جنون الحالة وعبثيتها القاتلة في معرض فني

هذيان المظاهرات، وما رافقها من معالم، خصّها غصين ببضع لوحات فنية جمعت التصوير والرسم والحروف، وفيها نوع من التسلسل الحدثي انطلاقاً مما ذكره في كتاباته: "اختفينا بس خليت رجل المخابرات يلي عم يصورنا".

  • أحمد غصين
    أحمد غصين

الفنان اللبناني أحمد غُصَين (1981) يلخّص الحالة اللبنانية، التي بات يصح وصفها بـــ"الفوبيا" اللبنانية، بمعرض في غاليري "مرفأ" ببيروت، عنونه بثلاث كلمات: "سيروتونين، بنزين، وجسد خائن". 

تتفاقم المأساة، وتتجلى بأبعاد متنوعة كثيرة، لكن انعكاساتها على الانسان تتم بصور موّحدة، وقد تتراوح حدّة تجلياتها بين شخص وآخر وفقاً لما انخرط فيه من ممارسات مُحبِطة، أو ما راهن عليه من رهانات أثبتت عُقْمها في وقت لاحق.  

وتحلّ مأساة قصف غزة لتؤكّد المؤكّد، أن ليس للإنسان الفرد حرية التصرف، والتفلّت مما يطوّقه، فيتحوّل التوتر والقلق إلى هذيان متكرّر. 

ومع تفاقمها، تصبح الحاجة أكبر لتوظيف أسلحة جديدة في المواجهة. هنا، المواجهة بالفنون والآداب والفكر والفلسفة التي باتت تتحوّل تدريجياً لتوليفة جامعة لمختلف المشارب في معرض فني. لم يعد الشعر وحده كافياً، ولا المطولات الفلسفية، ولا الرسم أو المسرح أو السينما، كل على حدة، كافياً. تظهر أساليب جديدة تتجاوز الحروفيّة في الفن ليصبح النصّ مرافقاً، ومتمّماً للفن، يبرّر إئتلافها نزوع "الأنا" المشروع في هذه الآفاق، وهذا ما يقدمه معرض غصين الذي تمادى في عناوينه إلى عنوان واحد.

بضعة لوحات، وأعمال تجهيز، وحفر، وأشغال، تنتشر على جدران الغاليري، وفي ردهاته، ومساحاته الفارغة، مع نصوص مرافقة للأعمال، أو مستقلة عنها.

تطالع الزائر عدة أوعية لا يختلف اثنان على ماهيتها، لما تركته من أثر على النفس عندما كان ينتظر الناس على محطات بيع الوقود ساعات طويلة للحصول على ما يحرك سياراتهم وينقلهم إلى مقاصدهم؛ مشقة لن تمُحى من ذاكرة اللبناني وهو عائد الهوينا إلى العصر الحجري الذي كتبه له السيّد الأميركي منذ العام 2019، وسبقته تطورات وأحداث كثيرة منطبعة في عواطفه، وأحاسيسه، وأفكاره. 

بذلك، يصبح منظر الأوعية منظر شؤم شديد الوضوح. بنزين أزرق وأحمر وبلا لون، عنونها غصين بــــ "غالون مقفل"، وهي أوعية مخصّصة أساساً للماء المُعَلّب كما كل الحاجيات الأخرى التي فرضها زمن النظام الاستهلاكي على البشرية.

مشهد الأوعية يذكّر بتطوّر مِهْنَةٍ لجمعها من الحقول عندما أهملها الناس عقب تفريغها من مياهها، أو من صناديق القمامة. مهنة احتمى بها مهدّدون بالجوع كنتاج لمسار التحوّل إلى العصر الحجري، فحمتهم بما يسدّ رمقهم في ذلك العام.

