تومي أورانج في "النجوم المتجولة": الهندي الأحمر ينهض
يأمل أورانج أن يتعرف العالم إلى "الكُتاب الأميركيين الأصليين"، وأقلها أعمال الشاعر "شيرمان أليكس" والشاعرة والروائية "لويز اردريتش".
يروي "تومي أورانج"، ابن قبيلتي شايان وأراباهو الهندية في أوكلاهوما، في روايته الرائعة "النجوم المتجولة" "Wandering Stars" أن امرأة من الهنود الحمر ذهبت إلى مكتبة عامة في أواخر الخمسينيات، وسألت: "ما الروايات التي كتبها الشعب الهندي؟"، فقالت لها أمينة المكتبة: "لا يوجد أي رواية هندية".
شكلت هذه الحكاية الدافع الأكبر ليؤسس أورانج مشروعه الأدبي لكتابة التاريخ الأصلي للهنود الحمر الذي ما زال أغلبه الأعم شفهياً، ويعاني من ندرة الروايات المكتوبة والإبادت الجماعية التي تعرضوا لها.. فأورانج يؤسس لأدب يعيد تشكيل قصة الأميركيين الأصليين في الولايات المتحدة كتاباً تلو الآخر، ويصحح ندرة القصص الهندية.
ونجح أورانج في اجتذاب الاهتمام به لكونه في طليعة جيل جديد من الكتاب الأميركيين الأصليين، ولأنه تناول موضوعاً لا يحظى إلا باهتمام ضئيل في الأدب. يقول: "يبدو السكان الأصليون مختلفين تماماً، ونحن نعيش في المدن الآن - أعني يعيش 70% من السكان الأصليين في المدن الآن، ونحن بحاجة فقط إلى قصة جديدة نبني عليها، وكنت أرغب دائماً في محاولة القيام بذلك".
إقرأ أيضاً: مو يان .. رائد أدب المقاومة في الصين
يقول أورانج إن "والده نشأ في بيئة تقليدية في أوكلاهوما، لكنه لم يكن لديه الكثير من الوقت لتعريف أطفاله بثقافة السكان الأصليين الأميركيين - وهذه تجربة شائعة للأطفال مثله الذين نشأوا في مدينة كبيرة". يقول: "عندما تكبر في محمية، يكون لديك قاعدة أرضية ولديك مجتمع من الناس. وأعتقد أن من الأسهل التوصل إلى هوية قوية في موقف كهذا، بدلاً من مجرد الوجود في امتداد المباني وجميع أنواع الناس المختلفة. قد تحتاج إلى البحث عنها بشكل أكثر نشاطاً إذا كنت تكبر في المدينة".
يوضح أورانج مشروعه بقوله: "بالنسبة إلى الكتاب الأصليين، هناك نوع من العبء لتصحيح الأمور لأن الأمر كان خاطئاً لفترة طويلة. لذلك، كنت أحاول إيجاد طريقة للقيام بذلك بطريقة مثيرة للاهتمام، وبدأت بالعثور على كل هذه الروابط حول الرأس الهندي وكل هذه الطرق المختلفة التي لعب بها الرأس الهندي عبر التاريخ".
وعن محتوى روايته يقول أنه أراد إنشاء "مجموعة كبيرة من الشخصيات للتعويض عن الصور النمطية للسكان الأصليين. لقد حدث نزع الصفة الإنسانية عن السكان الأصليين بسبب كل هذه المفاهيم الخاطئة حول ما نحن عليه".
يقول عبر أحد أصوات روايته "Wandering Stars"، وهو صبي هندي: "لماذا لم يكن هناك أي أبطال خارقين من الأميركيين الأصليين؟". يأسف شقيقه الأكبر لأنه وعائلته "لم يكونوا مرتبطين بالقبيلة أو بلغتهم أو بمعرفة الآخرين عن كونهم مواطنين أصليين".
مشوار أورانج الأدبي لتأسيس سردية حقيقية عن الهنود الحمر بدأ مع نشر روايته الأولى "هناك... هناك"، والتي شكلت فتحاً عظيماً لإعادة الاعتبار إلى هذه القضية، فقدم سردية جديدة لا تشبه السردية الكولونيالية التي قُدم بها الهندي الأحمر بأنه مجرد مدمن ومتخلف وانطوائي وشبه عارٍ وممتلئ بالأمراض المعدية... فأدب أورانج يتميز باستكشاف عميق لهوية السكان الأصليين، و"أنهم ليسوا ليسوا استعارات هوليوودية ذات ريش أو أيقونات خشبية من أساطير الغرب القديم".
إقرأ أيضاً: رائعة"نجمة": أسطورة أدبية وصورة شعب
وقد وصفت مجلة "ذا أتلانتيك" رواية "هناك... هناك" بأنها "الأولى من نوعها في الأدب، وواحدة من أعظم روايات أميركا، وأنها تضع أصوات الأميركيين الأصليين في المقدمة والمركز".
