهاد والاحتقار، وكانت فرنسا المستعمرة تعمل على تدجين هوية الشعب الجزائري وطمسها بمختلف الطرق، فكان شهر رمضان بمثابة وسيلة ناجحة لتعبير الجزائريين للمستعمرين عن تميّزهم ورفض ذوبانهم في ثقافتهم والقبول باستلابهم الحضاري، نظراً لما يميّز شهر رمضان من طقوس تمثّل الفرصة المنشودة للتعبير عن الافتخار بالذات الاجتماعية والحفاظ على الانتماء لثقافة الآباء والأجداد.
فشهر الصيام يحمل الكثير من الطقوس والعبادات التي تميّز المسلم عن المستعمر، حوّلها الجزائريون لفعل مقاوم لعمليات المسخ التي حاولت ممارستها الإدارة الاستعمارية، بمحاربة الهوية الدينية والثقافية للشعب الجزائري.
مع مرور الزمن توارثت الأجيال التي عايشت الاستعمار تقديس شعائر رمضان وإحياء مظاهره بشكل دائم من جيل إلى آخر، وبعد الاستقلال استمرت عملية تقديس شهر رمضان بالأشكال نفسها وتحوّل إلى مجموعة أعراف وعادات متجذرة ترفض المساءلة والذوبان.
هكذا تداخل العرفي بالديني والتبس الأمر على الكثيرين، بحيث لم يعودوا يفرّقون بين ما هو عرفي وما هو ديني، وأخذت بعض العادات مكانة القيم الدينية، فما لا يجيزه العرف أو يقبل بتحريمه، تجد التعاليم الدينية صعوبة في فرضه على المجتمع، مثل إقامة الصلوات في المساجد للنساء.
فلا تزال المرأة لا يسمح لها بارتياد المساجد خارج إطار موعد صلاة الجمعة والعيدين وصلاة التراويح في شهر رمضان، وحتى صلاة التراويح في حد ذاتها تحظى بقداسة كبيرة كجزء من مظاهر التعبّد في شهر رمضان، رغم أنها مجرد سنة في مقابل تهاون البعض في الصلوات المفروضة.
هذا الوضع زاد من الالتباس الظاهر في تديّن المجتمع الجزائري ولم تعد الحدود واضحة بين هوية القيم التي يعتمدها المواطن في حياته، لأنّ الجزائري يؤمن بقداسة التعاليم الدينية. وبالتالي في حالة ما إذا أضفى على بعض القيم والعادات العرفية سمة القداسة فإنه من الصعب تجاوزها عندما تتعارض مع قيم المواطنة.
التوظيف الاجتماعي لرمضان
يبقى المجتمع دائماً يبحث عن توظيف المقدّس للتكيّف مع متطلّبات الحياة والتزاماتها، ولعل من الغريب أن الجزائريين مثل باقي الشعوب العربية، يستغلون شهر الصيام وقدسيته لشرعنة الكثير من السلوكيات والقيم السلبية، وعلى رأسها التسيب والخمول والكسل والإفراط في الاستهلاك والنوم والسهر والتبذير، وكأنهم يسارعون لتحقيق أهداف تعاكس كلياً الغاية من صيام رمضان المبارك.
فإذا كان الصيام شرع لتحقيق تقوى الصائمين، فإن الصيام على الطريقة العربية والجزائرية ينتج العكس، أي مزيد من الخضوع لرغبات النفس عوض التحكّم بها وتهذيبها.
ولعل صعوبة عودة الجزائريين إلى عاداتهم اليومية بعد شهر الصيام يبيّن كيف أنه نقلهم من أوضاع سيئة، تتميز بضعف إنتاجية العامل وشيوع التسيب واللامسؤولية إلى مستوى أكثر سوءاً، بحيث تصبح العودة إلى الوضع المزري السابق هدفاً مستعصياً لدى فئات واسعة.
لهذا من المهم تشريح ثقافة المجتمعات بكل موضوعية، لأنها هي التي تصبغ مختلف المحطات الدينية والوطنية بطبيعتها، فثقافة المجتمع تكيّف المناسبات وفقاً لقيمها الأساسية، فلا يمكن لثقافة تتسم بالاتكالية والتسيب أن تنتج الجدية والنشاط في شهر الصيام، بل على العكس ستؤسس لشرعنة مزيد من الكسل والخمول والتسويف حتى تنتهي مدة الصيام.
هكذا إذاً تكيّف المجتمعات المواعيد الدينية وتضفي عليها طابعاً يناسبها، وتؤسس لممارسات وطقوس بعنوانين دينية، في حين ما هي إلا مجموعة أعراف وعادات اجتماعية.