سوق الورق في سوريا بعد الحرب... تحوّلات وتغيّرات

تجارة الورق قديمة في دمشق، لكنها اليوم باتت، كما غيرها، في أزمة نتيجة الحرب. تعالوا نتعرف إلى هذه التجارة وواقعها على لسان واحد من أهلها.

استعان الإنسان منذ العصور القديمة بعظام وجلود الحيوانات والأواني الفخارية وأوراق النباتات الملساء كوسيلة للكتابة والتعبير، كما استخدم النحت على الأحجار لتسجيل الرموز والصور، لكنّ جميع هذه الأدوات قبل اكتشاف الورق كانت متعبة لكونها ثقيلة الوزن ويصعب نقلها، إلى أن اخترع الفراعنة القدماء ورقاً مصنوعاً من نبات "البردي" الذي كان ينمو على ضفاف النيل ليعتمدوا عليه بشكل أساسي في الكتابة والتسجيل والتدوين.

يدخل الورق في صناعات عديدة كالتجليد والكتب والجرائد والتغليف والكرتون والخياطة وطباعة العملات وأدوات النظافة ضمن مواصفات محدّدة.

ويعدّ سوق الورق بالقرب من مدحت باشا في دمشق القديمة اليوم، أو ما كان يُعرف سابقاً بسوق "الصقّالين" من الأسواق القديمة منذ العهد العثماني، يضم السوق، ذو الزقاق الضيّق والمسقوف بساتر معدني مجزّأ، محلات عديدة تتخصص ببيع شتى أنواع الورق، كمحل محمد حاج حسن الذي نشبت أظافره في عمر مبكرة في ظهر مهنة بيع الورق إلى أن ناهزت سنوات خبرته فيها قرابة 65 عاماً، ليرث أبناؤه الخمسة مقاليد المهنة وأسرارها. 

يقول حسن لـ"الميادين الثقافية" إنه: "في الثانية عشرة كنت صبياً حمّالاً للأوراق أتجوّل بها وأعرضها للبيع بين التجّار، أحببت المهنة وصرت أتعلّم أبجديتها، وأحفظ أصناف الورق إلى أن افتتحت محلي الخاص بعد 10 سنوات، أذكر أنني دفعت مبلغ 4 آلاف ليرة سورية مقابل طن من الأكياس الورقية من هولندا وصولاً إلى شتى أنواع الورق". 

ويلفت حسن إلى عدم وجود معامل محلية لصناعة الورق، وذلك لعدم توفّر المواد الأولية اللازمة لإنتاجه كمادة السيليلوز والخشب، إذ يتم استيرادها من الصين وألمانيا والنمسا، لكن تم إحداث معمل خلال فترة سنوات الحرب متخصص بإعادة تدوير النفايات الورقية وتكرير بقايا الورق ويسمّى "الفلوت"، ويستخدم لأغراض تغليف البضائع وعلب الكرتون، وعادة ما يحمل لوناً مائلاً للسمرة.

يعد الرأسمال الضخم الذي يجب دفعه مقابل شحنة الورق أبرز العراقيل والتحديات التي تواجه أصحاب مهنة بيع الورق، الأمر الذي دفع العديد من المستوردين للعزوف عن الشراء وإقفال محالهم.

وعن ذلك يوضح حسن أنه "نظراً لارتفاع الأسعار يتوجّب على المستورد دفع مبلغين من المال، الأول ثمن شحنة الورق للشركة الأجنبية المصدّرة، والثاني، يعادل القيمة المالية نفسها المدفوعة، وإيداعه في البنوك السورية، ما يندرج تحت اسم التأمين على البضاعة، لينتهي الأمر بدفع مبالغ خيالية جداً لا يستطيع الجميع تكبّدها كالسابق"، إلى جانب العقوبات الاقتصادية التي أثّرت على حركة البواخر وشركات الشحن إلى سوريا ما ألزمها التوجّه إلى بيروت، وما يترتّب على ذلك من نفقات وتكاليف مادية إضافية.

