"ديناميات الشريعة": إسلام واحد أم إسلامات كثيرة؟
مثّلت أنثروبولوجيا الإسلام حلبة صراع بين مقاربات متنافسة وقام بينهم جدل حول ما ينبغي أن يكون موضوع بحثهم، وماهية الإسلام، وأقوم الطرق لدراسته.
هل يوجد إسلام واحد أم إسلامات كثيرة متنوعة مختلفة، و"كيف ينبغي دراسة الظاهرة الإسلامية انثروبولوجياً؟ هل بالانطلاق من المصادر النصّية المرجعية (قرآن، حديث) باعتبار أن الإسلام له هوية محددة في تلك النصوص، أم يجب دراسة الظاهرة الإسلامية كما هي مجسدة ومتعينة في الواقع؟".
تختلف القراءات والتقديرات حول أولوية للنصوص في قراءة الظاهرة الإسلامية، سواء أكانت أولوية مطلقة، أم أولوية تأويلية. والواقع أن التمثلات والتجسيدات كثيرة، ولو أن ذلك يحدث في "خط المعنى" الذي تقرره النصوص الفقهية الرئيسة حسب المذاهب المختلفة، والتحرك في إطار الشريعة التي يختلف معناها بين بلد وآخر، وحتى بين لحظة وأخرى في البلد نفسه؛ بل بين لحظة وأخرى، وموقف وآخر لدى الفاعل نفسه، وليكن حزباً أو جمعية أو منتدى أو شبكة. وثمة ديناميات نشطة تحكم المجال الديني والظاهرة الإسلامية في عدد كبير من مجتمعات ودول العالم.
دراسة الإسلام
تقول مقدمة ناشر الكتاب: "إن اللازم على مستوى المنهج هو المناداة بوجوب دراسة الإسلام كـ"إسلامات متعددة النماذج الواقعية". أي بتعبير آخر: ليس هناك إسلام واحد يتحدد بالنصوص والمرجعيات المقدسة. وهكذا يلاحظ في هذه الدراسات استبعادها للنص، وعدم إيلائه اعتباراً لفهم المجتمعات الإسلامية، حيث لا تستحضر منه إلا ما يستحضره الفاعلون الاجتماعيون، وبحسب تأويلهم له. ... حيث لا فائدة حسب هذا التوجه من العودة إلى النصوص ولو كانت نصوصاً مرجعية؛ حيث إن الدلالة لا توجد إلا في الوعي والفعل، وليس في الخطاب/النص". ص 10.
ولو ان كُتاباً مثل طلال أسد، يؤكدون على دراسة النصوص، لأن وجود الجماعة المسلمة مرتبط بالنص ويتفاعل معه. والواقع أن الكتاب يحاول أن يربط بين اتجاهات نظر وتفكير حيال الظاهرة الدينية في المجتمعات الإسلامية. ويدرج عدداً من المساهمات المهمة لعدد من الباحثين المتمرسين.
ديناميات الشريعة وانثروبولوجيا الإسلام
يعرض تيموثي دانيالز، وهو محرر الكتاب، "ديناميات الشريعة وأنثروبولوجيا الإسلام"، ويتناول مفهوم الشريعة، وهو في الواقع مفاهيم متعددة، خلافية بطبيعتها. يقول: "إن الشريعة مفردة معجمية حمالة لمعانٍ متعددة، واستعارة مركزية، وتركيبة من النماذج الثقافية". فهي تعني القانون الإسلامي والقواعد الأخلاقية. وهي بالمعنى الفقهي "مفتاح النجاة والنجاح في الدنيا والآخرة". وهي "محال معرفة مختصة"، كما هو حال خبراء الصيرفة الإسلامية. كما أنها "مجال معرفة معممة وموزعة اجتماعياً"، على غرار مرتادي المساجد في بلدان إسلامية.
"وتدخل الشريعة أيضاً في قسط وافر من الخطاب المنطوق والمكتوب، كما يستثير ما يتصل بها من رموز معاني ومشاع متعددة لدى المسلمين وغير المسلمين على حدٍ سواء، لذلك تعد الشريعة بجد ذاتها موضوع دراسة على غاية من الأهمية في أنثروبولوجيا الإسلام، وفي أنثروبولوجيا الدين بشكل عام". ص21.
