حين يُطلَب من الضحية التعقّل.. كيف سقط العقل الغربي في تناقضاته؟
عرّت الإبادة الجماعية المتواصلة في غزة تناقض العقل الغربي ومنطقه في التفكير. نظريات فلاسفة الغرب تسقط أمام الدمار والأشلاء، وآخرهم إدغار موران وميشال أونفري.
أثارت عملية "طوفان الأقصى" ردود فعل أسماء أكاديمية غربية متوترة وعنيفة في أغلبها. وكان الفلاسفة الذين أعلنوا انحيازهم لــ "إسرائيل" منسجمين مع السردية التقليدية التي تطالب بأن يكون الضحية أكثر تعقّلاً في التعامل مع المحتل، وأن يرضخ لسطوته أمام تجاهل دولي شبه تام لما تقترفه دولة غاشمة من انتهاكات وحشية في حق شعب محاصر وأعزل.
**
موران.. "التعقّل"و"الحكمة" أمام الإبادة الإسرائيلية!
إدغار موران، عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي الذي كان مناهضاً للفاشية خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ثم مقاوماً للاحتلال النازي لفرنسا، ثم الناشط الشيوعي في شبابه، ثم المتوجّه نحو الاشتراكية، والذي عرف بدعوته للسلام والدفاع عن الأقليات وتشكيله وترأسه للجان كثيرة تدعم التفكير المشترك والحر والمسؤول وتبحث في ضرورة إيجاد مناخ فكري تتعاضد فيه الإنسانيات لإيجاد حلول لمشاكل الحاضر والمستقبل.
هذا الفيلسوف نفسه لم يشذ اليوم عن سرب "الفلاسفة المؤمنين بأن الكيان الصهيوني دولة ذات سيادة ولا يمكن الاعتداء على مواطنيها تحت أي ذريعة"، وهو في هذا يتمترس وراء ضرورة المقترحات السلمية التي يجب أن يدعمها الجميع، بما في ذلك من يعيشون محاصرين في قطعة أرض تفرض عليها "إسرائيل" قيوداً حياتية لا تترك مجالاً للعيش بكرامة.
وحجة صاحب "المنهج" في ذلك أن "الكراهية ليست حديثة ولكنها الآن منتشرة بين الجميع"، معتبراً أن معاناة اليهود في الماضي ولّدت معاناة الشعب الفلسطيني. وكما سائر الفلاسفة، له يقين أن "إسرائيل" وفلسطين دولتان موجودتان على أرض الواقع، ولا ضرورة للحديث عن تنزيل ما قامت به حركة حماس كردة فعل ضد غطرسة الاحتلال التي تفاقمت وتيرتها.
أما السؤال الذي أغفله عالم الاجتماع: هل لمقاومة الاحتلال أو الاستعمار في العالم توقيت ورزنامة كرونولوجية خاضعة لموافقة الكيان المحتل؟ وهل أن سائر البلدان التي حاربت الاستعمار كانت لها المنطلقات الأيديولوجية نفسها مع أنها تشترك في النفس الثوري ذاته؟
أعطى موران رأيه في ما أسماه "هجوم" حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وسرد وقائع تاريخية قديمة متعلقة بالاستيطان والنكبة والأسطورة الصهيونية، والوضع المتأزم في فلسطين والعقلية الإسرائيلية التوسّعية. كما أعطى حججاً عاطفية لإضفاء عقلانية نسبية لتبرير ما تقوم به "إسرائيل" من فظاعات، وذلك في مقال نشر في صحيفة "الباييس" الإسبانية بعنوان "الأهوال والأخطاء في أرض الأساطير".
وكان المقال قد نشر أيضاً في صحيفة "ماريان" الفرنسية، وبدأه بقوله إن: "المذابح الوحشية التي ارتكبتها حماس ضد اليهود في 7 تشرين الأول/أكتوبر تثير في نفسي رعباً عميقاً. ولا شيء يبرر هذه الهجمات المتعصبة، ناهيك عن قضية الشعب الفلسطيني، الذي تحجب هذه الأعمال الهمجية قضيته العادلة".
هكذا يعادل موران بين ما تقوم به "حماس" وما تقوم به قوات الاحتلال قائلاً: "لقد أخفى إرهاب حماس ويخفي بالنسبة للكثيرين إرهاب الدولة التي انتقمت من مليوني شخص من سكان غزة من دون أي رحمة تجاه هؤلاء المتعصبين القساة، مما تسبّب في مقتل 3 آلاف شخص" (حتى تاريخ كتابته المقال).
