رحلة البطولة: كيف تغيّرت صورة البطل عبر الزمن؟
قد ينتصر البطل أو يُهزم، لكن أفعاله تظل مرتبطة بخطاب يبرز شجاعته أو تضحيته. من الأساطير القديمة إلى عصرنا الحاضر ..كيف تغيّرت صورة البطل عبر الزمن؟
البطل شخصية، سواء كانت حقيقية أو خيالية، تُعرف بإنجازها أعمالاً استثنائية تتجاوز القدرات العادية، وعادةً ما تكون في خدمة مجتمع أو فكرة نبيلة. وما يميز البطل ليس فقط الفعل نفسه، بل الطريقة التي يُروى بها ذلك الفعل ويُحتفى به عبر التاريخ، الأمر الذي يمنحه مكانة خاصة في الذاكرة الجماعية.
قد يكون البطل منتصراً أو منهزماً، لكن أفعاله، سواء كانت حقيقية أو مختلقة، تظل مرتبطة بخطاب يبرز شجاعته أو تضحيته. وتتباين تعريفات البطل بحسب السياق الثقافي أو العلمي. فقد يكون رمزاً أخلاقياً، أو نموذجاً نفسياً، أو حتى أسطورة تعكس القيم الاجتماعية في زمن معين. نعرض فيما يلي تطور فكرة البطل عبر الزمن، منذ العصور القديمة، إلى يومنا هذا.
البطل في العصور القديمة
في العصور القديمة، ارتبط مفهوم البطل بصورة وثيقة بالأساطير والديانات القديمة. وكان الأبطال يُعَدّون كائنات استثنائية، إذ غالباً ما يكونون أنصاف آلهة أو بشراً منحتهم الآلهة قدرات خارقة.
الأبطال في حضارات الشرق الأدنى القديم
في الحضارات الشرقية القديمة، أدى الأبطال دوراً محورياً في تشكيل الثقافة والقيم المجتمعية. ففي بلاد ما بين النهرين، يُعَدّ جلجامش أحد أشهر الأبطال في الأدب القديم. ويقول الباحث ثوركيلد جاكوبسن، في كتابه "كنوز الظلام: تاريخ بلاد ما بين النهرين" (1976): "يُمثِل جلجامش النموذج الأول للبطل الملحمي، الذي يسعى للخلود ويواجه تحديات فوق- طبيعية".
أما في الصين القديمة، فيُعَدّ هوانغ دي (الإمبراطور الأصفر)، أحد مؤسسي الحضارة الصينية من أشهر الأبطال.
ويشير الباحث مايكل بوتز، في كتابه "الصين القديمة والحضارات المبكرة" (2009) إلى أن "هوانغ دي كان يُنظر إليه كبطل ثقافي، منح البشرية الكتابة والطب والزراعة".
ثم في الهند، حيث نجد في الملاحم القديمة، مثل الماهابهاراتا والرامايانا، أبطالاً مثل أرجونا، وهو البطل المحارب المعروف بمهارته في القتال وحكمته. وتقول الباحثة وينديي دونيجر، في كتابها "الهندوسية: نهج بديل" (2009)، إن "الأبطال في الملاحم الهندية يُجسدون القيم الروحية والأخلاقية للثقافة الهندية، ويُمثلون نماذج للسلوك البشري المثالي".
في جميع هذه الحضارات، كان الأبطال يُعبّرون عن القيم العليا للمجتمع ويعكسون تطلعاته، مُجسدين الصراع بين الخير والشر، وبين الإنسانية والطبيعة. كما كانوا نماذج عن القوة والشجاعة والحكمة والسعي نحو الخلود، وهو ما جعل قصصهم مصدراً غنياً للتأمل الفلسفي والأخلاقي في هذه المجتمعات.
الأبطال في الحضارة اليونانية
قدّمت اليونان القديمة عدداً من الأبطال الأسطوريين، الذين لا يزالون يؤثرون في الثقافة الغربية حتى اليوم.