تطرح دراسة الشريعة العديد من الأسئلة على أنثروبولوجيا الإسلام، من قبيل: "هل يجب أن نفهم هذه المنتجات على أنها جزء من "تقليد خطابي" يربط نفسه بالنصوص المؤسسة، أم بوصفها خطابات وتأديات مستجدة، يجب فهمها حصراً من خلال تأويلات محاورينا ومدى معارفهم؟ وكيف ينبغي أن نقارب ارتباط منتجات الشريعة هذه مع مفاهيم مغايرة، وكيف يمكننا مقاربة تجسّدها في الممارسة؟ وكيف تتصل هذه المنتجات بالحداثة والعلمانية والإسلام السياسي؟" ص22. يأمل محرر الكتاب والمشاركون فيه في أن يفتح "مسلكاً جديداً أمام أنثروبولوجيا الإسلام".
ومثّلت أنثروبولوجيا الإسلام "حلبة صراع بين مقاربات متنافسة ... وقام بينهم جدل حول ما ينبغي أن يكون موضوع بحثهم، وماهية الإسلام، وأقوم الطرق لدراسته". ص 22. بين التركيز على "علاقات الممارسة والتمثل والرمز والمفهوم ورؤية العالم"، وبين "خيطة خطابات عن كيف يشعر المرء أنه مسلم".
والمهم هنا هو النقاش حول موقع القرآن والأحاديث والأحكام في عقول مشاعر وأحاسيس وعيش الفرد المسلم. وبهذا، "فإن المجتمع ينتج أشكالاً متنوعة من الإسلام، بعضها على يد الحركات الإحيائية المعاصرة، والآخر على يد أنظمة الدولة، ويجسّدها أفراد ينحدرون من خلفيات متعددة". ص22-23.
"يشكّل المسلمون، مستندين إلى المعرفة المتضمنة في النصوص الدينية، تمثلات ذهنية ونماذج ثقافية وممارسات متجسدة متنوعة، منتجين بذلك تنويعة من الإسلامات المحلية. وترتبط النسخ المحلية من المفاهيم والممارسات الإسلامية وتتألف وتتداخل مع غيرها من الأفكار والسلوكيات الموجودة في السياسات الاجتماعية المحلية". ص 25.
يضيف: "وبهذا، نجد في المجتمع الواحد تمثلات وتركيبات ذهنية إسلامية متعددة، يتم بناؤها وإعادة إنتاجها وتغييرها عبر تحولات التنشئة الاجتماعية والفعل البشري". وعلى الرغم من أن تلك التنويعات –من منظور أنثروبولوجي ومعرفي، متساوية من حيث صديقتها أو حقيقتها، إلا أن كل تمثل يعد نفسه "أقرب إلى الإسلام من غيرها". ص 25.
وهذا مصدر منافسة أو صراع، عادة ما يتخذ أشكالاً من الاستقطاب الاجتماعي والديني والسياسي الحاد، وقد ينفجر صراعاً دامياً، كما هو الحال في العديد من المجتمعات. وهو ما دفع - مع عوامل أخرى - العديد من المفكرين لإنتاج مقاربات إصلاحية أو تجديدية، في أفق الرؤية الدينية والاجتماعية، وأفق التحولات التي يشهدها العالم اليوم، وخاصة مفهوم مقاصد الشريعة، والاجتهاد.
يبحث المشاركون في الكتاب الدور الذي تلعبه خطابات الشريعة وممارساتها في التحولات الاجتماعية السياسية في ماليزيا وإندونيسيا وتونس ونيجيريا والولايات المتحدة، وفي المجتمع الفقهي الإسلامي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي. وفيه نقاشات معمقة حول علاقات الجندر، وبناء الأمة، والمعارضات السياسية، والتنظيمات الدعوية التقوية، والعلاقة بين الغالبية المسلمة والتكوينات الدينية الاجتماعية والإثنية غير المسلمة، وأحياناً الاجتهادات والتشكلات المسلمة الحداثية أو العلمانية، والاجتهادات والتشكلات المنبثقة عن خط الإسلام السني، كما هو الحال مع الجماعة الأحمدية في باكستان. والتنويعات والتمفصلات بين خط التدين أو الجماعة الإسلامية وبين الحداثة والعلمانية والحركات الإسلامية (الإسلام السياسي والجهادي).