ولأن رواية "نجوم متجولة" مكملة لروايته الأولى التي تحولت بعد سردها عن الصدمات الوراثية والجيلية إلى رؤية وملحمة أدبية، فقد اختار أورانج الإدمان ليكون خطاً رئيسياً في روايته الثانية "Wandering Stars" بسبب تأثيره في عائلته.
وكما تقول اَجا مونيه، المرشحة لجائزة أفضل ألبوم شعري للكلمة التي ظهرت في حفل موسيقي في لوس أنجلس المنطوقة هذا العام، وهي تحمل حقيبة على شكل بطيخ، وهو رمز لدعم الفلسطينيين: "الأشياء التي تؤثر في حياتك هي ما ينتهي بك الأمر إلى الكتابة عنه أو الهوس به".
يقول أورانج: "أردت أيضاً أن أكتبها بطريقة... من شأنها أن تجعل القارئ يفهم ويتعاطف مع الشخصيات، ومن أين يأتي الإدمان. في بعض الأحيان، يتم التعامل معه على أنه فشل أخلاقي... لكن الطريقة التي أتعامل بها مع الأمر هي أكثر طبية بكثير – وهي طريقة للتعامل مع هذا النوع من الأمور التي تخرج عن نطاق السيطرة".
استوحى أورانج فكرة "Wandering Stars" من العثور على قصاصة من إحدى الصحف ذكرت أن "قبيلتي كانت في فلوريدا عام 1875". لقد صُدم من ذلك، وتحقق من أن أفراد قبيلته سُجنوا في سجن في فلوريدا أصبح نموذجاً للمدارس الداخلية، حيث أُرغم الأطفال الأصليون لاحقاً على تبني الثقافة البيضاء.
تبدأ القصة بـ"أطول حرب في أميركا"، أي أكثر من 300 عام من الصراع الذي تعرض فيه الهنود للذبح والتجويع و"الإبعاد" بشكل ملطف.
تروي رواية أورانج الثانية "Wandering Stars" قصة عمرها قرن ونصف قرن من عائلة تتحدر من "جود ستار"، أحد الناجين من مذبحة ساند كريك عام 1864. بعد هذا التاريخ، تمت إبادة مجتمع الهنود بوحشية، وسجنه المستعمرون البيض وأخضعوه للاستيعاب العنيف والقسري، وانتهى به الأمر بالشرب للتغلب على جرح نفسي عميق إلى درجة أنه يمتد عبر ستة أجيال. وللعلم، فإن أسلاف أورانج نفسه نجوا من مذبحة ساند كريك.
ويقول "جود ستار": "كان هناك ألم وخسارة لا توصف في كل مكان حولنا أينما ذهبنا". ولتجنب المجاعة، سلم نفسه في النهاية للجنود الأميركيين، وتم نقله إلى سجن في فلوريدا. بقي هناك في السجن، وخضع لبرنامج للإبادة الثقافية. يبدأ جود علاقته المتضاربة مع المجتمع الأبيض تحت وصاية سجان يُدعى ريتشارد هنري برات، وهو شخصية تاريخية حقيقية ستواصل تأسيس مدرسة كارلايل الصناعية الهندية. عاقداً العزم على القضاء على "أساليبهم الشاملة"، مارس برات عملاً خيرياً ساماً يعتمد على مبدأ "اقتل الهندي، أنقذ الرجل".
بعدما تعلم القراءة والكتابة، وقع "جود ستار" في فخ الكلاسيكيات الغربية... لكن ما يحيره حقاً هو المطالب المتناقضة للغزاة: يُطلب من جود مراراً وتكراراً أن يستأصل كل ما هو هندي في نفسه، ومع ذلك يُطلب منه أيضاً تمثيل "العرق المتلاشي". "لقد قمنا بأداء كوننا هنديين من أجل البيض". يقول جود: "لقد رقص البعض منا وطبلوا وغنوا. لقد قمنا بالأداء بأنفسنا، وجعلنا الأمر يبدو أصلياً من أجل أداء الأصالة، وكأن الوجود معروض للبيع، وقد بعنا ما لدينا".
هذه المفارقة المسببة للتآكل، التي أجبره السجان ريتشارد هنري برات على استئصالها تتسرب إلى أحفاد جود، وينتهي الأمر بابنه بالالتحاق بمدرسة كارلايل، حيث يعاني الإهانات المماثلة التي تدفعه إلى إدمان المخدرات. يصبح ابن جود، المنعزل والمليء بكراهية الذات، رجلاً يائساً للهروب والاحتفاظ بالماضي. يكتب أورانج عبر صوت جود الأب عن ابنه: "في معظم الأيام، كان يترك اللودانوم (دواء مخدر) يفعل ما سيفعله به، وهو ما سيواجه صعوبة في تذكره لاحقاً، ويكره نفسه لأنه لم يتمكن من التوقف عن مسح ذاكرته".