يشرح روبرت جريفز، في كتابه "الأساطير اليونانية" (1955)، أن "الأبطال اليونانيين كانوا يمثلون الصلة بين عالم الآلهة وعالم البشر، وغالباً ما كانوا نتاج علاقات بين الآلهة والبشر".
وبين أبرز هؤلاء الأبطال هرقل (هيراكليس)، الذي لا يزال يجسد رمزاً للقوة الجسدية الهائلة والشجاعة الخارقة. خاض هرقل سلسلة من المهمّات الصعبة تُعرف باسم "الأعمال الاثني عشر"، والتي تُمثل انتصاره على قوى الطبيعة والفوضى، وهو ما جعله تجسيداً للتحدي والإرادة الصلبة.
هذه الأعمال لا تبرز فقط قوته الجسدية، بل تظهر أيضاً قدرته على التحمل والصمود أمام المصاعب.
وكذلك "بيرسيوس"، الذي عُرِف بذكائه وحيلته في التغلب على العقبات. من أشهر إنجازاته قتل ميدوسا، الغولة المرعبة التي تُحول كل من ينظر إليها إلى حجر. بدلاً من الاعتماد على القوة الجسدية وحدها، استخدم بيرسيوس الحيلة والدهاء، بحيث استعان بالهدايا الإلهية، مثل درع أثينا ونعال هيرميس المُجنحة ليهزم هذا المخلوق الخارق.
أما"أوديسيوس"، فهو يمثل الحكمة والدهاء والصبر. في "الأوديسة" لهوميروس، يحاول أوديسيوس العودة إلى موطنه بعد حرب طروادة، ويواجه سلسلة من التحديات والمخاطر التي تتطلب منه التفكير الاستراتيجي والصبر الطويل.
الأبطال في الحضارة المصرية القديمة
في مصر القديمة، كان الفراعنة يُعَدّون أبطالاً وآلهة في آن واحد. وفي هذا الشأن يذكر الباحث، باري كمب، في كتابه "كيف نقرأ الأساطير المصرية القديمة؟" (2006) أنه: "كان يُنظر إلى الفرعون كابن للآلهة وحامي مصر من قوى الفوضى".
ويتميز البطل المصري بالارتباط الوثيق بالآلهة، بحمايته للنظام الكوني (ماعت) والقدرة على التواصل مع العالم الآخر. كان الفراعنة يعتقدون أنهم يُجسدون هذا النظام، وأنهم مُكلفون حماية البلاد من قوى الفوضى، سواء في العالم المادي أو الروحي.
وأبرز مثال على ذلك هو الفرعون رمسيس الثاني، الذي حكم مصر في القرن الـــ 13 قبل الميلاد. جسّد رمسيس صورة البطل المصري من خلال ارتباطه بالآلهة، حيث صوّر نفسه ابناً للإله رع وتجسيداً للإله حورس على الأرض. قام هذا الفرعون بحماية النظام الكوني من خلال حملاته العسكرية، وخصوصاً في معركة قادش الشهيرة ضد الحيثيين. كما أظهر قدرته على التواصل مع العالم الآخر من خلال بناء المعابد والمقابر الضخمة.
البطل في العصور الوسطى
مع ظهور الأديان التوحيدية وتطور المجتمعات، تغير مفهوم البطل ليعكس القيم الدينية والاجتماعية الجديدة.
البطل في أوروبا المسيحية
في أوروبا المسيحية، ظهر نموذج الفارس النبيل والقديس كبطل جديد. يشرح ريتشارد بارب في كتابه "الفارس والفروسية" (1970) أن "الفارس المثالي كان يجمع بين الشجاعة العسكرية والفضائل المسيحية مثل الرحمة والتواضع".
ومن الأمثلة الشهيرة نذكر أيضاً الملك آرثر، الذي يُمثل الملك المثالي والقائد العادل في الأساطير البريطانية، ويُقال إنه أسس مائدة مستديرة حيث يجتمع الفرسان كأنداد، على نحو يعكس المساواة والعدالة في حكمه.
