خطورة الاحتلال الأميركي في إعادة "بناء" الدول!
يتحدّث المؤلّف عن مكامِن الفشل الأميركي في إعادة بناء أفغانستان والعراق بعد احتلالهما مع أن الكلفة الماديّة والبشريّة لهذين الاحتلالين كانت باهظة جداً.
تُعدّ القضية المطروحة في هذا الكتاب من القضايا الحسّاسة، والتي تمسّ واقع ومصير الشعوب التي ابتُليت بالاحتلال أو بالتدخّل الأميركي منذ عقود، وبالخصوص شعوب منطقة غرب آسيا، والتي تَمّت تَسْميتها قَسْراً بالشرق الأوسط. يَطْرح المؤلّف في كتابه عدداً من الأسئلة الافتراضية لتكون مُنطلقاً لبحثه العلمي، ومنها: هل إنّ الاحتلال الأجنبي يُعدّ مُقدّمة صالحة لإعادة بناء الدولة الوطنية؟ لماذا نجحت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها في إعادة بناء الدولة في اليابان وألمانيا؟ ولماذا أخْفَقت في إعادة بناء الدولة في العراق وأفغانستان؟
يقول المؤلّف في المقدّمة إنّه في حالات مُعيّنة تسعى القوى الدولية للاضطلاع بدورٍ مؤثّرٍ في إعادة بناء الدول وفق رؤية تَنْسجم مع مصالحها الجيوسياسية، والاقتصادية، والأمنية، وبالطريقة التي تتواءم مع التطلّعات المستقبلية لتلك الدول. وتَتبايَن طُرُق إعادة البناء؛ فمنها ما هو مُباشر (التدخّل العسكري)، ومنها غير مُباشر عَبْر الدعم الاقتصادي والمالي. وفي كثيرٍ من الأحيان، فإن إعادة بناء الدول عن طريق تَدخّل القوى الدولية الكبرى لا يؤتي ثماره بالمعنى المنشود.
إلّا أنّ هذا لا ينْفي أنّ هناك تجارب ناجحة. فإعادة بناء ألمانيا واليابان أظهرت أن الديمقراطية قابلة للانتقال والتحوّل، وأنّ دور القوى الدولية (الدول الكبرى) ضرورة مُلِحّة في إعادة بناء الدول، ويمكن تشجيع المجتمعات في ظروف معيّنة على تحويل دولها إلى دول ناجحة؛ وعُدّت العمليّتان معياراً لبناء الدولة في مرحلة ما بعد الحرب.
على الجانب الآخر، حاولت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي إعادة بناء بعض الدول الضعيفة نسبياً لحسابات جيوسياسية. لكن تلك التجارب لم يُكتب لها النجاح، وكانت النتيجة تفكّكها (مثل تجربتي أميركا في أفغانستان والعراق).
في فصول الباب الأول (دور الاحتلال في إعادة بناء الدولة في ألمانيا واليابان ـــــ نهايات ناجحة)، يَتطرّق المؤلّف إلى التحدّيات المختلفة التي واجهت الولايات المتحدة، والمُعزّزات التي أدّت إلى نجاحها في إعادة بناء هاتين الدولتين.
حول دور الاحتلال (الأميركي) في إعادة بناء الدولة في اليابان، يقول المؤلّف إن تأثير الحرب العالمية الثانية على اليابان كان كارثياً. فقد هدّدت تكاليف الحرب بحدوث دمار اقتصادي في اليابان، إذ كان التضخّم الاقتصادي، والبطالة، والنقص في جميع المجالات مُتفاقماً بعد الحرب العالمية الثانية. فلم يَتحقّق التحسّن الاقتصادي في اليابان نتيجة جهود اليابان بمُفردها؛ وقد أدّت الإدارة الأميركية، تحت إشراف القائد الأعلى لقوّات التحالف (SCAP)، دوراً محورياً في تَعافي الاقتصاد الياباني في بدايته، على الرغم من أن الإجراءات التي اتّخذتها الحكومة اليابانية كانت تدعم النموّ السريع بعد الحرب.