ويتناول الكتاب تأثيرات الحداثة والعولمة الغربية في المجتمعات المسلمة، وإلى حد ما تأثير وجود الجماعات أو الجاليات المسلمة في الغرب على الخطاب الديني وخطاب الشريعة ودور الفترة الاستعمارية (الكولونيالية ودراساتها) في تشكيل مفاهيم الأمة-الدولة، والدولة الحديثة، والموقف بين الدين والدولة، والدين والغرب، والتأثير في المؤسسات الدينية والقوانين الدينية والدولتية. ومن ذلك المواجهة والتوافق والتكيّف والتمثل بين القوانين المحلية –ومنها القوانين الدينية- وبين القوانين المفروضة من قبل الغرب أو المتشكلة في ظل سيطرته وتأثيره الممتد والعميق أحياناً.
الشريعة والتقليد الخطابي
يتناول القسم الأول من الكتاب "الشريعة والتقليد الخطابي". ويتحدث عمر مُوَّاس عن "الفتوى، والخطابية، وإنتاج الشريعة". ويدرس "إنتاج الشريعة في الفترة ما بعد الاستعمارية"، ص 55، وتطور تقليد فقهي إسلامي يتسم بالتنوع والهجنة، ويحلل فتاوى "مجمع الفقه الإسلامي الدولي"، في أمور مثل: الصيرفة الإسلامية والأسهم، والتأمين الصحي، والتجارة الدولية. ويسلك المجمع "مسالك تأويلية" على "قاعدة المصلحة"، في نزوع إصلاحي، معتمداً على ما يسمّيه "العوامل السياقية"، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى "استخدام مبتكر للتعديلات الفقهية"، وذلك "ضمن مشروع يستهدف تجديد الشريعة، كجزء من الاستجابة للسياقات ما بعد الاستعمارية المتغيرة والمتقلبة على الدوام".
ويتناول نجيب أحمد برهاني "فتاوى انتحار محمد البوعزيزي حرقاً: السلطة الدينية والميديا والعلمنة". وقد مثل انتحار البوعزيزي شرارة الاضطرابات والثورة في تونس. ويركز برهاني على تناقض النظر إلى الانتحار والشهادة في التقليد الخطابي الإسلامي، وكيف حدث نوع من الافتراق في النظر للحدث، بين تيار اجتماعي وبين مقاربات فقهية ودينية. وكيف ذهب الشيخ يوسف القرضاوي إلى نوع من المداورة أو المخاتلة القصدية في قراءة الحدث، فهو لم يدن الانتحار، كما أنه لم يؤيده أو يشرعنه بصورة مباشرة، ولو أنه ذهب بعيداً في دعوته لـ"الخروج" و"الثورة" ضد الحكام في دول مثل ليبيا وسوريا. وهذا ما يمر عليه الكاتب بحذر شديد. يقول الكاتب: إن الشعب عدّ البوعزيزي شهيداً، بصرف النظر عن المقاربة الفقهية والدينية لواقعة إحراق النفس.
يقول روبرت هيفنر في ورقته "الشريعة والمتخيلات الأخلاقية الإسلامية في إندونيسيا المعاصرة"، إن التصورات الشعبية حول الشريعة في إندونيسيا لها التأثير القوي لظرفين أو محددين: الأول تنظيمي، والثاني ابستمولوجي/معرفي. يتمثل الأول في تاريخ التعليم الديني وتطور مضمونه، وازدهار الجمعيات الخيرية الإسلامية، وتركيز المدارس الدينية على التاريخ والتعاليم العامة وحفظ القرآن والتهذيب الأخلاقي الخ أكثر منه الأطروحات الفقهية. ولو أن ذلك شهد تغيرات مضطردة في العقود الأخيرة بتأثير تطورات داخلية وتداخلات خارجية وعالمية. وتشكلت حركات إصلاحية، وحركات تتخذ من الخطاب الديني وسيلة للاستقطاب الاجتماعي والسياسي، وحركات سياسية وقومية أخذت تعطي البعد الديني أهمية أكبر مما كانت تفعل في السابق.
