دايخ وقاووق و"البولفار" ثالثهما: الفرجة الشعبيّة في لبنان تنتظر انبعاثها
يقف محمد دايخ دائماً على حد السيف، بين نقل هواجس ولهجة ووعي وخصوصيّة وواقع بيئة معيّنة، وبين التنميط والمغامرة بتوظيفات سياسيّة مقلقة.
لا شكّ في أن الثنائي محمد دايخ وحسين قاووق، ظاهرة تستحق الاهتمام في المشهد الفنّي اللبناني. ظاهرة ثقافية وإعلاميّة طبعاً، إنما أيضاً ظاهرة اجتماعيّة وسياسيّة. كلّما تراءى للبعض أن بالإمكان عزل الفن عن الحياة، أو فصل الثقافة عن السياسة، وجدنا أنفسنا في قلب الدوامة، وفوق الحلبة الحامية نفسها التي تعيد إنتاج الصراعات السياسية والوجوديّة بمختلف القوالب والأشكال. أليست السخرية السياسية والاجتماعية ونقد الأعراف والعادات والتصادم مع السائد فعلاً سياسياً بامتياز؟ مسرحيّة "طلع إبليس بحب الله" التي تحقّق الإقبال على خشبة "البولفار" في بيروت، منذ نيسان/أبريل الماضي، لا تشذّ عن تلك القاعدة!
محمد دايخ نفسه، كاتب النصوص والحوارات ومخرجها، و"دينامو" التجربة التي عمرها اليوم 5 سنوات (بدأت في العالم الرقمي، ثم انتقلت إلى خشبة المسرح، والـ stand up comedy، مروراً بالسينما، وصولاً إلى التلفزيون)، لا يتبرّأ من "وصمة" السياسة التي تلاحقه. بل إنّه يتلاعب بمهارة وإتقان بتلك "المادة المتفجّرة" التي أدّت دوراً حاسماً في صنع شهرته وشعبيته هو والمجموعة. مجموعة كان ولا يزال أبرز وجوهها الممثّل الموهوب حسين قاووق الذي يحمل كلمات دايخ وأفكاره، ويجسّد، إلى جانب آخرين طبعاً، شخصياته "الملعونة" والهامشيّة والغاضبة والإشكالية والكاريكاتوريّة. والمضحكة في كل الأحوال.
المسرحيّة الجديدة "طلع إبليس بحب الله" (تأليف وإخراج محمد دايخ، تمثيل حسين قاووق وحسين دايخ)، مرحلة متقدّمة في مسيرة هذا الثنائي. لكن رغم ابتعادها ظاهريّاً عن الاسكتشات النقدية الساخرة، ومشاهد الهجاء السياسي، التي طبعت أسلوبهما، تكاد تكون امتداداً لتجربتهما الكوميديّة الغزيرة، والمتعددة الوسائط. علماً أن العمل الجديد هو نسخة مزيدة ومنقّحة ومعدّلة من مسرحيّة سابقة لدايخ، حالت الظروف دون وصولها إلى الجمهور في العام 2019، وكانت بعنوان "عم بيقولوا إسماعيل انتحر".
نحن هنا أمام تجربة فنيّة متكاملة، نص يستعير مناخات مسرح العبث، الإنكليزي تحديداً. إسماعيل (حسين قاووق)، هذا المواطن التائه، اليائس، الفاشل، المعدم، والعابث، يدخل من فتحة الحيوانات الأليفة إلى بيت مهجور، هرباً من كلب يطارده. في حقيبته: ملابس حمراء بمقاسات عملاقة، وصورة امرأة في إطارها الفضي، ومسدس. إنّه يريد الانتحار، في هذا المكان الغريب الذي ليس غريباً تماماً. سيستمع فيه إلى أشرطة كاسيت، على مسجّلة من زمن آخر، وتأخذه أغنية ليلى مراد إلى طيف أمّه. إسماعيل يحاصره الفشل وتطارده الذكريات وأحلام الارتقاء الاجتماعي. ويؤمن بالحلول السحريّة. فهو يخاطب قوّة علويّة، ويطلب من "الله" أن يرسل له مليون دولار كي يخرج من محنته ويتصالح مع الحياة.