فقد كان المسؤولون في القيادة العليا لقوّات التحالف يَرون أن التنمية الاقتصادية لن تُحقّق الديمقراطية في اليابان فقط، ولكنها ستَحول أيضاً دون عودة ظهور السياسة العسكرية، وستُعيق التمدّد والنفوذ الشيوعي هناك. كما أضافت العمليات العسكرية العدائية في شبه جزيرة كوريا المزيد من الدعم للاقتصاد الياباني.
ويَلْفت المؤلّف إلى أنّ احتلال اليابان كان قد سبقه نقاش نظري مهم، شارك فيه عدد من المتخصّصين لوضع بدائل مُحدّدة للتعامل مع مؤسسات النظام السياسي الياباني، والأنظمة الاقتصادية، والاجتماعية، والتعليمية والثقافية. كما تَميّزت تلك المرحلة ببناء الكوادر المدنيّة والعسكريّة اللازمة لإدارة الاحتلال، عن طريق تنظيم عدد من المناهج التعليمية المُتخصّصة في عدد من الجامعات المهمّة. والكثير من هؤلاء هم الذين تَولّوا المناصب الإدارية الرئيسة داخل الهيكل الإداري لسلطة الاحتلال.
وعلى الرغم من أنّ الدور الأميركي في إعادة بناء الدولة في اليابان كان واضحاً وملموساً إلى حدٍ كبير، إلّا أنّه كانت هناك مُعزّزات لهذا الدور، ترتبط بالبيئتين الداخلية (فداحة الخسائر البشرية والمادية اليابانية) والخارجية (التحوّل في هيكل النظام الدولي بعد الحرب)، واللتين كانتا موائمتين وأهداف المشروع الأميركي في اليابان.
على النّسق عينه، يَسْتعرض المؤلّف دور الاحتلال (الأميركي) في إعادة بناء الدولة في ألمانيا بعد الحرب، لناحية التحدّيات في الجوانب الأمنية والإنسانية ووضْع الإدارة المدنيّة، وتَقبّل ألمانيا للديمقراطية؛ كما لناحية دور الولايات المتحدة في إعادة بناء الدولة الألمانية، على المستوى الأمني (حكومات عسكرية)، وفي المجال المدني، وفي المجال الاقتصادي، وصولاً إلى عملية البناء الديمقراطي، وإعادة الإعمار (خطّة مارشال).
في الباب الثاني، وهو الأهم (دور الاحتلال في إعادة بناء الدولة في أفغانستان والعراق ـــــ نهايات فاشلة)، وضمن فصول عديدة، يتحدّث المؤلّف عن مَكامِن الفشل الأميركي في إعادة بناء هاتين الدولتين بعد احتلالهما، مع أن الكلفة الماديّة والبشريّة لهذين الاحتلالين كانت باهظة جداً.
فحرب أفغانستان كَلّفت الخزانة الأميركية تريليونات الدولارات وأدّت إلى مقتل أكثر من 2400 فرد من أفراد القوّات الأميركية، وما لا يقلّ عن 100 ألف مدني أفغاني. وأظْهرَت الحرب أن هناك حدوداً لقوّة النيران، حيث لا يُمكن للقوّة أن تَحْسم الصراع.
لقد انْطلق مشروع إعادة بناء الدولة في أفغانستان مع عقْد مؤتمر بون في كانون الأول/ديسمبر 2001. وتُقدّم الحالة الأفغانية، مُقارنة بالحالة اليابانية، أنموذجاً مختلفاً في تطبيق الاحتلال مشروع إعادة بناء الدولة في سياقات ثقافية وإقليمية ودولية تَختلف جَوهرياً عن تلك التي ارتبطت بحالات إعادة بناء الدولة عقْب الحرب العالمية الثانية، على نَحْوٍ يسمح باختبار قُدرة الاحتلال على تطبيق مثل تلك المشروعات في ظل شروط محلية وإقليمية ودولية مختلفة.
