صناعة المجاعة.. أو كيف تُدار الحرب بطريقة قذرة؟
عبر التاريخ، شكّل التجويع إحدى أدوات هزيمة الخصم أو نتيجة لبسط سيطرة السلطة. إليكم بعض أبرز المجاعات التي عرفتها البشرية وآثارها النفسية والجسدية على ضحاياها.
تُعرَّف المجاعات بأنها نقص حاد في الغذاء يؤثّر على منطقة جغرافية كبيرة أو عدد كبير من الناس، مما يؤدي إلى وفاة السكان جوعاً بعد مرحلة من سوء التغذية الحاد. ووفقاً لبعض الدراسات، فإنه يمكن للإنسان أن يتجمّد حتى الموت بعد فترة تتراوح بين 6 و 12 ساعة من التعرّض للبرد القارس؛ وأن يموت بعد بضعة أيام من المعاناة من العطش، لكنه يموت من الجوع بعد عدّة أسابيع، إذا كان يتمتع بصحة جيدة عند بدء الحرمان من الطعام.
إن الإنسان الطبيعي الذي يبلغ وزنه الوسطي 70 كغم لديه ما يقرب من 15 كغم من الدهون تُشكِّل احتياطه الرئيسي من الطاقة القابلة للاستخدام عندما يكون تناوله للغذاء غير كافٍ.
وتعادل هذه الكتلة الدهنية نحو 135000 سعرة حرارية، أي 1350 سعرة حرارية يمكن أن تكفيه لمدة 100 يوم. لكن يجب علينا أن نتذكّر أيضاً أن العديد من الأشخاص المُعرّضين للمجاعة هم من الفقراء، ونادراً ما يحصلون على تغذية جيدة قبل الأزمة، وبالتالي فإنهم نحيفون ولديهم احتياطيات قليلة.
وفي هذا السياق، فإن الأطفال الصغار هم الأكثر ضعفاً، من ناحية لأنهم غالباً ما يعانون بالفعل من سوء التغذية، ومن ناحية أخرى لأن احتياجاتهم لضمان النمو أكبر نسبياً من احتياجات البالغين. وتُعتبر النساء في سن الإنجاب مجموعة ضعيفة أخرى لأنّهن إمّا حوامل أو مُرضعات وإمّا في فترة الحيض، ممّا يزيد أيضاً من احتياجاتهن من الطعام.
وكذلك كبار السن، الذين على الرغم من أنّ احتياجاتهم تُعتبر متواضعة نسبياً، فهم أيضاً عِرضة للخطر بسبب عدم قدرتهم البدنية على الحصول على حصتهم الغذائية أو حتى لأسباب ثقافية يمكن أن تحدُّ من بحثهم عن الغذاء.
وتحدث معظم المجاعات في حالات الحروب وتنتج قبل كل شيء عن الأفعال المتعمّدة للبشر وتنقسم إلى نوعين:
- حرمان السكان عمداً أو بشكل غير مباشر من مواردهم الخاصة ووسائل التكيّف، ودفعهم إلى النزوح أو تقييد أنشطة الإنتاج الزراعي في مناطق النزاع وتعطيل خطوط المواصلات ونهب وتدمير الموارد.
- حظر التدخّلات التي تستهدف استعادة الوصول إلى الموارد الغذائية، مثل عمليات الإغاثة، ونقل وتسليم الموارد، وخلق فرص عمل جديدة.
المجاعات في التاريخ
في الحروب، تُعدّ سياسة التجويع واحدة من الأساليب القاسية واللإنسانية التي تستخدمها الأطراف المتحاربة بهدف تحقيق أهدافها العسكرية وهزيمة الطرف المقابل. وتتضمّن هذه السياسة قطع الإمدادات الغذائية عن العدوّ أو السّكان المدنيين، مما يؤدي إلى نقص حاد في الطعام والماء مما يضع الخصم في مواجهة مع الجوع والعطش لدفعه إلى الاستسلام.
ويعتبر استخدام التجويع في الحروب تكتيكاً قديماً جداً، فعلى سبيل المثال، استخدمت روما هذه السياسة في حربها ضد مدينة قرطاج سنة 146 قبل الميلاد في معركة تعتبر فارقة في التاريخ.