وأضاف شارحاً ما يحدث: "إن الكراهية ليست جديدة، ولكن الآن تم إطلاق العنان لها، وهو ما يؤدي بدوره إلى أبشع أنواع الوحشية والمجازر حتى في حق النساء والأطفال والشيوخ. إن فهم فظائع 7 أكتوبر في سياقها، وهو أمر ضروري لكل الاستخبارات، يضعها أولاً وقبل كل شيء في التاريخ الطويل للشعب الإسرائيلي. ضحايا الألفية لمعاداة اليهودية المسيحية. ثم المعاداة العنصرية للسامية التي حكمت عليهم بالإبادة. لقد كان الوطن الإسرائيلي مهدّداً منذ فترة طويلة من قبل الدول المعادية. لم تكن إسرائيل واحة، بل قلعة في حالة حرب. لقد خلقت هذه القصة المأساوية مأساة الشعب الفلسطيني الذي تم طرده جزئياً من أراضيه منذ حرب الاستقلال الإسرائيلية عام 1948 إلى مخيمات في لبنان والأردن والضفة الغربية ولا يزال واقفاً هناك".
وأردف قائلاً: "بعد حرب الأيام الستة في عام 1967 احتلت إسرائيل الضفة الغربية بأكملها، والتي تسميها يهودا والسامرة واستعمرتها. ليس فقط من قبل دولة، ولكن أيضاً بواسطة آلاف المستوطنين الإسرائيليين الذين يبلغ عددهم الآن 800 ألف. وكانت نتيجة المحرقة، وهي كلمة تعني الكارثة، النكبة. الكلمة الفلسطينية التي تحمل المعنى ذاته والتي كانت في الواقع كارثة فلسطين العربية. وكما أنه من الضروري إبقاء ذكرى الملايين من ضحايا النازية حية، فإن هذه الذكرى المحترمة لا يمكن أن تبرّر الهيمنة التي تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني البريء من جرائم أوشفيتز. الامتياز الذي يبرّر أي قمع اسرائيلي".
ويرى صاحب "ثقافة أوروبا وبربريتها" أن "معاناة الشعب اليهودي الطويلة غذّت أسطورة وجود مواقع مقدّسة في فلسطين تخص اليهود، لأنّ الأسطورة حقيقة وهي أقوى من الواقع في مخياله الجمعي. فقد تغذّت من مكابداته الماضية على الرغم من أن أرض كنعان كانت مأهولة بالسكان العرب لعدة قرون، وقد صاروا مسلمين أو مسيحيين، فلسطين لم تكن يوماً أرضاً بلا شعب".
وفي ما يتعلق بالصراع حول القدس يتحدث إدغار موران عما يسميه "القناعة اليهودية التي ما انفكت تتكرّر لترسيخ فكرة أن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل، وفلسطين هي الوطن الأزلي للشعب اليهودي، وهي لا تقل أسطورية عن المسجد الأقصى. حيث من المفترض أن النبي محمد صعد إلى السماء للقاء الرب".
ويعلل موران انتهاكات الكيان المحتل بقوله: "في الواقع غيّرت إسرائيل الوضع اليهودي. إنّ الإذلال لليهود المقهورين والخائفين أعقبه الفخر بالمآثر العسكرية للشعب العبري. والإنجازات الزراعية التي حقّقها الكيبوتس".
وبينما يسرد موران الظروف التي أدت لما يسميه إجهاض "اللحظة الخاصة في ما يتعلق بإنشاء دولة فلسطين"، فإنه يقول "كان من الصعب أن نرى إمكانية قيام دولة فلسطينية تضم 800 ألف مستوطن يهودي يعادونها بشكل جذري، ومن الصعب أن نرى إسرائيل تسحب مستوطناتها".
ويذهب إلى البحث عن حلول سياسية جماعية غربية وعربية لمواجهة ما يسميه الأسوأ في ظرف تسود الحقائق الأحادية وتطغى الحقائق المتعارضة، ويضيف أنه في مجابهة ما يسميه الجنون، "على الجميع أن يتحلى بالتعقّل في مناخ تفيض فيه الكراهية والعنف والمخاوف"، وأنه "يجب عدم نسيان أن هناك قضية عادلة".
في حوار مسجّل في "ايتوبيا" مؤخّراً يقول موران إنه يقف إلى جانب المعذّبين في غزة الآن، من دون أن ينسى أن وظيفة المثقف الحالية هي "المقاومة بالفكر"، وهي الوسيلة نفسها التي أدت بحسب رأيه إلى مقاومة النازية، وكانت تتسم بأنها ضئيلة العدد. لكن هذا لم يمنع نجاعتها مع مرور الوقت، مع إصراره على أنه يجب ألّا نمنع أنفسنا من التفكير في أنّ "جرائم حماس تخفي جرائم إسرائيل".
ويرى أن حلّ القضية الفلسطينية يتطلّب سنوات مقبلة، علماً أن "هذه الهيستيريات القائمة ضرورية ليبقى العقل حياً"، رغم إقراره بأن المستقبل ليس مكتوباً مسبقاً.