وحين يُفتح باب المنزل الذي خلناه عصيّاً على الفتح، بعد مونودراما دامت زهاء 40 دقيقة، ويدخل رجل ضخم (حسين دايخ) يحمل حقيبة محميّة بشفرة (كود)، سندخل إلى القسم الثاني من المسرحيّة، وهو مصمّم على شكل مبارزة، بين لاعبين هامشيّين، فوق حلبة اللامعقول. القادم الجلف الذي يسأله إسماعيل إذا كان "ملاكاً من حي اللجا"، سنكتشف لاحقاً أنّه صاحب المنزل. لكن لا شيء محسوم في هذه اللعبة الهاذية. هل أرسلَتْ السماء المليون دولار لإسماعيل مع هذا "الملاك" الأقرب إلى "إبليس"؟ علماً أنّ صاحبنا البائس ساوم على المبلغ، واكتفى في النهاية بــ 50 ألفاً. وكان ليقبل بأي جائزة ترضية لإقناعه بالعدول عن الانتحار: أن يرسل له الغيب الأرقام الرابحة في "اللوتو" مثلاً...
تتطوّر العلاقة بين الرجلين في مناخات عبثية وكوميديّة ساخرة. كان يمكن للعمل أن يكون من عيون مسرح العبث الإنكليزي بأبعاده الفلسفية والإنسانيّة والوجودية، أو ربّما مسرحيّة اجتماعية ـــ على طريقة مسرحيّة دايخ/ قاووق السابقة "السبعة ودمّتها" (2022) ـــ تصوّر المفارقات الاجتماعيّة، وتحكي عن قهر "الناس اللي تحت" الذين يصوّرهم دايخ بمهارة، في سعيهم وراء أوهام الخلاص المستحيل. لكنّ الحوارات سرعان ما تنوء هنا تحت ثقل اللطشات السياسيّة، والقفشات المضحكة التي يعرف الكاتب سرّها جيّداً. فهو يكتب بنزق وصدامية واستفزاز، بلغة يوميّة وبفطرة شعبيّة. لديه مَلَكة الكتابة بلسان العامة، والتقاط عوالمها، ونقل مشكلاتها وتجاربها. فهل يوجّه قدراته في خدمة البنية الدراميّة والفنيّة للعمل؟
للأسف تطغى اللطشات السياسية على كلّ ما عداها. تضيع الشاعرية، ومناخات اللامعقول تحت وطأة الكلام العادي والسوقي والنكات السهلة. يذهب المؤلّف إلى هذا الخيار صاغراً، كأنّه سرّ صنعته ونجاحه! وهذا ما يريده الجمهور أصلاً. إذ يجلس مترصّداً ومتربّصاً بالقفشات، والتعليقات والعظة السياسيّة السهلة (الخراف التي تحب سلّاخها، الجنوب اللبناني الذي نسيته حتى السماء، إلخ). هل هذا مسرح سياسي؟ ليس تماماً. لقد ميّز المسرحي السوري الراحل سعد الله ونوس بين "التفريغ" (على طريقة دريد لحّام الذي وصل بهذا النوع من الكوميديا إلى أقصى احتمالاته، في مسرحيّات خالدة كتبها محمد الماغوط) و"التحريض"، أو "التسييس" الذي هو نسغ المسرح السياسي، وينتمي إلى تقاليد الفرجة الشعبيّة! جمهور دايخ/قاووق الذي يُقبِل على العروض بحماسة مدهشة، ويتفاعل معها ضحكاً وتصفيقاً وتعليقاً، أقرب إلى دائرة "التفريغ". كأنّه جالس في صالون الدار، يشاهد إحدى تلك الحلقات التلفزيونيّة التي تنتقد الواقع السياسي وتهزأ به وبمفارقاته.
وهذا الجمهور أهم وأخطر ما يميّز التجربة الكوميدية الشعبية التي نحن بصددها. علينا أن ننتبه لحضوره من زاوية سياسيّة واجتماعيّة في لبنان، كشريحة معبّرة، سيُحسب لها حساب في تشكّل المزاج العام مستقبلاً. جمهور بناه الثنائي لبنةً لبنة، عبر العالم الرقمي أولاً، حيث كان سقف الحرية والجرأة عالياً على النت مع "علي علي علويّة" وشركائه. أما مادة السخرية فكانت (ولا تزال) مستوحاة من البيئة التي ينتمي إليها صنّاع الاسكتشات، ويعرفونها وينتقدونها. كل ذلك فرز جمهوراً ينتظر هذا النقد ويحتاجه ويحبّه. النقلة على الشاشة الصغيرة لم تكن سهلة. على قناة "الجديد" وبعد 3 حلقات من برنامج "شو الوضع"، اصطدم دايخ والمجموعة بسقف منخفض للحرية: مسموح السخرية من "البيئة الشيعية"، لأن هذه السخرية ستجيّر بشكل أو بآخر بعيداً من دورها الكوميدي الاجتماعي، إلى توظيف سياسي في مشروع أبلسة "حزب الله"، وذلك ضمن حرب شبه كونيّة على المقاومة. لكن ما إن طاولت السخرية الإمارات، حتّى انهالت عصا الرقابة الغليظة على المجموعة، فولّت الأدبار!