من جهة أخرى، جسّد روبن هود صورة البطل الشعبي الذي يقف ضد الظلم والطغيان. على الرغم من كونه خارجاً عن القانون، فإن روبن هود يُعَد رمزاً للعدالة الاجتماعية، حيث يقوم بسرقة الأغنياء لإطعام الفقراء، متحدياً بذلك السلطات الظالمة.
ومن بين الأبطال الدينيين، تبرز جان دارك، التي تُمثل البطلة الدينية والوطنية. قادت جان دارك الجيش الفرنسي في حرب الأعوام المئة، مدفوعةً بإيمانها العميق بأن الله اختارها لإنقاذ فرنسا. انتهت حياة جان دارك عندما أُحرقت بتهمة الهرطقة، لكنها أصبحت رمزاً للشجاعة والولاء الديني، وتم تتويجها لاحقاً كقديسة في الكنيسة الكاثوليكية.
البطل في العالم الإسلامي
في العالم الإسلامي، ارتبط مفهوم البطولة بنشر الدين والدفاع عنه. كان "الأبطال في التاريخ الإسلامي يُجسِدون مزيجاً من الشجاعة العسكرية والتقوى الدينية"، كما يوضح الباحث المصري طارق رمضان، في كتابه "في خطى النبي" (2007).
ويُعَدّ خالد بن الوليد مثالاً بارزاً للبطل الإسلامي. كان قائداً عسكرياً ماهراً، وقاد عدداً من الفتوحات الإسلامية، وتميز بذكائه الاستراتيجي وحسن تدبيره في المعارك، وهو ما جعله واحداً من أعظم القادة في التاريخ الإسلامي.
من جهة أخرى، يُمثل الإمام الحسين بن علي، سبط النبي محمد، نموذجاً للبطولة والتضحية من أجل المبادئ. إذ إن استشهاده في معركة كربلاء جعله رمزاً خالداً للوقوف ضد الظلم، والتضحية من أجل الحق والعدالة.
كما نذكر صلاح الدين الأيوبي، القائد العسكري المسلم، الذي اشتهر بتحرير القدس ومعاملته الإنسانية لأعدائه.
وأخيراً، يُعَدّ محمود قطز أيضاً من الشخصيات البطولية البارزة، حيث تصدى بشجاعة للمغول في معركة عين جالوت (1260)، وحقق انتصاراً حاسماً أنقذ العالم الإسلامي من المغول، وهو ما جعله من أبرز الأبطال في التاريخ الإسلامي، فضلاً عن أسماء أخرى كثيرة تمتلئ بها كتب التاريخ الإسلامي.
البطل في الثقافات الآسيوية
في العصور الوسطى الآسيوية، تجسد مفهوم البطل في شخصيات متنوعة عكست القيم الثقافية والاجتماعية السائدة.
ففي اليابان، برز الساموراي كنموذج للبطولة، حيث جمعوا بين المهارات القتالية والقيم الأخلاقية المستمدة من قانون البوشيدو.
ووفقاً لكتاب "الساموراي: تاريخ" للمؤرخ جون مان (2011)، فقد كان الساموراي يجسدون مثل الولاء والشرف والشجاعة، وهو ما جعلهم رمزاً للبطولة في المجتمع الياباني.
أما في الصين، وخلال عصر سونغ (960-1279)، فظهر مفهوم البطل المثقف - المسؤول، بحيث كان يُنظر إلى الموظفين الحكوميين البارزين والعلماء كأبطال ثقافيين.
وتشير المؤرخة باتريشيا إبري، في كتابها "الصين تحت حكم سونغ" (2016)، إلى أن هؤلاء الأبطال كانوا يُقدَرون لمساهماتهم في الإدارة والأدب والفنون، بالإضافة إلى التزامهم الأخلاقي تجاه المجتمع.
البطل في عصر النهضة و"التنوير"
شهد عصر النهضة و"التنوير " تحولاً جذرياً في مفهوم البطولة، حيث انتقل التركيز من القوة الجسدية والفضائل الدينية إلى الإنجازات الفكرية والفنية.