وعلى الرغم من البروز المتزايد للنزعة الدينية الإسلامية، والتحول إلى سياسات أكثر تطرفاً في التفكير والفعل، ومنها ما يدعو لإقامة "دولة إسلامية"، إلا أن ذلك لم يطبع المشهد السياسي والديني في إندونيسيا، إذ لا يزال الخط الرئيس للتديّن في المجتمع أكثر اعتدالاً ووسطية، أو لنقل إن المجتمع أقل قابلية لتلقي الخطاب الراديكالي الإسلامي.
الشريعة، والدولة، والمجتمع
يركز القسم الثاني من الكتاب على "الشريعة، والدولة، والمجتمع". ويتناول حالة المسلمين الصينيين وعلاقتهم بالدولة، وبروز تشكلات وتمثلات مختلفة للظاهرة الدينية للمسلمين في الصين، في علاقات وتفاعلات بين أقصيين: الأول هو التفاهم، والثاني هو المعارضة. ويركز جبمس فرانكل في ورقته "الشريعة في الصين: تصورات توافقية" على ثلاثة عشر قرناً من وجود الإسلام في الصين، وتحولات العلاقة بينهم وبين الدولة. ويشير فرانكل إلى ظاهرة الأويغور والتوترات في إقليم شينجيانغ في الغرب، والتدخلات التاريخية والقومية والدينية والإيديولوجية في الموقف بين الإقليم والدولة.
يتناول تيموثي دانيالز في ورقته "تفاعل مشاريع الشريعة في ماليزيا: بين الهيمنة المالاوية والإسلام والحقوق الليبرالية"، مشاريع الشريعة في ماليزيا، وتطور الظاهرة الدينية الإسلامية في الصراع الاجتماعي والموقف بين المجتمع والدولة والصراع على السلطة في ماليزيا، وبروز مشاريع إصلاحية، مثل المقاربات النسوية، والجمعيات النسوية التي تحاول أن تقوم بدور المدافعة عن أوضاع النساء، وتعديل أو إصلاح المقاربة الدينية للنساء. ويسلّط الضوء على دور الشريعة والقومية في الصراع السياسي وموقف الجماعات الإثنية والجماعات غير المسلمة في ماليزيا. بالإضافة إلى تطور البعد الديني في الخطاب السياسي في ماليزيا، ووزنه النسبي –أحياناً المرجح- في ميزان القوة والمعنى في ماليزيا.
الشريعة والجندر
يتناول الجزء الثالث من الكتاب موضوع الشريعة والعلاقات بين الجنسين في مجتمعات ذات غالبية مسلمة وهي: ماليزيا ونيجيريا وباكستان. تركز دورا إلدر في ورقتها "مرويات جندرية عن الخبرة في المالية الإسلامية والتمويل الإسلامي في ماليزيا"، على النساء في ماليزيا، ودورهن في الصيرفة الإسلامية. وتتحدث إلدر عن "لا يقين" لدى النساء العاملات في القطاع حيال شرعية العمل، وتلاحظ أنهن يقمن بنوع من "الانتقائية البراغماتية"، على غرار مجتمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة التعاون الإسلامي. وتوصلت النسوة العاملات إلى نوع من التكييف أو التأويل للأطر المرجعية، القديمة منها والحديثة، على أساس مفاهيم مثل: العرف، والسوابق العملية، والاجتهادات الفقهية/الفتاوى، والمصلحة.
وتدرس سارة طنطاوي في ورقتها "صعوبة تفسير موقف النساء منتقدات الشريعة في شمال نيجيريا" بعض الأبعاد الجندرية في "ثورة الشريعة" في شمال نيجيريا سنة 1999، والمطالب المتزايدة لتطبيق الشريعة في ولايات شمال نيجيريا، والدولة متعددة الأديان والجماعات الإثنية واللغوية والعرقية الخ، والمعروفة بتاريخ استعماري وتطور سياسي ودستوري إشكالي، وتفاوت اجتماعي وطبقي وجندري كبير.