وكانت هذه المعركة جزءاً من الحروب البونية الثالثة، وشكّلت نهايتها الفاصلة بكسر التهديد القرطاجي نهائياً. قرطاج، المدينة الفينيقية التي قاومت بشكل أسطوري، عملت بكل ما أوتيت من قوة على تعزيز أسوارها وتجهيز جيشها، وحوّلت مصانعها ومعابدها إلى مراكز لإنتاج الأسلحة.
وعلى الرغم من الدفاع القوي للمدينة ضد هجمات الرومان، إلّا أنّ الزمن والحصار الطويل ونقص المؤن الغذائية أثّرت بشكل كبير على سير المعركة. هكذا استطاع الجنرال سكيبيو الذي أرسلته روما لتدمير قرطاج، تحطيم أسوار المدينة المتمرِّدة واحتلالها.
المجاعات في عصرنا الحالي
شهد القرنان المنصرم والحالي العديد من المجاعات المرتبطة بالحروب والهيمنة السياسيىة، نذكر منها:
- المجاعة الأوكرانية أو "الهولودومور" (1932-1933): تعتبر هذه المجاعة إحدى أسوأ الكوارث في التاريخ. وتشير التقديرات إلى أن ما بين 2.2 و 3.5 ملايين قد ماتوا بسبب هذه الكارثة. كما أن البعض يطرح أرقاماً أعلى من ذلك بكثير.
ويقال إن المجاعة كان سببها فرض الزعيم السوفياتي يوسف ستالين سياسات زراعية قاسية في أوكرانيا، حيث اعتمد نظام المزارع التعاونية الجماعية بهدف زيادة الإنتاج الزراعي وتحسين التوزيع، فألغى الملكيّة الخاصة للأراضي، وأجبر من تبقّى من الفلاحين على العمل في مزارع تديرها وتشرف عليها الدولة.
كما تمّت مصادرة كميات هائلة من المحاصيل على حساب السكان المحليين، ممّا تسبّب في مجاعة مُدمّرة. هذه الفترة، المعروفة باسم "الهولودومور"، أسفرت عن مقتل ملايين الأشخاص.
تعتبر كييف المجاعة عملاً متعمّداً و"إبادة جماعية" قام بها ستالين بهدف القضاء على الفلاحين والسيطرة عليهم. أمّا موسكو فترفض بشدّة رواية كييف، وتضع الأحداث في سياق أوسع لمجاعات ضربت منطقتي آسيا الوسطى وروسيا، في حين يرى آخرون أنها جاءت نتيجة غير مقصودة للمشكلات التي سبّبتها التغيّرات الاقتصادية الكبرى في حقبة تحوّل الاتحاد السوفياتي نحو الاقتصاد الصناعي.
- المجاعة في الاتحاد السوفياتي: خلال الحرب العالمية الثانية، وضعت ألمانيا النازية ما أطلقت عليه "خطة الجوع" بهدف تجويع الأراضي السوفياتية التي سيطرت عليها في عملية "بربروسا" في 22 حزيران/يونيو عام 1941، حيث احتلّ النازيون أراضي كبيرة من الاتحاد السوفياتي خاصة في الشرق، وبدأوا بتنفيذ سياسات قاسية بهدف تجويع السكان عمداً.
وكان الهدف الاستيلاء على الموارد الغذائية للأرض المحتلة لتغذية الجيش الألماني ومواطني الرايخ، مع ترك سكان الأراضي المحتلة يموتون جوعاً. هكذا تم الاستيلاء على ملايين الأطنان من الحبوب واللحوم والزيوت والدهون والبطاطس حتى صيف عام 1943.
وأدّت هذه السياسة إلى وفاة الملايين من المدنيين من جرّاء المجاعة. ومع ذلك، ساهمت المقاومة السوفياتية والظروف الشتوية القاسية في عكس مسار الحرب على جبهة الشرق، فنجح السوفيات في صد قوات ألمانيا خلال معركة ستالينغراد في العام 1943، مما أدى إلى تحوّل كبير في المواجهة. في ما بعد، استعادت القوات المتحالفة، بمن في ذلك السوفيات، تدريجياً، السيطرة على الأراضي التي كانت تحت الاحتلال النازي، ما أدّى في النهاية إلى هزيمة ألمانيا الهتلرية عام 1945.