الإنسان الكامل (Uomo Universale)
في عصر النهضة، ظهر مفهوم "الإنسان الكامل" الذي يجمع بين المعرفة والمهارات في مجالات متعددة. يَعُدّ جاكوب بوركهارت في كتابه الشهير "حضارة عصر النهضة في إيطاليا" (1860) "أن الرجل متعدد المواهب في عصر النهضة سعى لتطوير جميع جوانب شخصيته، متجاوزاً حدود التخصص الضيق".
ويُجسد ليوناردو دا فينشي، الذي يُعَدّ أحد أبرز رموز عصر النهضة، هذا المفهوم في أبهى صوره، فهو لم يكن مجرد فنان عبقري أبدع لوحات خالدة، مثل "الموناليزا" و"العشاء الأخير"، بل كان أيضاً عالمًا، ومهندساً، وعالم رياضيات، ابتكر عدداً من الاختراعات التي كانت سابقة لعصرها.
أما مايكل أنجلو، فهو الآخر مثال لــ "الرجل الكامل" في عصر النهضة، إذ لم يكن نحاتاً بارعاً فحسب، بل كان رساماً موهوباً ارتبط اسمه بأعظم اللوحات الجدارية في تاريخ الفن، مثل "سقف كنيسة سيستين" في الفاتيكان. بالإضافة إلى ذلك، برع مايكل انجلو في الهندسة المعمارية وكتابة الشعر، وهو ما جعله في وقته نموذجاً للفنان الشامل الذي يسعى للكمال في جميع مجالات التعبير الإنساني.
العبقري الفردي
مع تطور الفكر الإنساني خلال عصر النهضة، بدأت المفاهيم الثقافية تتحول نحو التركيز على العبقرية الفردية والإبداع الشخصي، حيث أصبح الفرد، وليس الجماعة، محور الإنتاج الثقافي والفكري.
وقد تميز هذا العصر بإعادة اكتشاف الإنسان ككيان مبدع قادر على تشكيل وتوجيه مصيره من خلال الفن والفكر.
يوضح ستيفن غرينبلات في كتابه "اختراع الإنسان: كيف غيّر شكسبير العالم"، (2004)، أن الكتاب والفنانين تحولوا إلى أبطال ثقافيين، ليس بسبب قوتهم أو إنجازاتهم العسكرية، بل بسبب قدرتهم على استكشاف الطبيعة البشرية بطرق جديدة ومبتكرة.
ويشير غرينبلات إلى أن شكسبير، على وجه الخصوص، أحدث ثورة في الأدب من خلال خلق شخصيات معقدة ومتعددة الأبعاد، تكشف عن جوانب متعددة من النفس البشرية، وهو ما أثر بعمق في فهمنا للعواطف والدوافع الإنسانية.
ولم يكن شكسبير وحده من أدى دور البطل الثقافي في ذلك العصر، فلقد تألق في مجالات أخرى فنانون مثل رامبرانت في الفن التشكيلي. ورامبرانت، الذي يُعَدّ أحد أعظم الرسامين في التاريخ، كان يتميز بقدرته الفريدة على تصوير العمق العاطفي والنفسي في لوحاته، باستخدام تقنيات مبتكرة في الضوء والظل.
استطاع رامبرانت أن يعبّر عن التعقيدات النفسية والشخصية لأبطاله، وهو ما جعل أعماله تتجاوز مجرد تصوير لحظات معينة لتصبح انعكاساً عميقاً للطبيعة البشرية.
العالِم والفيلسوف كبطل
في عصر "التنوير"، ظهر العلماء والفلاسفة كرموز للتقدم والتحرُر من قيود الفكر التقليدي. ووفقاً لبيتر غاي في كتابه "عصر التنوير: تفسير"، (1966)، أصبح العقل والمنهج العلمي حجر الزاوية في الفهم الجديد للعالم، مما جعل العلماء مثل إسحاق نيوتن شخصيات مركزية في الثورة العلمية.
وساهمت نظريات نيوتن، الذي يُعَدّ رمزاً لهذه الثورة، في تغيير الفهم الكوني وأرست قواعد الفيزياء الحديثة.
