رواية وادي الفراشات: الحرب.. مساحةٌ لانتهاك البشر

هذه الرواية هي الثالثة للكاتب أزهر جرجيس بعد روايته ذائعة الصيت “حجر السعادة” والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربي عام 2023.

  • رواية وادي الفراشات: الحرب.. مساحةٌ لانتهاك البشر
    رواية وادي الفراشات: الحرب.. مساحةٌ لانتهاك البشر

على غير المعتاد عليه فيما يتعلق بالرواية، ولكونها اجتماعاً لعدة أحداث جُمّعت لتجميل الواقع المتلبّس بالمأساة. قد نجد في هذا الوصف إجحافاً وعجلة؛ لأنّ الرواية ومع مرور الوقت، وباعتبارها فناً مرناً، لا يمكن أن تدير ظهرها للمأساة، بل تتفاعل معها، وتتغلغل في صلب حدّتها. وهو ما يتجسّد في رواية وادي الفرشات (دار الرافدين، مسكلياني 2024) للكاتب العراقي أزهر جرجيس (1973). ومن الفريد أن الفن الذي تقدّمه الرواية لا يتعامل مع المأساة من جهة الحزن أو الشجب، ولا من منطلق الرثائيات الميّالة للبكاء. بل كعادته يبرع الكاتب الساخر في جعل قارئه يبتسم بمرارة على مأساة بطله. ذلك الانتزاعُ العبقري لابتسامة وأنت غارقٌ في الحزن، هو الفن ذاته. ولربما ليست براعة الكاتب وحدها؛ بل هي مسحة السحر في جنس الرواية التي تنفتح على التأويل اللامتناهي. 

ليس بوسع القارئ أن يتفادى تلك الصدمات المتتالية والعثرات التي يتهاوى على أثرها "عزيز عواد" بطل الرواية. إذ وبعد تخلّيه عن رغبته في دراسة الطب، يقع في شرك القراءة، وتسلبهُ الكتبُ حلمَه. هنا يضعنا الكاتب أمام بطل مستلب. ليس لصالح ذاتٍ تحب نفسها، بل هي ذاتٌ ميّالةٌ للجمال، نزّاعةٌ للحرية. وبعيدة كل البعد عما حولها، ولما يروّجه العرف والعادة. هكذا تتوالى عثرات عزيز، والذي تُكرَّسُ قصته للكشف عن الأحوال التي رافقت حصار العراق بدءاً من التسعينيات وحتى اللحظة. فالشاب الذي لم تخوّله درجاته سوى لدراسة الفنون والمسرح، يقع في عثرة أخرى وهي الحب؛ حبُّ زميلته تمارا في الجامعة. وهنا سقطةٌ أخرى لبطلنا الذي يجسّد مأزق المرء في هذا العالم. فالحب الذي يؤطّرهُ العرف بالمال والطبقة غريبٌ عن منطق الحب الذي يؤمن به عزيز عواد. هي ذاتٌ بريئةٌ، أحست بالحب فمالت إليه، وانجذبت للأدب، فانزوت إلى مكتبة الخال جبران حيث تجري معظم أحداث الرواية. 

يخلق الكاتب، عبر نسق آخر، نوعاً مختلفاً من الأبطال الصامتين والمؤثّرين؛ وفي الوقت الذي يستمر فيه عزيز عواد بالظهور كبطلٍ يخترق الأجواء السياسية والاجتماعية السائدة وقتذاك، يظهر الخال جبران بمثابة ملاك حارس له. ووظيفته في الحكاية لا تقتصر على إنقاذ عزيز من السجن فحسب، ولا من المآزق التي تتوالى عليه. بل نراه إنساناً واعياً يدرك وجوديته بكل ثقلها، ويُمعن في تحليل عراق التسعينيات بكل تفاصيله السياسية. فالخال صاحب مكتبة تقاوم وسط الخراب والحصار. وهو قارئ ومحرّر لبعض الكتب. وفي الوقت ذاته يستوعب انهزامات ابن أخته كما لو أنه الوجه الآخر له. وهو؛ أي جبران، بدوره الإنساني المنسحب عن مآسي الحياة، والمتعالي بشكل متعمّد عن مقدار القبح الذي يفرزه العالم من حوله، نجده هارباً من الحب وأذاه، ومنزوياً عن العالم رغم إدراكه لأهمية العيش فيه. بينما يجسّد عزيز النقيض؛ أي المرءَ في اندفاعه نحو الحب، والحياة، والعالم بما فيه. ولو كانت كل عثراته سواء بعد الزواج من تمارا، والذي حذّره خاله منه، أو في استماته لضمان عيش أسرته تنتهي على الدوام بظرف مأساوي فريد. 