- المجاعة السودانية: يعاني أكثر من 25 مليون شخص في السودان، يمثّلون أكثر من 42% من سكان البلاد، من مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وهناك ما يقرب من 6.3 ملايين شخص في مرحلة مُتقدّمة من مراحل الجوع الحاد، بسبب الحرب الدائرة هناك منذ منتصف نيسان/أبريل العام الماضي بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع".
وتُهدّد المجاعة حياة ملايين الأطفال، ما دفع منظمة "اليونيسيف" مؤخراً إلى التحذير من خطر تعرّض أكثر من 700 ألف طفل سوداني لما وصفته بــ "أخطر صور سوء التغذية هذا العام".
ويخوض مئات الآلاف في الخرطوم صراعاً يومياً من أجل تأمين قوت عائلاتهم، حيث تتعرّض المطابخ الشعبية التي يعتمدون عليها للخطر بسبب نقص الإمدادات الغذائية وانقطاع الاتصالات في أنحاء كثيرة من البلاد.
أما في دارفور، فلم تتلقَّ بعض المناطق أي مساعدات غذائية منذ بدء الحرب. وأشارت منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" إلى أنّ الولايات الأكثر تضرراً هي تلك التي تعاني من "النزاع النشط"، بما في ذلك العاصمة وجنوب وغرب كردفان ووسط وشرق وجنوب وغرب دارفور، حيث يواجه أكثر من نصف السكان الجوع الحاد.
وسبق أن شهد السودان مجاعة كبرى عام 1998 بسبب حرب دارفور والتي أودت بحياة أكثر من 70 ألف شخص.
خطر المجاعة في غزة
تدقّ بعض المنظمات "الإنسانية" ناقوس الخطر منذ أشهر بسبب الوضع المأسَوي في قطاع غزة، مؤكدة أن وضع سكان القطاع المحاصر تحوّل إلى جحيم حقيقي. ففي حين يتعرّض القطاع للإبادة الجماعية منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فإن المجاعة تُهدّد مليوني نسمة من سكان الأراضي الفلسطينية.
إن مجزرة دوار النابلسي التي حدثت في 29 شباط/فبراير الماضي بسبب القصف الإسرائيلي للمدنيين أثناء تجمّعهم للحصول على المساعدات الغذائية، وسقوط 112 شهيداً وإصابة ما لا يقل عن 760 شخصاً، هي مثال صارخ على مدى شراسة الاحتلال ووحشيته.
ويعيش حالياً ما بين 300 ألف إلى 500 ألف مدني في حالة شبه مجاعة في وسط وشمال غزة. أما في الجنوب، في رفح، حيث لجأ أكثر من مليون شخص، معظمهم من النساء والأطفال، فهناك معاناة كبيرة جداً في تأمين الغذاء والمياه. علماً أن عدداً محدوداً من الشاحنات يدخل يومياً إلى جنوب غزة، لكن المساعدات لا تزال هزيلة جداً وغير كافية نظراً لعدد النازحين الكبير. ومع ذلك، فإن الوضع ليس متأزماً جداً كما هو الحال في الشمال والوسط، حيث لا يدخل أي شيء عملياً.
وتتضمّن استراتيجية نتنياهو إبادة سكان غزة بطريقة منظّمة، لذا يتعمّد منع دخول المياه والغذاء والأدوية. علماً أنّ غزة لم تكن مكتفية ذاتياً قبل العدوان، وكانت تعتمد قبل 7 أكتوبر على دخول المساعدات الخارجية حيث كان يدخلها يومياً ما بين 500 إلى 700 شاحنة لتلبية حاجات السكان المختلفة.
أما اليوم، فإن عدد شاحنات المساعدات المسموح بدخولها قليل جداً، وغالباً ما تتعرقل عملية إيصال المساعدات بسبب التضييق والمنع الذي يمارسه الاحتلال تحت ذرائع مختلفة. كما أنّ بعض المساعدات لا تُوزّع بشكل فعّال وعادل، وأحياناً كثيرة تتم سرقتها أو تهريبها من قبل مافيات الحرب التي تعمل بعلم الاحتلال، مما يزيد من معاناة السكان.