أما الفيلسوف الفرنسي فولتير، فجسد دور المفكر المستنير الذي تحدى السلطات الدينية والسياسية، منتقداً التعصب وداعياً إلى التسامح وحرية الفكر. كما كان فولتير من أبرز المدافعين عن استخدام العقل كأداة للتحرُر الفكري.
في المقابل، ساهم الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، في تطوير نظرية العقد الاجتماعي، حيث ركز على العلاقة بين الأفراد والمجتمع، ووضع أسس الفكر السياسي الحديث التي أثَرت بعمق في الحركات الديمقراطية لاحقاً.
البطل في العصر الحديث: من القرن الــ 18 الى منتصف القرن الــ 20
شهد العصر الحديث، الذي يمتد من أواخر القرن الثامن عشر إلى منتصف القرن العشرين، تحولات كبرى في مفهوم البطولة، متأثرًا بالثورات السياسية والصناعية والاجتماعية.
البطل الثوري: (أواخر القرن 18- القرن الــ 19)
في العصر الحديث، ظهر مفهوم البطل الثوري مع اندلاع الثورات الكبرى في الولايات المتحدة وفرنسا وأماكن أخرى، بحيث أدى أشخاص أدواراً محورية في تحقيق طموحات الشعوب في الحرية والمساواة.
ويشير المؤرخ إريك هوبزباوم في كتابه "عصر الثورة: أوروبا 1789-1848"، إلى أن هذه الثورات كانت نقطة تحول جذري في التاريخ الأوروبي. إذ "أفرزت أبطالاً جسدوا تطلعات الشعوب نحو التغيير الحقيقي".
ويرى البعض أن أحد هؤلاء كان جورج واشنطن، حيث أصبح، بنظر أميركيين، رمزاً للاستقلال الأميركي من خلال قيادته الثورة ضد البريطانيين وتأسيسه للنظام الجمهوري الجديد.
ولم يكن واشنطن قائداً عسكرياً فحسب، بل هو "رمز للفضيلة المدنية والسياسية"، بحيث "ساهم بشكل حاسم في صياغة مبادئ الحكومة الأميركية الناشئة".
في الجانب الآخر، تحول سيمون بوليفار إلى بطل ثوري في أميركا اللاتينية بعد قيادته لحركات التحرير في عدد من الدول مثل فنزويلا وكولومبيا وبيرو، محققاً استقلال هذه البلدان عن الاستعمار الإسباني.
أما ماكسيميليان روبسبيير، فقد كان شخصية مثيرة للجدل في الثورة الفرنسية. ورغم كونه داعماً قوياً لمبادئ الحرية والمساواة، إلا أن قيادته للثورة خلال فترة "عهد الإرهاب"، جعلت منه شخصية معقدة، تتأرجح بين كونه بطلاً يدافع عن الجمهورية وبين كونه مسؤولاً عن عمليات القمع الشديد والإعدامات ضد خصومه.
البطل القومي: ( أواخر القرن الــ 19- منتصف القرن الــ 20)
مع صعود القوميات في العصر الحديث، ظهرت الحاجة إلى أبطال يُمثِلون الهوية الوطنية ويعززون شعور الوحدة والانتماء.
يوضح بنديكت أندرسون في كتابه "الجماعات المتخيلة"، (1983)، يوضح أن القومية هي "مجتمع متخيل"، حيث لا يعرف معظم أفراد الأمة بعضهم البعض شخصياً، ولكنهم يشعرون بترابطهم من خلال اللغة، التقاليد، والمؤسسات الوطنية.
هذه التصورات المشتركة تُعزَز عبر وسائل مثل الطباعة والصحافة، ما يسهم في خلق هوية قومية موحدة.
هكذا أدى الأبطال القوميون، مثل جوزيبي غاريبالدي في إيطاليا، دوراً حاسماً في تحقيق الوحدة الوطنية من خلال قيادتهم حركات التحرير.
وبرز غاريبالدي كــ "رجل الشعب" الذي ناضل من أجل استقلال إيطاليا وتوحيدها في القرن الــ 19.
أما في ايران، فأصبح محمد مصدق بطلاً قومياً بعد تأميم شركة النفط الأنغلو - إيرانية وتحرير إيران من القوى الأجنبية.