طبعاً انتقاد البيئة التي يعرفها هؤلاء الفنّانون بحكم الانتماء شيء، وتقديم صورة كاريكاتوريّة سطحيّة ومضخّمة مشرّعة على كل أشكال الاستغلال السياسي المشبوه شيء آخر. ومع وصول دايخ ورَبعه إلى lbci، اشتعل الجدل حول اسكتش يسخر من "اللغة الشيعية"، وبلغ النقاش درجات عالية من التوتّر. المسرح "الإثنوغرافي" إذا جاز التعبير، يعتقل دائماً الفن في شرنقة ضيّقة. اللهجة والسلوك والموضوعات والشخصيات تبقى أسيرة دائرة نمطيّة، ومتكرّرة، وسطحيّة. أيام "مسرح الحكواتي" (وروجيه عساف) في السبعينيات والثمانينيات المباركة، كان الإبحار في "الذاكرة الجمعيّة" لأهل جبل عامل، هدفاً إبداعيّاً، وجماليّاً: بناء مسرح شعبي بديل له صدى وطني وسياسي في مواجهة الاحتلال. بين تجارب العقد الماضي في بيروت، تفاوتت درجة النضج الفنّي، والعمق والواقعيّة والهم الاجتماعي والسياسي، بين عمل "إثنوغرافي" وآخر. ولعلّ "الطريق الجديدة" (يحيى جابر/ زياد عيتاني) عمل ناجح وصل بهذا المنحى المسرحي، الشعبي والواقعي، إلى ذروته. لكن بعد ذلك انتشرت الأعمال التي تنمّط هذه البيئة الاجتماعيّة أو تلك، وغلب الفولكلور الشعبوي على التوجّهات السوسيولوجية والواقعيّة، وعلى العناصر الجماليّة والدراميّة المختلفة التي يقوم عليها العمل الفنّي!
بالعودة إلى تجربة دايخ الخصبة التي وصلت إلى الشاشة الكبيرة مع فيلم "هردبشت" (2023)، يقف هذا المبدع دائماً على حد السيف، بين نقل هواجس ولهجة ووعي وخصوصيّة وواقع بيئة معيّنة، وبين التنميط والمغامرة بتوظيفات سياسيّة مقلقة. بهذا المعنى يشكّل العمل الأخير انعتاقاً نسبيّاً. بعد "تعا قلّو بيزعل" على lbci، جاء السيتكوم الكوميدي الاجتماعي "مرحبا دولة" ليوسّع أكثر فأكثر شعبية قاووق ودايخ ورفاقيهما من خلال التلفزيون وامتدادته الرقميّة.
باتت هذه المجموعة اليوم تمتلك جمهوراً خاصاً له صفاته ومتطلّباته. هذا الجمهور هو الذي يتبعهم إلى المسرح ليسمع نقداً اجتماعيّاً وسياسياً. ما همّ إن كان آنيّاً أو سطحيّاً، المهم أن يفش خلقه، ويضحك على نكات محمد دايخ اللاذعة، واللغة الفجّة كما نسمعها في العالم السفلي، في الشارع. يعتمد الكاتب كثيراً على "جماليّة الفجاجة"، واللغة المباشرة الصادمة التي تبعث على الضحك والتفريغ، عبر الكوميديا الهزليّة. ومحمد دايخ يعرف جمهوره جيّداً، ويعرف كيف يدغدغ مشاعره، ويستثير ضحكه.
بعد الخروج من مسرحيّة "طلع إبليس بحب الله" (العرضان المقبلان 1 و2 تموز/يوليو 2024)، في تلك الصالة الواقعة على خطوط التماس السابقة للحرب الأهليّة في لبنان، بين الشياح وعين الرمّانة، بين "الشرقيّة" و"الغربيّة" بلغة تلك الأيام التعيسة الذكر، نجد أنفسنا أمام ثنائيّة الفن/شبّاك التذاكر. أمام السؤال الأبدي نفسه: ما هو الحد الفاصل بين الكوميديا الشعبية والفن الاستهلاكي؟
يعبر المؤلّف - المخرج بين الفخاخ، رفقة ممثله صاحب الموهبة التمثيليّة، والقوّة والحضور والليونة. حسين قاووق ممثل ممتاز، يمكن أن تكتب له نصوص دراميّة غنيّة وعميقة. في "طلع إبليس بحب الله" يقدّم محمد دايخ، بضربة قلمه المميّزة، تجربة مسرحيّة متكاملة، لم تُشفَ تماماً من عوارض مسرح "البولفار"، والقفشات السياسية التي تستهوي الجمهور. لكنّّها، بلا شك، خطوة مهمّة باتجاه فرجة شعبيّة ما زالت تنتظر في لبنان لحظة انبعاثها.