فقد جرى تطبيق مشروع إعادة بناء الدولة في أفغانستان في واقع محلّي شديد التعقيد مُقارنةً بالحالة اليابانية، غَلَبَت عليه التعدديّة العِرقيّة الشديدة، وسيطرة طابع التصارع على تاريخ العلاقات بين المجموعات العِرقيّة الرئيسة، وضعْف مؤسّسات الدولة وانهيارها في بعض المراحل، وضعْف سلطة الحكومة المركزية في مواجهة الفاعلين المحليّين، وانتهاءً بضعْف الاقتصاد الأفغاني وسيطرة اقتصاد المُخَدّرات، وسيادة حالة من الاعتمادية الاقتصادية على الخارج.
بالانتقال إلى الحالة العراقية، وهي الأهم بالنسبة للمؤلّف العراقي الجنسية، والذي قاوم الاحتلال الأميركي لبلده، فإنه على الرغم من بعض أوْجه التشابه بين الحالة العراقية والحالة الأفغانية، ولا سيّما حالة التعدديّة العِرقيّة والمذهبيّة، وانتشار الثقافة الإسلاميّة، الأمْر الذي وَفّر فرصة لاختبار قدرة قوى الاحتلال على إنتاج تجارب إعادة بناء الدولة في بيئات محليّة مختلفة مُقارنة بتلك التي حَدَثت في حالتي اليابان وألمانيا، إلّا أن حالة العراق تُقدّم فرصة لإثراء التجارب التطبيقية في هذا الحقل بسبب عناصر التمايز المهمّة لهذه الحالة:
-العنصر الأول: تَمثّل بوجود "دولة"، بصَرْف النظر عن طبيعة النظام السياسي القائم قبل الاحتلال.
-العنصر الثاني: ويَتعلّق بمُبرّرات الاحتلال الأميركي للعراق، التي تَختلف عن تلك التي استند إليها احتلال الولايات المتحدة لليابان ولألمانيا، ممّا أدّى إلى طَرْح مُبرّرات مُختلفة سُرعان ما ثَبت عدم صدْقها، وأضْعف الأساس القانوني والأخلاقي للمشروع الأميركي ـــــ البريطاني في العراق.
-العنصر الثالث: الموقع الجيوسياسي للعراق في قَلْب الشرق الأوسط، إضافة إلى أنه إحدى الدول الرئيسة في هذه المنطقة، ما يوفّر فرصة إضافية لاختبار مدى قابليّة الإقليم لهذا النوع من المشروعات أو السياسات الدولية.
عن دور الاحتلال في إعادة بناء الدولة العراقية، يقول المؤلّف إن حالة العراق خَلَقت لدى المجتمع الدولي المُتمثّل بمجلس الأمن انقساماً واضحاً بشأن مشروعية الغزو الأميركي للعراق عام 2003. فقد فشلت الولايات المتحدة في استصدار قرار بما يُتيح لها تغيير النظام السياسي في العراق آنذاك عن طريق استخدام القوّة العسكرية الدولية تحت غطاء أُمَمي؛ إلّا أنها لم تَمْتثل لتلك الشرعية الدولية، فَذَهبت نحو تشكيل تحالف عسكري دولي حمل عنوان (تحالف الراغبين)، مُتخطّية بذلك الشرعية الدولية، ممّا خَلَقَ موقفاً مُغايراً لموقف المجتمع الدولي..
ومع فرْض سياسة الأمر الواقع للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، اتّخذ المجتمع الدولي قرارات عديدة حَمّل فيها الولايات المتحدة مسؤولية الحفاظ على سيادة العراق ووحدته واستقلاله، فضْلاً عن حمايته، وإعادة بناء الدولة فيه على أُسس الحُريّة والمساواة.