وتتقصى طنطاوي عناصر التشابه والاختلاف في المواقف بين الرجال والنساء حيال المطالب بحكم الشريعة وتعدد الزوجات والعلاقات الجنسية خارج الزواج، والتطبيق الجائر و"المتحيز ذكورياً" للشريعة، ودعوة النسويات إلى التغيير الثقافي، والتعليم، وحماية الشابات من مخاطر الحمل المبكر والولادة المبكرة والطلاق التعسفي.
تتناول مرين زمان في ورقتها "الحركات الإسلامية والمرأة والإصلاح الاجتماعي: من يتحدث عن الشريعة في باكستان؟"، مسألة الجندر والشريعة في باكستان، وعلاقتها بـ"حركة الهدى" وحركة "جماعة التبليغ"، الحركتين الدعويتين الناشطتين في باكستان، والخطاب الديني لعدد من الفواعل والمنظمات والحركات، التي تتشابه في أمور كثيرة، إلى درجة يصعب على المراقب البعيد التمييز بينها، ولو أن عدداً من التنظيمات الدعوية والدينية يتحاشى النقاشات السياسية الصريحة.
تعيد النساء المشاركات في التنظيمات الدعوية "التمييز الجندري" في المجتمع إلى "تفسيرات خاطئة للمصادر النصية"، وإلى العادات الاجتماعية والموروث التاريخي. وتلاحظ مرين زمان دوراً متزايداً للنساء في الحدث الديني أو الظاهرة الدينية الإسلامية في المجتمع، وانخراط متزايد لنساء في المجال العام.
الشريعة والتعددية الدينية
يتناول القسم الأخير من الكتاب "الشريعة والتعددية الدينية". وتركز وجيهة أمين مالك في ورقتها "أنت لست مسلماً: إقصاء الأحمدية وتأويل الشريعة في باكستان" على اختلاف التأويلات الدينية بين الأغلبية السنية والجماعة الأحمدية في باكستان، والضغوط التي مارستها الجماعة الإسلامية السنية ضد الأحمدية، سواء أكانت ضغوطاً اجتماعية ودينية وسياسية مباشرة، بما في ذلك العنف والاستهداف، أو ضغوطاً من خلال النظام السياسي والدولة، والدفع لسن تشريعات وقوانين تمييزية حادة –بل بالغة القسوة- ضد الأحمدية، إلى درجة منعها من استخدام التعابير والتسميات الإسلامية.
وتركز الكاتبة على مواقف الجالية الأحمدية الباكستانية في الولايات المتحدة، وتجاذبات الهوية والانتماء، والشعور بالتمييز، بل الخوف من مجرد العودة إلى زيارة البلاد لرؤية الأقارب. وهذا يفتح الباب أمام مصادر توتر متزايدة في مجتمع يعاني بالأساس من الاختلال والاضطراب الاجتماعي والسياسي، وتزايد الظاهرة الدينية المتطرفة فيه، وبالطبع التداخلات الناتجة عن الأزمات الإقليمية والدولية، وخاصة في أفغانستان.
يعود الكتاب إلى الحديث عن ماليزيا، ويكتب تشارلز ألرز عن أنور إبراهيم ورقة بعنوان "أنور والمقاصد: صياغة ديمقراطية إسلامية". أنور الذي أصبح رئيساً للوزراء في ماليزيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، بعد سنوات من الصراع والسجن. ويركز الكاتب على دور إبراهيم في بناء رؤية ليبرالية وتعددية وحداثية "متمفصلة" مع مقاصد الشريعة، وما يدعوه إبراهيم "ديمقراطية إسلامية".