ميشال أونفري.. أو الفيلسوف وتناقضاته
يعرّف ميشال أونفري نفسه بأنه فيلسوف يدافع عن "إسرائيل"، الدولة "التنويرية"، وهي "رمز الفكر الغربي المشعّ في محيط تلفّه العدوانية والإرهاب". ولا يتورّع عن استحضار الصورة الفردوسية التي بقيت عالقة في ذاكرته من زيارته إلى فلسطين المحتلة والقدس، المكان والرمز الروحاني.
ويترك أونفري لآرائه التي يصفها بالحرة، العنان ليعطي مواقفه حول المقاومة ومظاهر التأييد التي تحظى بها القضية الفلسطينية ومقاتلو حماس في صف الجاليات العربية المهاجرة في فرنسا، خصوصاً القادمة من شمال أفريقيا، بحسب قوله.
ففي حوار في قناة "موزاييك" الفرنسية الخاصة الموجودة على "يوتيوب" مع الصحافي أنطوان مرسييه، وتحت عنوان "إسرائيل تجازف بوجودها"، أكد صاحب كتاب "الانحطاط" أن الكيان الصهيوني "دولة متحضّرة"، وأن "إسرائيل تمثّل حضارة"، وذلك في مقابل المسلمين الذين يمثّلون مئات الملايين، فإن هذه "الدولة الصغيرة والوحيدة تكابد في محيط يحقد عليها. بينما تساند "حماس" دول لها قوة نووية ومالية ضخمة، وكانت هذه الحركة الإسلامية تستحوذ على المال الآتي على شكل مساعدات لغزة والقطاع من الاتحاد الأوروبي لتهيئة مشاريعها الإرهابية".
ويضيف: "والحال هذه، يجب أن تحاط إسرائيل بعناية أكبر خصوصاً من طرف ألمانيا".
كما يرى أنّ "حماس" استخدمت المدنيين العزل كدروع بشرية لحماية نفسها، وهي بهذا "ترتكب خطأ"، إضافة إلى "هجومها الإرهابي الذي شنته فجأة على مواطنين لا ذنب لهم في تشرين الأول/أكتوبر الماضي".
وفي مقابل حرب تخوضها "إسرائيل" بتقنيات متطورة، حسبما يرى أونفري، فإن "حماس" تستخدم حرب العصابات، وهذا ما يجعل الأمر غير يسير على "جيش" الاحتلال، زيادة على استخدامها للأنفاق تحت الأرض.
لا يجد هذا الفيلسوف حرجاً في التذكير بالحروب الصليبية، رغم تنصّله من الإسلاموفوبيا، وأن حماس لا تمثّل الشعب الفلسطيني. ويرى أن هذا "الصراع" سيحلّ بوجود "قادة عظماء في فرنسا والغرب، ويجب قبل ذلك أن تكون هناك روح سيادية قائمة" في بلده لمجابهة "طوفان الإرهاب والإسلام المتطرّف".كما ينعت أونفري نفسه باليهودي المسيحي والصهيوني المسيحي غير المعادي للإسلام، وهو يرى أن غزة ترزح تحت السيطرة الكاملة لــ "حماس".
في مقال له بعنوان "حرب الحضارات - هيهات"، فإن الكاتب الذي اعتبر في خضمّ جائحة "كورونا"، أن أوروبا أصبحت "عالماً ثالثاً جديداً"، يتبنّى موقف المدافع عن الغرب وعن الكيان الصهيوني في مواجهة "الإسلاموية".
وفي المقال نفسه يوجّه سهام نقده لفرنسا والبلدان الأوروبية التي ترفرف فيها أعلام فلسطين من طرف من أطلق عليهم نعت "العالم الكريولي للعرب المسلمين"، متحدثاً عن صدام الحضارات وعن أحقية الأقدم دينياً في امتلاك الأراضي الفلسطينية. إذ يقول "الشيخ الذي يزيد عمره عن 3 آلاف سنة، أو يسوع المسيح الذي يبلغ من العمر ألفي عام، أو محمد الأصغر الذي يبلغ من العمر 1300 عام، وهو تسلسل زمني يجب أن يحسم بشكل نهائي مشكلة الأسبقية. لا يمكن للمسلمين أن يحتلوا أرضاً قبل وجود دينهم بـألفي عام".
ويصف أونفري "إسرائيل" بأنها "رمز المقاومة الغربية أمام موجة أسلمة العالم التي شهدتها العقود الماضية"، مذكّراً بأنّ المسلمين أكثر من مليار نسمة، فيما عدد اليهود 15 مليوناً فقط، 7 ملايين منهم في "إسرائيل".