وفي السياق العربي، كان جمال عبد الناصر رمزاً للقومية العربية الحديثة، حيث جسد تطلعات الشعوب العربية نحو الاستقلال والتحرر من الاستعمار الغربي.
البطل الاجتماعي: (القرن 19- القرن 20)
في كتابه "التاريخ الشعبي للولايات المتحدة"، (1980)، يشرح الكاتب هاورد زين، كيف أصبح الأبطال الاجتماعيين رموزاً للنضال من أجل الإصلاحات الاجتماعية والعدالة.
ويُسلِط زين الضوء على النشطاء الذين تحدوا الظلم الاجتماعي وسعوا إلى تحقيق حقوق الفئات المهمشة، مشيراً إلى شخصيات بارزة مثل فريدريك دوغلاس، الذي كان ناشطاً مناهضاً للعبودية، حيث ناضل بلا كلل من أجل إلغاء العبودية وتحقيق المساواة للأميركيين من أصول أفريقية.
وكانت أعمال دوغلاس جزءاً أساسياً من حركة إلغاء العبودية التي غيرت وجه المجتمع الأميركي.
كذلك كانت سوزان ب. أنتوني، من رائدات حركة حقوق المرأة في الولايات المتحدة. وقادت هذه السيدة نضالاً طويلاً من أجل المطالبة بحق التصويت للنساء، وساهمت في تأسيس عدة حركات حقوقية ألهمت أجيالاً لاحقة من المدافعين عن المساواة بين الجنسين. يُشدد زين على أهمية هذه الشخصيات في تاريخ الشعب الأميركي من منظور أولئك الذين ناضلوا ضد القمع والاضطهاد الاجتماعي.
البطل العلمي والمخترع: (أواخر القرن 19- القرن الــ 20)
في العصر الحديث، أدى التقدم العلمي والتكنولوجي إلى بروز نوع جديد من الأبطال، حيث أصبح المخترعون والباحثون رموزاً للتطور والابتكار.
ويوضح توماس هيوز، في كتابه "American Genesis"، كيف تحول المخترعون مثل توماس إديسون إلى رموز للعبقرية الصناعية، مُجسدين روح الابتكار التي ساهمت في تشكيل المجتمع الصناعي الأميركي.
ذلك أن إديسون، من خلال اختراعاته المصباح الكهربائي، لم يكن فقط رمزاً للتكنولوجيا، بل تجسيداً لأمل الناس في مستقبل مبني على التقدُم العلمي.
وبرزت أيضاً الفرنسية ماري كوري كبطلة علمية من خلال اكتشافاتها، خاصة الراديوم، ومساهمتها في تطوير الفيزياء النووية وعلاج السرطان. تميزت كذلك بكونها أول امرأة تفوز بجائزة نوبل، مما جعلها رمزاً للقوة العلمية والتحمل في مواجهة الصعوبات الاجتماعية والعلمية. مع تقدم القرن العشرين، اكتسب العلماء والمخترعون مكانة بطولية غير مسبوقة.
يطرح الباحث توماس كون في كتابه "بنية الثورات العلمية"، (1962)، فكرة أن العلم يتقدم من خلال ثورات تغير جذرياً المفاهيم السائدة. ويُعد ألبرت آينشتاين مثالاً بارزاً على هذه التحولات، حيث أحدثت نظريته النسبية ثورة في فهمنا للكون.
ويؤكد كون أن العلماء كآينشتاين أصبحوا أبطالاً، ليس فقط لجمعهم الحقائق، بل لتقديمهم رؤى مبتكرة وثورية غيرت جذرياً طريقة عمل العلماء وتفكيرهم، وهو ما جعلهم رموزاً للإبداع والتطور في العصر الحديث.
من البطل الفردي إلى البطل الجماعي
في القرن العشرين، شهد مفهوم البطولة تحولاً كبيراً من الفردية إلى الجماعية مع اندلاع الحروب العالمية والأزمات الكبرى. وأصبح التركيز على الجهود الجماعية بدلاً من الأبطال الفرديين، وفقاً لما يذكره جون كيجان في كتابه "وجه المعركة"، (1976).