ويقدم ديفيد بانكس ورقة بعنوان "قناع الوحدة: الإسلام وثقافة الاندماج في صباح"، تتناول أوضاع مدينة كوتا عاصمة ولاية صباح-ماليزيا. ويركز على تطور ظاهرة الشريعة في المدينة والولاية، وكيف أن أهل السياسة والحكم قيدوا النشاطات التبشيرية، وقاموا بالدعوة إلى الإسلام، والاتجاه لاحقاً لتوحيد الولاية مع ماليزيا في إطار هوية مالاوية جديدة توكد على الإسلام والهوية المالاوية الوطنية.
ويلاحظ بانكس أن الإسلام المعاش في صباح أقرب لـ"إسلام الحد الأدنى"، إذ يسعى المؤمنون لأن يكونوا قريبين من الله، إنما "بعيداً عن أية أجندات سياسية"، ويتحاشون في الخطب والمنابر الحديث في السياسات الحكومية. ويبحثون عن معارف دينية شخصية، والقيام بالأنشطة الخيرية في إطار ما تسمح به الشريعة.
ملاحظات
يتناول الكتاب ديناميات الشريعة في مجتمعات إسلامية سنّية، ويسكت عن مواقف وقراءات نقدية من الظاهرة، ولم يلحظ وجود قراءات للشريعة في أفق حداثي وعلماني صريح، كما لم يشِر إلى دور السياسات الكبرى في ترجيح أو توجيه السياسات حول الشريعة، وخاصة الدعم الغربي والخليجي والأسلمة الفائقة للمجتمعات، وكيف أن نمو الاتجاهات الدينية، هو في جانب مهم منه، عملية قصدية، في إطار الصراع على المعنى والقوة في النظام العالمي، وليس محض عملية تطورية أو تلقائية.
وتتسم أوراق الكتاب بالجدية والعمق، ما خلا فقرات ملتبسة في النص الخاص بـنيجيريا، الذي بدا أقل همة في رسم ملامح الظاهرة. كما أخفق الكتاب في ملاحظة العنف المتزايد في الظاهرة الدينية في نيجيريا وباكستان وإندونيسيا، وهو عنف كبير ويحيل إلى قابلية استقطاب حاد، يهدد المجتمعات والدول بأزمات أو صراعات كبرى.
في الختام
يمثّل الكتاب مقاربة متميزة للظاهرة الدينية والشريعة في عدد من المجتمعات والدول الإسلامية: إندونيسيا وباكستان وماليزيا ونيجيريا، بالإضافة إلى الصين. ويسلّط الضوء –بأقلام عدد من الخبراء المختصين- على دور الدين والظاهرة الدينية في تلك المجتمعات، بما يُظهر تنوعاً مهمها وغنىً كبيراً في تلقي أو تمثل الدين والشريعة. ويخلص القارئ إلى أن العالم أمام "إسلامات كثيرة ومتنوعة"، ولو أن التنوع أكبر بكثير مما أورده الكتاب، إذ ثمة تجارب وتمثلات وتأويلات واجتهادات وتطبيقات ومشروعات أسلمة وشريعة في مجتمعات ودول أُخرى مثل: إيران وتركيا ومصر والجزائر وغيرها، بالإضافة إلى تنوع كبير في خبرات التجربة الدينية الإسلامية لدى الجاليات المسلمة في أوربا وأميركا وروسيا الخ.
ولعل الإنجاز الأهم للكتاب هو مقاربته الظاهرة الدينية الإسلامية والشريعة من منظور أنثروبولوجي ومعرفي مركب ومتعدد، وبأقلام كتاب متعددي الاختصاصات. ويبقى أن على المشتغلين بالظاهرة الإسلامية والشريعة، والمعنيين بها، مواصلة التفكير في الدين والمجتمع، في أفق روحي وإنساني منفتح على العالم، والأهم هو الانفتاح على تنوع واختلاف الظاهرة الدينية في المجتمعات الإسلامية، من مذاهب ومدارس فقهية واجتهادات وسياسات.
الكتاب: ديناميات الشريعة: الشريعة الإسلامية والتحولات الاجتماعية السياسية.
تحرير: ديموثي دانيالز.
ترجمة: محمد الحاج سالم، جهاد محمد الحاج سالم.
الناشر: مركز نهوض للدراسات والنشر- بيروت، 2020. 434 صفحة.