أما أبو أحمد الذي أمضى 45 عاماً بين جدران محله الصغير، فيتحدث عن تحوّلات مهنة الورق خلال سنوات الحرب، حيث تراجعت جودتها وبات الزبائن يختارون نخباً أقلّ لرخص ثمنها، ويقول لـ "الميادين الثقافية": "أبيع جميع أنواع الورق بجودة عالية، لكن يعد ورق الستوك بالنوعية الوسط الأعلى طلباً لسعره الزهيد وكثرة عدده، ما يجعله مرغوباً أكثر من أيّ نوع آخر، كما يعدّ ورق الجدران والزبدة من النخب الجيدة وسعره مقبول جداً، إذ يصل إلى 30 ألف ليرة سورية".

ويؤكد الرجل الستيني أنّ الانقطاع والعودة هما السمتان اللتان تحكمان هذه المهنة، إلى جانب ظهور أنواع جديدة، إذ يوضح: "تتميّز بالتجدّد الدائم وظهور بدائل عن أصناف تنقطع فجأة في السوق، قد يتوفّر نوع محدّد اليوم، لكنه قد يصبح مفقوداً في اليوم التالي، ليظهر صنف آخر يحلّ محلّه وبسعر أرخص فيصبح أكثر رواجاً وهكذا"، مضيفاً "اختفى ورق الكرافت بنيّ اللون وهو قاسٍ ومضاد للماء ومخصص لصناعة الأكياس الورقية والبضائع، استعيض عنه بنوع أرخص كالبلاستيك وبات أكثر انتشاراً".

موسم افتتاح المدارس الأكثر استهلاكاً للورق

تراجع الطلب كثيراً على ورق الطباعة الفاخرة كالدوبلكس والكريستال والورق الأبيض A4 الممتاز، وذلك لغلاء سعره لتتحوّل البدائل إلى الأرخص ثمناً وأكثر وفرة، فيما يعدّ موسم افتتاح المدارس من الأوقات الأكثر استهلاكاً للورق لأغراض كتابة التمارين والتدريب وكتابة الإملاء.

تُصرّ سهير على شراء أرخص نوع من الورق ليتمرّن طفلها على كتابة الجمل الإنكليزية والعمليات الحسابية، وذلك ضمن السياسة التوفيرية في إدارة نفقات بيتها التي باتت تتبعها، لينصحها البائع على الفور بورق الجريدة.

تقول سهير: "لم يعد لديّ القدرة المالية على اقتناء ورق a4، صار مكلفاً لكنه كان الأفضل على الإطلاق، استبدله بالأرخص كما استعمله في تنظيف الزجاج بعد انتهاء طفلي من التدرّب عليه".

يتبع إبراهيم السياسة الاقتصادية ذاتها في محل الفطائر والشطائر الذي يملكه، إذ يختار ورق "المزهر" بوصفه الأرخص ثمناً لتغليف السندويشات، ويقول: "لا داعي لشرائه غالياً، في السابق كنا ندلّل الزبون كنوع من البرستيج، وكانت الأغلفة تشير آنذاك إلى فخامة المطعم، أما الآن فلا مجال لذلك أبداً، تكفي ورقة رقيقة بملمس خشن للإمساك بالشطيرة ثم رميها في القمامة".

أما أم آدم التي تساوم بمهارة عالية بائع الورق على ثمن حزمة أمتار من ورق الجدران، محاولةً شراءها بسعر مقبول للطرفين، لتنجح أخيراً في عملية التفاوض، إذ أن اقتناءها أقلّ كلفة من أجرة الدهان، إذ تقول: "اخترت نوعية ممتازة من الورق لإخفاء بقع الرطوبة المنتشرة على الجدران، وترقيع شقوقها التي باتت تغزو منزلي، لا أستطيع تكبّد نفقة الطلاء وأجرة الّدهان، هذه حيلة بسيطة واقتصادية".