تتوالد المأساة مآسٍ، وتنعكس على الجسد المُتعب الذي يصبح "خائناً"، بنظر غصين، ويتناقص فيه "السيروتونين" الذي بات معروفاً لدى كثيرين بسبب انتشار ثقافة "العُصاب" الضاربة للانسان مع تفاقم تداعيات العصر، وطبيعته، وأهدافه. لن تعرف السعادة، أو البهجة، أو الارتياح طالما لم تتمتع بما يتأمن لك من هرمون السعادة، الـــ "سيروتونين" الذي يتقدم نحوك إن بعناصر داخلية منك، أو عناصر خارجية لا يد لك في تطوراتها. 

هكذا يصبح الفن نوعاً من الهذيان انعكاساً للحالة العامة التي لم يعد لها ما توصف به من أشكال وألوان. لذلك، لجأ غصين إلى الأدب ليكتب بعض تأمُّلاته التي تشير إلى واقع الحال: "عبقة على الصدر ما عم تروح، جربت يوغا، تمارين تنفّس، غيّرت النومة، غيرت البيت، وقفت شرب، وقفت دخان، بلشت أركض، رياضة.. وبعده هيدا الضجيج، ما راح".

لا يخطىء غصين في التشخيص، ولو أخطأ في تقدير الاجراءات التي اتخذها كونها أصغر بكثير من حجم نظام التدمير الذي يعيشه الانسان، ولم يكن غصين الأول الذي يعبر عن هذا الشعور، لذلك يشير في كتاباته إلى فيلم "بيروت اللقاء" ومنه: "قصص بتنعاد معنا، كل الوقت بطرق مختلفة من كارثة إلى كارثة".

ولم ينقص غصين إلا رهانه على تظاهرات الانهيار اللبناني الشامل، ويغوص في تداعياته: "بعدين بلشت قص أوراق مالية بقيمة أموالي بالبنك، صب ريزن، قص كاوتشوك، قص ولزق وأعمل خريطة أجزاء من بيروت السوداء، ضلّيت حفّ كلّ وجوهنا بالصور في التظاهرات لحدّ ما راحت معالمنا ونظراتنا".

هذيان التظاهرات، وما رافقها من معالم، خصّها غصين ببضع لوحات فنية جمعت التصوير والرسم والحروف، وفيها نوع من التسلسل الحدثي انطلاقاً مما ذكره في كتاباته: "اختفينا بس خليت رجل المخابرات يلي عم يصورنا".

ستّ لوحات يعبّر غصين فيها عن هاجسه من رجال المخابرات الذين رافقوا تظاهراتهم، عنونها: "أصوره يصورني"، ومنها لوحة تحمل صورة كاميرا - فيديو مع مواصفاتها التقنية، ولوحة تالية فيها 4 عناصر مخابرات بكاميراتهم، مرفقة بتعليق يشرح عمل الرجال، وجدل نوع الكاميرا التي ظلّ أحدهم يعمل عليها لخمس ساعات من دون توقف. 

وفي لوحة أخرى مع نقاش عن نوعية الكاميرا، لقطة لمبنى اعتمدته المظاهرات مقراً لها وعليه عبارة: "لما تموت العدالة يحيا العهر". 

وفي لوحة بأربعة أعمدة متفاوتة الطول، عنونها "عم قصّ مصاري قصّ"، إشارة إلى الأزمة المالية التي ضربت القطاع المصرفي، فضربت المجتمع برمته.

بالترافق، كتب غصين نصّاً بعنوان: "شذرات من الواقع"، هو أشبه بقصة قصيرة، يشرح فيها واقع الحال عبر قصة متخيّلة، بحسب ما أعلن بنهايتها، خالصاً إلى أن "هذه القصة هي من نسج الخيال، خيال لا يرتقي إلى قوة الواقع، إذ أن الحقيقة الوحيدة فيها هو الانفجار الذي مزّق وسبب قطع للمسار الزمني والفني في ومع هذه المدينة"، بحسب رأيه، ولكن بالطبع، حوّل مرفأ حيفا إلى أهم مرفأ على المتوسط وِراثةً لمرفأ بيروت، بحسب ما عبر عنه رئيس وزراء العدو، وبعض حلفائه العرب. 

وينتهي غصين إلى القول: "المعرض هذا هو مجموعة أعمال تعكس الأحوال الراهنة بجنونها وعبثيتها القاتلة".