أيضاً، اتّسمت سياسات الاحتلال في العراق بأوجه قصور لا تقلّ أهمية عن مشكلات البيئة الداخلية للدولة المحتلّة، بدءاً من قصور عملية التخطيط المسبق للحرب، ومرحلة ما بعد الحرب إلى حدّ دخول الحرب من دون وجود تصوّر واضح لتلك المرحلة؛ أو أنّ هناك مشروعاً لإعادة البناء، إلّا أنه يكون ضمن سياسة المراحل؛ إضافة إلى اعتماد الاحتلال على قوّة عسكرية محدودة، سواء في مرحلة الحرب، أو مرحلة إعادة بناء الدولة، واعتماد الطائفة والعِرق (شيعة، سنّة، كرد) كأساسٍ لبناء نظام ما بعد الحرب.
أضِف إلى ذلك القصور الذي انتاب عملية المُراجعة الدستورية، وعدم حَسْمها للكثير من الإشكاليات التي أثارتها مرحلة ما بعد إسقاط النظام، ولا سيّما مشكلات المواطنة والهويّة والفيدراليّة.
وفي السياق، كان يمكن الحديث عن وجود مشروع إعادة بناء دولة في مرحلة الاحتلال، لكنه انْطوى على أوجه قصور عديدة، من أبرزها عدم وجود نقطة نهاية مُحدّدة وواضحة للحرب وللعمليات العسكرية في العراق؛ وافتراض أنّ الحرب ثمّ المشروع الأميركي السياسي سوف يَلْقيان قبولاً واسعاً بين العراقيين، ممّا يعني غياب المعارضة السياسية والمُسلّحة لهذا المشروع.
كذلك، كان هناك انقسام كبير داخل الإدارة الأميركية بشأن أهمية التدخّل العسكري في العراق وجدواه، واستراتيجية الاعتماد الأميركية على مُعارضة الخارج، ومحدودية القوّة العسكرية، واعتماد المحتل على الطائفة والعِرق في تشكيل النظام السياسي الجديد، مع إضافة ما يُسمّى بالتوافقية إلى جانب المُحاصصة، ومَفادها أن كلّ ما يُقرّ انتخابياً لا يُعمل به سياسياً؛ إنّما كلّ قرار يجب أن تُعاد صياغته على وفق منطق قبول وجود المُحاصصة؛ ومن ثمّ أن تكون القرارات والتشريعات وسطياً تُراعي مصالح الموجود في قمّة الحكم في عراق ما بعد العام 2003.
كذلك كان لتراجع الدعم الداخلي الأميركي لمشروع إعادة بناء الدولة العراقية تأثير مهم في مسار هذا المشروع، خصوصاً بعد ارتفاع التكاليف البشرية والاقتصادية للحرب؛ بموازاة الانقسامات داخل العراق نفسه، والتي تزايدت توسّعت بتأثير الاحتلال، وسياسات الدول الإقليمية الفاعلة، والتي تفاوت تأثيرها على المشروع الأميركي المذكور.
بعد ذلك، يُقدّم المؤلّف ما سَمّاه رؤية مستقبلية لمشروع إعادة بناء الدولة في العراق، في ظل عدّة سيناريوهات (مشاهد)، من أبرزها: مشهد استمرار الوضع الراهن، والذي تؤثّر فيه المتغيّرات الداخلية ومُرتكزات المصلحة الأميركية في بقاء الوضع الواهن للدولة العراقية، ومُرتكزات المصالح الإقليمية التي تصبّ في الاتجاه نفسه. وهناك مشهد التوجّه نحو إعادة بناء الدولة على وفق الرؤية الأميركية، والتي تَتَضمّن تحويل العراق مركز انطلاق نحو المنطقة، وحفظ أمن "إسرائيل"، وتأمين مصادر الطاقة، مع السعي لإيجاد بيئة ملائمة تنسجم مع المصالح الأميركية.
أخيراً، يَسْتنتج المؤلّف أن المحتلّ الأميركي قد فشل تماماً في مشروع إعادة بناء الدولة في العراق، كما في أفغانستان، على عَكْس حالتي اليابان وألمانيا؛ وهذا ما أثبتته بجَدارة دراسة المؤلّف الموضوعية.