يقول أورانج في إحدى فقرات روايته "Wandering Stars" "النجوم المتجولة": "عندما بدأت الحروب الهندية تهدأ، جاءت بيروقراطية سرقة الأراضي والسيادة القبلية لاستهداف الأطفال الهنود، وأجبرتهم على الالتحاق بالمدارس الداخلية". ويضيف: "لم يتم دفنهم أثناء الخدمة أو أثناء التدريب على العمل الزراعي أو الصناعي أو العبودية القسرية، ويسأل: ألم يدفنوا في مقابر الأطفال أو في قبور مجهولة؟ ألم يضيعوا في مكان ما بين المدرسة والبيت بعد أن هربوا، أو لم يدفنوا، أو لم يتم العثور عليهم، أو ضاعوا مع الزمن، أو "ضاعوا بين المنفى واللجوء، بين المدرسة، والأوطان القبلية، والمحمية، والمدينة؟ إذا نجحوا في ذلك من خلال الضرب والاغتصاب الروتيني، وإذا نجوا، وصنعوا أرواحاً وعائلات ومنازل، فذلك بسبب هذا وهذا فقط: مثل هؤلاء الأطفال الهنود أُجبروا على حمل أكثر مما أُجبروا على حمله".
يقول أورانج: "يُنظر إلينا دائماً على أننا عالقون في التاريخ"، باعتبارنا المهزومين في ما يسميها "أطول حرب أميركية". كما تتحسر إحدى شخصيات روايته "Lony Red Feather": "الجميع يعتقد أننا من الماضي فقط".
اليوم، تكتب والمجلات والصحف الأميركية والبريطانية عن أدب أورانج، وتعتبره مفارقة جوهرية في أدب الهنود الحمر، فهو نوع جديد من الملحمة الأميركية، فهو يشبه ماركيز في أدبه، فماركيز لم يكن مؤسساً لأدب البوم والواقعية السحرية في أميركا اللاتينية، إلا أنه أعطى لأدب الواقعية السحرية قوة دفع أجبرت الداني والقاصي على إعادة الاعتبار إلى ثقافة أميركا اللاتينية. واليوم، يعيد أورانج بمشروع الأدبي إلى جانب رفاقه من الكتاب الأصليين (نسبة إلى السكان الأصليين) الاعتبار إلى قضية الهنود الحمر.
رواية "النجوم المتجولة" هي محاولة من أديب ومؤرخ هندي أحمر للإجابة عن معنى أن يكون السكان الأصليون أبناء وأحفاد لمذبحة ساند كريك عام 1864، بعدما صورهم الغرب بأنهم: "المحاربون، والسكارى، والخارجون عن القانون، ومدمنو المخدرات".
يأمل أورانج بعد "70 عاماً أن تعرف أمينة المكتبة الكُتاب الأميركيين الأصليين"، وأقلها أعمال أورانج وأعمال الشاعر "شيرمان أليكس" والشاعرة والروائية "لويز اردريتش".
نشير إلى أن رواية "هناك... هناك" حائزة على "جائزة جون ليونارد" عام 2018 و"جائزة أرنست همنغواي" لعام 2019، وأنها وصلت إلى نهائيات جائزة بوليتزر في نيويورك وحازت الميدالية الذهبية للرواية الأولى من جوائز كاليفورنيا للكتاب.
يعترف أحد القاد الأميركيين بأن "من المستحيل قراءة "Wandering Stars" وعدم التفكير في علاقتنا بهذه الأرض المسروقة، وأن الولايات المتحدة مبنية على العنف الدنيء الذي اعتاد معظمنا تجاهله في أحسن الأحوال، وتمجيده في أسوأ الأحوال".
ولا شك في أن الكثير من النخبة الأميركية الحاكمة تعتبر علاقة الرجال البيض الأوروبيين بالسكان الأصليين والإبادات التي نُفذت بهم وصمة عار في التاريخ الأميركي، وإلا ما معنى أن يعترف المرشح لمنصب نائب الرئيس الأميركي تيم والز بمذبحة الركبة الجريحة، وهي مذبحة لمئات الأميركيين الأصليين عام 1890 على أيدي جنود الجيش الأميركي في محمية باين ريدج لشعب لاكوتا في داكوتا الجنوبية في الولايات المتحدة الأميركية؟
إقرأ أيضاً: "الأشياء تتداعى".. إحدى روائع الأدب الأفريقي المقاوم
إن رواية "النجوم المتجولة" إشارة قوية إلى عودة الوعي إلى الهنود الحمر، وهي تذكرنا بالدراسة الرائعة المعنونة "التابع ينهض - الرواية في غرب أفريقيا" للأديبة المصرية الراحلة رضوى عاشور التي أشارت إلى أن هناك نهضة أفريقية، واستدلت حينها بالعديد من الروايات الأفريقية.