حازم شاهين أنشد فلسطين في بيروت..هذا العود ليس كغيره
الهاجس الاجتماعي والهاجس القومي متلازمان عند الفنان المصري حازم شاهين، الذي يجمع بين التراث الأصيل والنضال التقدّمي التحرّري، في سياق واحد.
كل المواعيد مع حازم شاهين لا تفوّت، منفرداً، أو مع فرقته العريقة، أو إلى جانب زياد الرحباني. هذه المرّة جاء إلى بيروت وحيداً، متأبّطاً عوده، فاستقبلته بالأحضان تلك المدينة التي تعرفه وتحبّه، المدينة التي لا مانع لديها من أن تقاتل وتقاوم وتضحّي بيد، وتحيّي الفن الأصيل باليد الأخرى.
منذ سنوات نسج شاهين مع بيروت علاقة خاصة، وطبع فيها أسطواناته (عند «فورورد ميوزيك»): «العيش والملح» (2006، مع فرقة مسار)، «حاجات واحشاني» (2009، مع هاني بدير/ إيقاع، مايبز جاي/ كونترباص، نوار عباسي/ بيانو)، «صفحة جديدة» (2014، مع فرقة «إسكندريلا»). وشاركها أفراحها وأتراحها… والعيد التسعين للحزب الشيوعي اللبناني.
صفّقنا له في العام 2015 في "المركز الثقافي الروسي" رفقة "إسكندريلا" العريقة التي أسسها العام 2005 مع مجموعة من الموسيقيين والشعراء والمؤدين والمؤديات، لتحمل تركة عبقري العامية المصرية فؤاد حداد وورثته وتحديداً ابنه الشاعر أمين حداد وأحمد حداد (تولّى حازم تلحين القصائد)، ولتحيي تراث الشيخ إمام وسيد درويش، وقصائد أحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين وآخرين… كما تميّزت الفرقة بأغنياتها التي واكبت "ثورة 25 يناير"، يوم كان جيل كامل في مصر يحلم بالديمقراطية والتغيير.
صفّق له الجمهور اللبناني أيضاً في "مهرجانات بيت الدين" قبل 6 سنوات، حين جلس إلى جانب زياد الرحباني، وشارك في إحياء تلك الأمسية التاريخية. وأطلق يومذاك مع زياد أغنيته الفريدة التي لا تشبه سواها، أغنية "معادية للإمبريالية" (!) بالعامية المصرية: "أمريكا مين… شياطينهم/، وعرب الثانيين… ثعابينهم".
كانت "إسكندريلا" قد أدخلت إلى ريبرتوارها قبل أكثر من عقد أغنيات لزياد الرحباني مثل "أنا مش كافر" وغيرها، لكن علاقة الثنائي تعود إلى العام 2013، حين دعا زياد صديقه للمشاركة في حفلته في القاهرة، وترك حازم بصماته ونقرات عوده الخاصة على تلك الأمسية.
أما زيارته الجديدة إلى بيروت في (14 حزيران/يونيو 2024)، فتأتي في ظرف خاص وصعب تعيشه الأمة، ظرف خاص بآلامه المهولة، وآماله الكبيرة على طريق القدس. في عز الإبادة التي يتعرّض لها شعب فلسطين في غزة، جاء هذا الفنان من مصر، محمّلاً بالغضب المكتوم والإيمان بالحرية الآتية. طبعاً، هذا نلمسه في أدائه، وبرنامج الأمسية التي استضافها "مترو المدينة". ذلك أن حازم شاهين، أستاذ العود في "دار الأوبرا المصرية"، قليل الكلام ويلفّ نفسه بوشاح من الخفر.
لقد تكلّم قليلاً مع الجمهور في "مترو المدينة" (حيث سبقته فنانة طليعية أخرى من مصر، هي مريم صالح التي أدّت أغنيات أحمد عدويّة). بين مقطوعة وأخرى، كان يكتفي بذكر المؤلف والمقام. ليس حازم شاهين محترف خطابات، يترك لمقطوعاته أن تعبّر عنه، يترك لأدائه وانفعالاته وتقنياته، وتصاعد حدة التوتر، أن تقول لنا كل شيء!
خلال الجزء الأوّل من البرنامج، احتل حازم شاهين وحده المسرح. فرصة ثمينة للاستماع الى موسيقاه وأدائه المنفرد، في هذا المناخ الحميم، محاطاً بجمهور من الذوّاقة يحبّه ويعرفه جيّداً. هل هناك حاجة لأن نذكّر أننا في حضرة مؤلف موسيقي يعتبر بين أبرز عازفي العود اليوم، ليس في مصر فقط، بل على مستوى العالم العربي؟
بدأ بالمعلّم، بموسيقار الأجيال: "بنت البلد" لمحمد عبد الوهاب. ثم تقسيم بياتي، "رحلة" من تأليفه. تأسرك رشاقته وتقنيته ومهارته في العزف التي ترشح منها الانفعالات. قوة الجمل الموسيقية وانسيابها، تعاقب الغنائية والرومانسيّة مع الصخب والقوّة والاحتجاج. الغنى والتلوّن ومتعة التقسيم. هذا العود ليس كغيره! هكذا أدّى «ذكرياتي» و«حاجات وحشاني»، وسط تفاعل الحاضرين وآهاتهم وتطييباتهم. قبل أن ننتقل إلى الجزء الثاني من الأمسية، وينضم إلى حازم ضيفاه اللبنانيان أحمد الخطيب (إيقاع، دفّ) وفرح قدّور (بزق). عازفان ماهران حاضران في كثير من برامج "مترو المدينة"، ترك حازم وجوقته لكل منهما فرصة التفريد وإبراز قدراته المميّزة.
حان وقت الغناء لفلسطين. طلب حازم شاهين من الجمهور أن يغني معه، فالجميع يعرف هذه الأغنية. طيفا الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم كانا يحومان في الجوار: "يا فلسطينية والبندقاني رماكو/ والصهيونية تقتل حمامكو في حماكو/ يا فلسطينية وأنا بدي أسافر حداكو/ ناري في إديّا، وإديّا تنزل معاكو/على راس الحية/ وتموت شريعة هولاكو". صمت وإصغاء من نوع خاص في الصالة التي التقطت أنفاسها وغصتها ودموعها، قبل أن تنفجر في الغناء، ثم في التصفيق والهتاف!
وبعد تقاسيم سماعي بياتي لفرح قدور على البزق، استدعى حازم أستاذه سيّد درويش، في أداء خاص وحيوي وملوّن، لأغنيته الشهيرة "إيه العبارة؟"، بمشاركة فرح قدّور وأحمد الخطيب عزفاً ومرافقةً في الغناء. وكان لا بدّ للفنان المميّز من أن يقدّم مقطوعة أخيرة من تأليفه :"رقصة السوق" ("ده سوق معيّن في الاسكندريّة!" أوضح لنا)، قبل أن يبلغ البرنامج ذروته، مع التحيّة الموجّهة لزياد الرحباني: "شو هالأيام اللي وصلنالا؟/ قال إنو غني عم يعطي فقير/ كأنو المصاري قشطت لحالا/ع هيدا نتفة، وهيدا كتير…".
الهاجس الاجتماعي والهاجس القومي متلازمان عند هذا الفنان المصري الذي يجمع بين التراث الأصيل والنضال التقدّمي التحرّري، في سياق واحد. في طريقنا إلى الخارج، سمعنا سيدة شابة تهمس لصديقتها: "توقّعت أن أرى زياد (الرحباني) في الأمسية… خسارة أنه لم يأتِ"!