وقد عكس الجنود العاديون في ساحة المعركة هذا التغيير، بحيث أصبح "الجندي المجهول"، رمزاً للتضحيات الجماعية التي قدمها المقاتلون في الحرب العالمية الاولى والثانية، بغض النظر عن هوياتهم الفردية.
إلى جانب التضحية في المعارك، برز دور الناشطين السياسيين في القرن العشرين كأبطال جدد، يناضلون من أجل التغيير السياسي والحقوق المدنية. هؤلاء النشطاء لم يتميزوا فقط بالقدرات الفردية، بل عملوا ضمن حركات جماعية لتحقيق إصلاحات على نطاق واسع، وهو ما جعلهم جزءاً من رواية البطولة الجماعية الجديدة التي سادت هذا القرن. ونذكر منهم الناشط والقائد السياسي نيلسون مانديلا الذي ناضل ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، واستفاد من دعم جماعي من مختلف المنظمات والحركات الشعبية من أجل إنهاء نظام الفصل العنصري في بلاده.
البطولة في عصر ما بعد الحداثة
شهد مفهوم البطولة تحولاً جذرياً في عصر ما بعد الحداثة، متأثراً بتطور وسائل الإعلام وظهور أفكار فلسفية جديدة.
يشرح دانيال بورستين في كتابه "الصورة: دليل إلى الزيف في الحياة الأميركية"، (1962)، كيف ساهمت وسائل الإعلام الشعبية، وخصوصاً التلفزيون، في تسريع "صناعة المشاهير".
وأصبح الأبطال في المجتمع الحديث لا يعتمدون على الإنجازات الشخصية فحسب، بل يتمُ تشكيلهم وصنعهم من خلال وسائل الإعلام، مما أدى إلى ظهور مفهوم "الأشخاص المشهورين فقط لأنهم معروفون"، بحيث أصبحت الشهرة هدفاً، في حد ذاتها.
مع انتشار التلفزيون، برزت فئات جديدة من الأبطال في مجالات الرياضة والترفيه. تشرح سوزان جيفورد في كتابها "الأبطال الأمريكيون في زمن الأزمة"، (2001)، كيف أصبح الرياضيون والفنانون رموزاً يُحتذى بها، خاصة في الأوقات التي يحتاج فيها المجتمع إلى نماذج ملهمة للأجيال الصاعدة.
ومع ظهور العصر الرقمي، تحول المؤثرون على مواقع التواصل ونشطاء الانترنت إلى أبطال جدد وفقاً للباحث هنري جنكينز في كتابه "ثقافة التقارب" (2006).
ويتميز هؤلاء بقدرتهم على التأثير في مجتمعاتهم الافتراضية من خلال نشر محتوى جذاب أو قيادة الحملات الاجتماعية عبر الإنترنت.
بالتوازي مع هذه التغيرات في وسائل الإعلام، أثَرت حركة ما بعد الحداثة بشكل عميق على مفهوم البطولة.
فقد قامت بتفكيك السرديات الكبرى، مُشككة في فكرة البطل كشخصية مثالية تمثل قيماً عالمية. نرى هذا جلياً في شخصية باتمان، وخصوصاً في أفلام المخرج كريستوفر نولان، حيث أصبح البطل الخارق رمزاً معقداً للعدالة والانتقام. كما أكدت أفكار ما بعد الحداثة على تعددية الحقائق والمنظورات، وهو ما أدى إلى ظهور أبطال أكثر تعقيداً، مثل هاري بوتر الذي يواجه صراعات داخلية وخارجية تتحدى مفهوم البطولة التقليدي.
وعملت أفكار ما بعد الحداثة أيضاً على تقويض الثنائيات التقليدية كالخير والشر، منتجة شخصيات بطولية أكثر رمادية أخلاقياً. مثال على ذلك شخصية توني سوبرانو في مسلسل "عائلة سوبرانو"، الذي يجمع بين دور رب الأسرة المحب ورئيس منظمة إجرامية. وقد أدى الشك المتزايد في المؤسسات والسلطة إلى بروز أبطال أكثر تمرداً وانتقاداً للنظم القائمة، كما نرى في شخصية سعيد مهران من رواية "اللص والكلاب" للمصري نجيب محفوظ، فسعيد هو لص يسعى للانتقام من خيانة أصدقائه وزوجته، وفي نفس الوقت يظهر كضحية للظلم الاجتماعي.
