خزان ثقافي.. هل يحيا السوق المقبي من جديد؟
يعود تاريخ بنائه إلى العام 1865. دمّره المسلحون ونهبوا جزءاً من حجارته ومعالمه الأثرية. هل يعود السوق المقبي في دير الزور إلى الحياة؟
يعاين محمد الصفيف (56 عاماً) ما وصلت إليه أعمال الترميم في محلّه الصغير ضمن السوق المقبي بمدينة دير الزور شمال شرق سوريا، بعد أن بدأت الورشات الحكومية عمليات إزالة الأنقاض من السوق الأثري الذي تعرّض لأضرار كبيرة أثناء سيطرة الفصائل المسلحة على أجزاء من المدينة قبل سنوات.
انطلاق عمليات الترميم أعاد الأمل للمئات من أصحاب المحال التجارية والمهن التقليدية بالعودة إلى العمل داخل السوق، الذي يعدّ شريان الحياة لمدينة دير الزور. لذلك فإن الصفيف يواظب على تفقّد محله يومياً منذ أسابيع، وكلّه أمل أن يعود لمزاولة مهنته داخل محلّه قريباً.
ويقول لـ "الميادين الثقافية" إن: "محل السمن العربي الذي أملكه ورثته عن والدي، وهو ورثه عن جدي، لذلك فإن المحل ليس مجرّد جدران ترمّم أو حجارة يُعاد بناؤها، بل الأمر أكبر من ذلك بكثير، فهذا السوق يختزل ذكريات وتفاصيل عمرها مئات السنين، كما تخبّئ أزقته قصص أبناء المدينة بحزنها وفرحها وآلامها وضحكاتها".
يقع السوق المقبي في قلب مدينة دير الزور القائمة على الضفة الجنوبية لنهر الفرات، ولطالما تميّز قبل الحرب بجذبه لجميع سكان المدينة والريف على حدٍ سواء، لأنه يضمّ متطلّبات الأهالي كافة وبأسعار مناسبة جداً، إضافة إلى كونه مقصداً سياحياً مهماً للقادمين من خارج دير الزور.
بعد سيطرة الفصائل المسلحة على ريف دير الزور وأجزاء من المدينة عام 2013، عمدت إلى استهداف السوق المقبي وتدمير عشرات المحال التجارية بداخله، إضافة إلى إلحاق الضرر ببنية السوق الأساسية، ما أدى إلى توقّف الحياة فيه بشكل كامل، قبل أن تعلن الجهات الحكومية مؤخّراً عن خطة متكاملة لإعادة ترميم السوق وتأهيله تمهيداً لإعادة افتتاحه مجدّداً.
وبرغم حجم الدمار الكبير الذي طال السوق، إلا أن ذاكرة أبناء المدينة تأبى أن تطرد التفاصيل التي يختزنونها عنه، فرائحة التوابل والسمن العربي والسمسم، وأصوات محال الحدادة والنجارة والصوف، لا تزال حاضرة في أذهان أهل الدير إلى اليوم.
رئيس غرفة تجارة وصناعة دير الزور، لؤي محيمد، أوضح في حديث مع "الميادين الثقافية" أن المرحلة الأولى من عمليات إعادة الترميم بدأت بسبر وتقييم حجم الأضرار في السوق الذي يضم 952 محلاً تجارياً متوزّعة ضمن 7 أسواق و3 خانات، إضافة إلى تنظيف السوق من الأنقاض والأتربة، وعزلها عن الأحجار المهدّمة التي تمّ تجميعها للاستفادة منها في عمليات الترميم، على أن تشهد المرحلة الثانية البدء الفعلي بعمليات الترميم بالتعاون بين الجهات الحكومية والمنظّمات التراثية وأصحاب المحال والفعّاليات التجارية.
مركز التجارة الأول داخل المدينة منذ مئات السنين
يتوسّط السوق المقبي مدينة دير الزور، ويعود تاريخ بنائه إلى الفترة العثمانية في العام 1865، حينما كان خليل بك ثاقب الأورفلي قائمقام دير الزور، والذي استقدم مهندسين ومعماريين من مدينة أورفا التركية لوضع المخططات وتشييد السوق بأقسامه المختلفة، إلى جانب الخانات والسرايا القديمة والبوابة العثمانية التي تحيط بالسوق.
وينقسم السوق إلى 7 أقسام رئيسية، هي:
سوق العطّارين: يقع في الجهة الشرقية من السوق، ويطلّ بواجهته الجنوبية على الشارع العام، وينتهي شمالاً بسوق الحبوب؛ ويختصّ بتجارة المواد الغذائية والتوابل والأعشاب الطبية وغيرها من مواد العطارة.
سوق التجار: يمتد على المحور "الشمالي - الجنوبي" من السوق الرئيسي، وينتهي عند البوابة العثمانية، يتصل غرباً بسوق الحبال، كما يتصل في الجهة الشمالية الغربية بمحال القصّابين؛ ويختصّ بتجارة السجاد وبسط القماش والألبسة الريفية.
سوق الحدادين: يقع في الجهة الغربية بمقابل الساحة العامة ويحدّه جنوباً سوق الحبال وشمالاً سوق القصّابين. أما غرباً فيحدّه شارع الجسر؛ ويختصّ بصناعة أدوات الحصاد كالمناجل والفؤوس، وما يميّز هذا السوق أن معظم شاغليه هم أبناء عمومة من "آل العليوي".