يُسهم الحصارُ في زيادة الشعور بصعوبة الحياة، وبسبب قلة فرص العمل يجهض الواقعُ أحلامَ عزيز عواد. وينسحب على واقع البلاد أيضاً. وعلى المعاني التي يحاول أن يسبغها على العالم. فالحب الكبير الذي حارب للحصول عليه يُجهضه الفقر وقلة الحظ. والحلم بالعمل في مكان لائق يبدو صعب المنال. ذلك السعي للحصول على مصدر عيش كريم يفشله سوءُ التدبير، والظروف المتلبسة التي يقع عزيز عواد في شراكها. هكذا نجده في نهاية الرواية فاقداً للقدرة على التنبؤ بالمستقبل. مثلما هو واقع البلاد التي اجتزأت الحرب حصصاً من وجودها، حتى صار من المتعذّر النظر نحو مستقبلها. وفي نهاية الطريق، تقود الصدفة بطلنا إلى مقبرة يقوده إليها درويشٌ هائم. وحيث يقنعه أنه في مقبرة وادي الفراشات تتحوّل أرواح الأطفال المشردين واليتامى إلى فراشات. هكذا يموت فيه كل شيء؛ الحب، والحلم، ومحاولاته المستميتة في لقاء ابنه الذي أضاعه صغيراً. ويمعن فيه ذلك الفقد، والذي بدوره يهدم اتزانه، ويفقده زوجته، ويتبقّى من عزيز عواد الإنسان فقط. وهو الذي نراه بذرة القصة، ولبّ الحكاية التي تحوم حولها الأحداث. ونستطيع القول التي يتشكّل من حولها سؤال الرواية؛ فما الذي يتبقّى من الإنسان بعد سلسلة من الهزائم؟ وما الذي يحيا فيه بعد أن يميت العالم وجوده؟ وكيف يمكن للذات التي انتهكها العنف أن تستمر في العيش؟ 

هكذا يمضي بطلنا حياته يدفن الأطفال الذين تتلقّفهم الشوارع، وينهش أجسادهم البرد والجوع. يجول الطرقات وكأنه يبحث عن ابنه الضائع فيه، وعن حلمه بأن يحيا حياة كريمة. ذلك الواقع السوداوي، والذي يعرضه الكاتب بتهكّم مرير يمضي بالبطل إلى منطقة من السحر والجنون، حيث يعتقد أن العدالة تُمنح لأولئك الأطفال في مقبرة وادي الفراشات. هو نوعٌ من تحويل الأسى إلى مهرجان، ولنقل بشكل أدق، محاولة لصنع الفرح لدى أرواح قلما ذاقت طعمه. ولبلادٍ نادراً ما التفتت إلى أحلام أطفالها، وإلى شبان سلبهم العجز مستقبلهم. هكذا يبقى من عزيز عواد إنسانٌ يدرك ضعفه وعجزه عن مواجهة أخيه لاستعادة حقه، وجبنه في الدفاع عن أمه، وقلة حيلته التي منعته من حماية أسرته الصغيرة. هو موقف الإنسان أمام آلة الوجود الجبّارة، حيث كل ما فيها يعمل على تحطيمه، ويمضي نحو مناكفته بكل صنوف المجابهة. والذي لا يمكن أن يظل منه في النهاية سوى الهذيان، والأحلام التي تحدس بها أرواح الأبرياء. "لا أعرف السبب، لو عرفتهُ لما أخفيتهُ عليكم. سألتُ ذات مرة خالي جبران، فقال بما يشبه الجواب: ليس هنالك سبب منطقي، هكذا هي الأرواح، بعضها يشعر بالألفة، وبعضها يظل غريباً حتى يرحل. أما سؤال المحقق ذاك، فقد زعزعني، ولم أجد له جواباً في ثنايا المخ سوى قول الحقيقة".