شككت ما بعد الحداثة أيضاً في فكرة الهوية الثابتة، وهو ما أسفر عن أبطال ذوي هويات متعددة ومتغيرة. نرى هذا في تطور شخصية جيمس بوند في أفلامه الحديثة، حيث أصبح أكثر عمقاً وتعقيداً. كما أن استخدام التناص والمحاكاة الساخرة أعاد تقديم الأبطال التقليديين بطرق جديدة، كما في شخصية "شريك" في سلسلة أفلام "شريك"، التي تسخر من قصص الأميرات التقليدية والحكايات الخرافية.
كذلك أدى تقويض فكرة الحقيقة المطلقة إلى تقديم أبطال أقل يقيناً وأكثر اعترافاً بأخطائهم، مثل شخصية جون سنو في "صراع العروش". كما اهتمت ما بعد الحداثة بالمنسيين، مبرزة أبطالاً من فئات كانت مهمشة تقليدياً، كما في شخصية "بلاك بانثر" في عالم مارفل السينمائي. وقاد تقويض الحدود بين الواقع والخيال إلى ظهور أبطال يشككون في واقعهم، كشخصية "ريك" في مسلسل "ريك ومورتي" الكرتوني.
في الختام، أدت النسبية الأخلاقية التي جاءت بها ما بعد الحداثة إلى ظهور أبطال يعملون في مناطق رمادية أخلاقياً، كما نرى في شخصية جاك سبارو في سلسلة "قراصنة الكاريبي". هذه التغييرات مجتمعة أنتجت أبطالاً أكثر التباساً وإنسانية في الأدب والثقافة الشعبية، عاكسة التعقيدات والتناقضات في عالمنا المعاصر.
وهكذا، فإن البطل في عصر ما بعد الحداثة أصبح مرآة لمجتمع متغير، يعكس تساؤلاتنا وشكوكنا وتطلعاتنا في عالم يزداد تأزماً يوماً بعد يوم.
المصادر
- Anderson, Benedict. (1983). Imagined Communities.
- Barber, Richard. (1970). The Knight and Chivalry.
- Boorstin, Daniel. (1962). The Image: A Guide to Pseudo-Events in America.
- Burckhardt, Jacob. (1860). The Civilization of the Renaissance in Italy.
- Jacobsen, Thorkild. (1976). The Treasures of Darkness: A History of Mesopotamian Religion.
- Doniger, Wendy. (2009). The Hindus: An Alternative History.
- Ebrey, Patricia. (2016). The Cambridge Illustrated History of China: Song Dynasty Edition.
- Gay, Peter. (1966). The Enlightenment: An Interpretation.
- Graves, Robert. (1955). The Greek Myths.
- Greenblatt, Stephen. (2004). Will in the World: How Shakespeare Became Shakespeare.
- Hobsbawm, Eric. (1962). The Age of Revolution: Europe 1789-1848.
- Hughes, Thomas. (1989). American Genesis: A Century of Invention and Technological Enthusiasm, 1870-1970.
- Jeffords, Susan. (2001). American Heroes in Times of Crisis.
- Jenkins, Henry. (2006). Convergence Culture: Where Old and New Media Collide.
- Keegan, John. (1976). The Face of Battle.
- Kemp, Barry. (2006). How to Read Ancient Egyptian Myths.
- Kuhn, Thomas. (1962). The Structure of Scientific Revolutions.
- Owen, Stephen. (1996). An Anthology of Chinese Literature.
- Puett, Michael. (2009). Ancient China and Early Civilizations.
- Zinn, Howard. (1980). A People's History of the United States.
- طارق رمضان، على خطى النبي، 2010.
- نجيب محفوظ، اللص والكلاب، 1961.