سوق الخشّابين: متصل بسوق الحدّادين؛ يختص بتصنيع المعدات الخشبية البسيطة اللازمة لأعمال الزراعة والأثاث المنزلي والصناديق الخشبية المزركشة وكراسي الجلوس الخشبية والغرابيل وغيرها.
سوق الحبوب أو سوق "العَرَصَة": يختصّ بتجارة حبوب القمح، وتجارة البذور مثل بذور الجَبَس والسمسم والذرة الصفراء والفول والفستق السوداني والبقوليات بشكل عام.
سوق الحبال: يقع في الجهة الغربية من الأسواق المذكورة، ويبدأ من شارع الجسر وينتهي بسوق الحدّادين في الجهة الشمالية، ويختصّ ببيع مستلزمات الإقامة في البادية للبدو وأهل الريف، مثل بيت الشعر والحبال سواء القطنية أو البلاستيكية، والشوادر والأوتاد والبسط والمرس والزرد والأجراس التي تعلّق حول رقاب الماشية.
سوق خلّوف: يقع في الجزء الجنوبي الغربي من الأسواق، يطلّ بواجهته الجنوبية على الشارع العام، وينتهي شمالاً بسوق الحدّادين، ويختصّ بتجارة الأقمشة والصوف والقطن والسمن العربي.
إلى جانب الأسواق الـ 7 توجد الخانات التي تعتبر نواة للمنطقة القديمة، وكانت الخانات عبارة عن مراكز تجارية تجري فيها عمليات الشراء، إضافة إلى دورها الثقافي من خلال المحافظة على تاريخ المدينة وآثارها القديمة، حيث يعود تاريخ بنائها إلى الفترة الممتدة ما بين عامي 1860- 1887، وهي 3 خانات:
خان الترك: يقع ضمن السوق المقبي، وله مدخلان من الجهة الغربية يتمّ الدخول إليه عبر سوق العطّارين، ومن الجهة الشمالية من سوق الحبوب، وكان مركزاً لبيع السمن والصوف والجِمال، إضافة إلى أنه مركز لنقل سكان الريف إلى المدينة وبالعكس.
خان براجيك: يقع إلى جانب السوق المقبي وهو مؤلف من طابقين، الأرضي كان يستخدم مخزناً للأغذية، والعلوي عبارة عن فندق.
خان الخشب: يقع إلى جانب خان براجيك وكان مخصصاً لبيع وتخزين الأخشاب التي تستخدم لصناعة الأثاث المنزلي والسقوف.
وعلى غرار الأسواق، تعرّضت الخانات للنهب والتخريب خلال سيطرة الفصائل المسلحة على أحياء وسط مدينة دير الزور، حيث عمدت تلك الفصائل إلى سرقة الكثير من معالم الخانات والأبنية الأثرية المحيطة بها، مثل البوابة العثمانية ومبنى السرايا الذي تمّ تفكيك أحجاره ونقلها إلى خارج سوريا عن طريق تركيا.
رئيس مجلس مدينة دير الزور، جرير كاكاخان، تحدّث لـ "الميادين الثقافية" عن تاريخ السوق المقبي والعلاقة التي تربطه بأهالي المدينة، حيث أشار إلى أن السوق يعدّ جزءاً من ذاكرة الأهالي الثقافية والتراثية كونه من المواقع الأثرية المسجّلة في دير الزور، إضافة إلى قيمته الاقتصادية الكبيرة، فهو مركز التجارة الأول داخل المدينة منذ مئات السنين.
وعن بناء السوق والمحال الموجودة بداخله، أشار كاكاخان إلى أن الأسواق مبنية من الحجارة الكلسية والطين، ولها سقف مقوّس عبارة عن قبو سريري مستمر ذي عقد مدبّبة، كما أنه مزوّد بفتحات إنارة وتهوئة، ما يجعله بارداً صيفاً ودافئاً شتاءً.
وتحتوي معظم محال السوق على أقواس حجرية تمتاز بطابع عمراني هندسي غاية في الدقة والتكامل والتنظيم، تمّ تخطيطها بشكل "شطرنجي"، كما توجد فيها مداخل ومخارج منظّمة بصورة بديعة.
وفي هذا السياق يشير كاكاخان إلى أن بعض ملامح السوق العمرانية تغيّرت نسبيّاً وأدخلت عليها بعض التعديلات قبل الحرب، لكن السوق بقي محافظاً على نمط وشكل البناء الأساسي.
وأكد رئيس مجلس مدينة دير الزور، أن المجلس بالتعاون مع المنظمات الدولية وغرفة تجارة وصناعة دير الزور، باشر خلال الأشهر الماضية العمل على إعادة الحياة إلى السوق المقبي، ضمن خطة إعادة إعمار مدينة دير الزور، والتي تركّز بشكل كبير على إحياء المراكز التجارية والأسواق، حيث تمّ البدء بترميم وتأهيل سوق "الهال" وسوق "شارع سينما فؤاد" وسوق "الجبيلة" وشارع "ستة إلا ربع"، إضافة إلى تأهيل المنطقة المحيطة بالسوق المقبي.
لطالما شكّل السوق المقبي ملتقى حضارياً وثقافياً يجمع أبناء الريف والمدينة في دير الزور، إضافة إلى كونه مركزاً اقتصادياً في قلب الجزيرة السورية، لذلك فإن إعادة تأهيله تعتبر ضرورة ملحّة في سبيل الحفاظ على المعالم الأثرية والتاريخية التي تشكّل خزاناً ثقافياً وتراثياً وفكرياً لأبناء المنطقة.