الوضع اليوم في غزة لا يطاق. إذ يضطر السكان لطحن أعلاف الحيوانات لصنع الخبز بسبب انقطاع الطحين، ويتجه بعضهم إلى تناول أعشاب بريّة أو طعام فاسد بسبب النقص الخطير في الإمدادات الغذائية. كما تتكرر يومياً على وسائل التواصل مشاهد الأطفال القاسية، وهم يتسابقون للحصول على نذر قليل من الطعام، فيما يتسبّب الحصار في تدهور صحتهم الجسدية والنفسية في ظل اختفاء الخدمات الأساسيّة.
وتؤثّر الظروف الصعبة بشكل خاص على الأطفال والنساء الحوامل اللواتي يعانين من فقر الدم ونقص الغذاء بنسبة 90%، مما يؤثّر على صحة الأم ووزن الجنين. كما أن النقص الحاد في المواد الغذائية يتسبّب أيضاً في زيادة حالات نزيف الأمهات أثناء الولادة.
ويتسارع الوضع الإنساني في قطاع غزة في الاتجاه نحو الكارثة، حيث يشهد شحاً كبيراً في المواد الغذائية التي تزايدت أسعارها بشكل كبير. وتطلق منظّمات دولية تحذيرات من احتمالية حدوث مجاعة وتذكِّر بالحاجة الملحّة إلى زيادة الدعم الإنساني وفتح المعابر.
وأشار تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" في كانون الأول/ديسمبر 2023، إلى أن الحكومة الإسرائيلية تستخدم التجويع في قطاع غزة كسلاح ضد المدنيين، وتُؤكد أن "جيش" الاحتلال يمنع بشكل متعمّد إيصال المياه والغذاء والوقود، ما يُشكّل جريمة حرب. وألقت المنظمة الضوء على تصريحات مسؤولين إسرائيليين كبار تُعبِّر عن نية الاحتلال حرمان المدنيين في غزة من احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والمياه النظيفة والرعاية الصحيّة.
الآثار النفسية والصحية للمجاعة
تُشكِّل سياسة التجويع تهديداً خطيراً للصحة والرفاهية، وخاصة بالنسبة للأطفال. ويعاني الشخص المحروم من الطعام من فقدان الوزن، وهزال العضلات، وجفاف الجلد وتجعّده، وفقدان بريق الشعر، وتباطؤ النبض، وانخفاض ضغط الدم. كما يؤدي التجويع للعديد من الاضطرابات الهرمونية التي قد تُسبّب انقطاع الطمث عند النساء. إنّ وذمة الجوع شائعة، وتظهر على شكل تورّم في الوجه لدى المرضى طريحي الفراش وتورّم القدمين لدى المرضى المتنقّلين.
ويُعتبر فقر الدم والإسهال من الأعراض الشائعة، خاصة عند الأطفال الصغار، كما أن الحرمان من الطعام يسبّب اضطرابات نفسية، لكن التفكير المنطقي لا يضعف بشكل عام. ويمكن أن يؤدي الجوع أيضاً إلى انهيار الأوعية الدموية، وقصور القلب، والموت في نهاية المطاف.
وتُعد حالات العدوى بأمراض الالتهاب الرئوي والسل ومرض الكبد الوبائي، من المضاعفات الشائعة للجوع بسبب انهيار الدفاعات المناعية لجسم الإنسان. ويتضمّن العلاج إعادة التغذية التدريجية بالأطعمة المناسبة والصالحة للاستخدام. في الحالات الشديدة، قد يكون العلاج في المستشفى ضرورياً، بالاعتماد على الأطعمة الخفيفة والحليب والقليل من الألياف.
أما الأطفال الجياع فقد يعانون من توقّف النمو والتطوّر بسبب الحرمان من العناصر الغذائية الأساسية، مما يؤدي إلى تأخّر نموهم البدني، ومعاناتهم من قصر القامة وضعف العظام وضعف جهاز المناعة. كما يمكن أن يؤثّر الجوع على نمو الدماغ، مما ينعكس سلباً على عملية التعلّم والقدرات المعرفية العامة.
وكذلك قد يصاب الأطفال الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بالقلق والاكتئاب والمشاكل السلوكية مثل العدوانية أو الانسحاب الاجتماعي، إذ يمكن أن تكون لصدمة المجاعة في مرحلة الطفولة عواقب نفسية دائمة، ممّا يؤثر على الصحة العقلية والعلاقات الاجتماعية في مرحلة البلوغ.