رحمة للعالمين

المستغرب أنّ أهوالاً مصيرية تواجه الشعوب لا تجد صداها في خطاب فكري/فقهي يرقى إلى مستوى التحديات، ويساهم في الحضّ على التفكير والتنوير، ويسترد راية الدين الحنيف من سارقيها وزاعمي السير على منهاجها.

كلما اندلعت الحروب واشتدّت الأزمات وتغيّرت الأنظمة وتبدّلت التحالفات وتقاسم الأقوياء النفوذ وباعوا واشتروا في سوق نخاسة الدول والشعوب، وكلّما هبّت رياح الفتن المجتمعية الطائفية والمذهبية، أستعيد تاريخنا الحافل بالويلات والمآسي خصوصاً تلك التي تُرتكب باسم الله، وما أصاب شعوبنا وبلادنا من تشظّيات وتصدّعات بفعل هذه الفتن التي لا نزال نضرس بحصرم موقديها الأوائل حتى يومنا هذا.

حقّاً يحقّ لأبناء هذا الشرق العربي طلب إعفائهم من جحيم الآخرة لأنهم يعيشونه في الدنيا هنا على الأرض بفعل أهوال وحروب تدور بهم وعليهم، وبسبب أزمات متراكمة متناسلة موروثة من زمن الاستعمار ومتفاقمة بفعل الاحتلال والتبعية والتخلّف والاستبداد وقمع كلّ صوت مختلف أو مغاير، والتمادي في قهر الشعوب ومصادرة حرياتها وحقوقها.

أزمات لم تفلح في حلّها الأنظمة المتعاقبة على اختلافها وخلافاتها في ما بينها. ومع ذلك يبدو كلّ ما عشناه هيّناً أمام ما يواجهنا من تحدّيات، لعلّ أخطرها مشروع القضاء النهائي على القضية الفلسطينية وضمّ الضفة الغربية بعد تدمير غزة والعدوان على لبنان، فضلاً عن ملامح تجدّد الانقسام الطائفي والمذهبي القاتل الذي خفت في الآونة المنصرمة، والتفتت المجتمعي الخطير، وانهيار البنى التعليمية والتربوية والاجتماعية، فضلاً عن التيارات التكفيرية على اختلاف مرجعياتها، وهي الخارجة من جحور ماضٍ سحيق بما تقترفه من توحّشٍ يبدأ بذبح البشر ولا ينتهي بتدمير الحجر الحامل إرثاً لا يقدّر بثمن من حضارة أسلاف تَرَكُوا بصماتهم في مختلف الأمكنة وعلى مَرّ الأزمنة.

المستغرب أنّ أهوالاً مصيرية تواجه الشعوب لا تجد صداها في خطاب فكري/فقهي يرقى إلى مستوى التحدّيات، ويساهم في الحضّ على التفكير والتنوير، ويستردّ راية الدين الحنيف من سارقيها وزاعمي السير على منهاجها.

حين تقع عمليات سبي واغتصاب وذبح وحرق جُلّ ما كنا نسمعه إدانات خجولة وأقوال مكرّرة مثل: هذا ليس إسلامنا، وهؤلاء لا يمثّلون الإسلام الحقيقي، الإسلام براء منهم، وسواها من مواقف ترفض ما يجري تحت راية "لا إله الا الله"، لكنها لا تقترح مخارج للخلاص من هذا الأتون، والأهم تحول دون تكراره بعد 10 أو 100 من  السنوات، كي لا يظلّ التاريخ يعيد نفسه مأساةً تلو مأساة ومذبحة في إثر مذبحة.

ثمّة أسئلة لا مناص من طرحها على المفكّرين والفقهاء منها على سبيل المثال: كيف نُصوِّب مفهوم الجهاد استناداً إلى قراءة معاصرة للنص؟ ما هو الموقف من السبي والغنائم؟ من الذبح والحرق أو التحريق؟ من الرّق والعبودية والعنصرية وسواها من عناوين ملّحة؟ ما هو الموقف الفقهي الحضاري الصريح الواضح من الآخر المختلف ديناً وعقيدةً وأسلوبَ عيشٍ ونمطَ حياة؟ من الذمّية وما ينشأ عنها وبسببها؟ ما هو الموقف من حقوق المرأة ومن العنف بحقّها؟

علامات الاستفهام كثيرة ولا أجوبة شافية، ليس لأنّ النص لا يحمل في جوهره ولا يستبطن أجوبة لمثل تلك الأسئلة، بل لأنّ التفسير حلّ مكان النص وتقدّم عليه، على الرغم من كونه، أي التفسير، قد تقادم وتقادمت أدواته ومنطلقاته التي لم تعد بالضرورة صالحة أو متناسبة مع وقائع العيش وتطوّر الحياة.

 نشأنا على مقولة أن الإسلام صالح لكلّ مكان وزمان، وهو كذلك بوصفه تجربة روحية وعلاقة إيمانية مع الله. لكننا في الوقت نفسه نحتاج تجديداً فكرياً وفقهياً مستمراً لنظلّ متصالحين مع الحياة ومستجداتها، ولكي نقدّم أجوبة شافية عن الأسئلة السالفة والملّحة. إذ لا يعقل أن نتعامل مع القرن الــ 21 الميلادي بأدوات القرن السابع والثامن ولا حتى الــ 13 أو 18، ونبقى نحاول لَيّ عنق التاريخ ليتناسب مع ما سنّه السلف الصالح في تعامله مع وقائع الحياة الدنيا.

ما من شكّ في كون موروثنا يكتنز الكثير من الإيجابيات والمرتكزات التي لا غنى عنها ولا بدّ منها، لكنه في الوقت نفسه محمّلٌ بكثيرٍ من سقط المتاع وهنا لُبّ المشكلة. حيث لا يطيب لمتصدّري المشهد ورافعي الراية زوراً وبهتاناً سوى التركيز على نصوص لها أسبابها وحيثياتها التنزيلية والتأويلية (والتاريخية، وهذه مهمة جداً) وتجاهل أخرى قد تكون أكثر ملائمةً لوقائع عيشنا الراهن.

في القرآن الكريم ترد مفردة الرحمة 286 مرة والرحيم 115 مرة والحُبّ 76 مرة والسلام 50 مرة والعدل ومرادفاتها أكثر من 50 والعقل والنور 49 مرة لكلٍ منهما. تعداد هذه المفردات ليست غايته رياضية أو حسابية ولا حتى البحث عن مكامن إعجازِ مُحكم التنزيل، بل للدلالة على ما يدعو إليه النص القرآني من رحمة وحُبّ وسلام وعدل وإنصاف وتأكيده ضرورة إعمال العقل والبحث عن مكامن النور، لأنه ما كان إلا رحمة للعالمين. وفي الحديث الشريف "هدم الكعبة 70 مرة حجراً حجراً أهون عند الله من سفك دم امرئٍ بريء".

نعم، هذا هو الإسلام الحقّ وهذه غاية رسالته، فهل نحظى بعلماء ومفكّرين وفقهاء يقدّمون هذا الجانب المشرق على سواه لأجل طَيّ صفحة الظلام والظلاميّين وفتح آفاق الحياة أمام ناس هذي البلاد لتليق بهم ولأجلهم الحياة. وكي لا نظلّ نكرّر المآسي نفسها.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.