جمهورية "الفيسبوك" في الجزائر
متى يقرر الجزائريون إخضاع "فيسبوك" لعالم المادة والأشياء؟
البيئة المساعدة على اكتساح "فيسبوك" لحياة الجزائريين
كل المجتمعات لها خصوصيات وظروف قد تجعل تفاعلها مع الأشياء يأخذ طابعاً خاصاً بها، وتجربة الجزائريين مع شبكات التواصل الاجتماعي، وبالأخص "فيسبوك"،لم تخرج عن هذه القاعدة.
فقد وجَد فراغاً رهيباً في حياتهم، مما وفّر له حيزاً كبيراً للانتشار والتوغل في أقصر مدة ممكنة. خلافاً للمجتمعات الغربية المتطورة التي أنتجت شبكات التواصل الاجتماعي وفق سيرورة من التطورات التكنولوجية والمعرفية المتراكمة، سبقتها مرحلة هيكلة المجتمع بمؤسسات قوية سمحت لمختلف الفئات بالتعبير عن تطلعاتها وتأطير طموحاتها، فإن المجتمعات العربية عموماً لم تمر بالسيرورة نفسها ولم ترتق إلى هذا المستوى من التأطير.
لذلك فإن المراقب الأكاديمي للمجتمع الجزائري لا يحتاج إلى الكثير من الجهد ليلاحظ أن شبكات التواصل تكاد تستحوذ على حياة الجزائريين. فالأرقام تتحدث عن نفسها، بحيث في التقرير الرقمي السنوي المتعلق بمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في العالم، وفي شقّه الخاص بالجزائر، نجد أن عدد مستخدمي "فيسبوك" بلغ 20.80 مليون حساب، ليتحوّل هذا الفضاء الأزرق إلى جمهورية قائمة بذاتها، يعبّر فيها الجزائري عن مختلف انشغالاته، بحيث يطرح مشاكله الأسرية ومشكلاته العاطفية والمهنية والجوارية والمسجدية والمدرسية والجامعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويستعرض الكثير من مظاهر حياته اليومية بدقة متناهية، تتجاوز خصوصية المطبخ وحرمة الأسرار العائلية والزوجية.
كما أنها تتحوّل في الكثير من الأحيان إلى منابر لتصفية الحسابات وزرع الاحتقان بين الأفراد والجماعات، كي لا نذهب أبعد من ذلك.
هذا التشخيص الأوّلي يدفعنا إلى الاعتراف بعجز المؤسسات في تأطير حياة الأفراد في مجتمعنا وينبّهنا إلى مدى الفراغ الذي نعاني منه. فلو وجد الجزائري حياة سياسية تنافسية ذات مصداقية لما عبّر عن انشغالاته السياسية في هاته الوسيلة واكتفى بالتعبير عنها في المؤسسات والفضاءات المخصصة لذلك. ويبقى فقط بعض الناشطين يتناولون هاته الانشغالات بشكل استثنائي كما هو جارٍ في الدول المتطورة.
ولو اقتصر الأمر على الشأن السياسي لتفهّمنا الأمر، ولكن ما الذي يدفع العامل والموظف للتهجم على مؤسسته على "فيسبوك" ومحاولة النيل منها باستمرار؟ فلا تكاد تجد، إلا نادراً، من يشيد ويمدح ويروّج بإيجابية لفضاء عمله عموماً، بما في ذلك بعض المسؤولين الذين ينتقدون الوضع وهم جزء منه وفاعلون في تسييره ولكن بمستويات متفاوتة. فلو وجدوا مساحات للتغيير والإصلاح من الداخل، لما لجأوا إلى التشهير بعيوب ومشاكل المؤسسة.
ليت الأمر توقّف عند الجانب المهني ولم يتجاوزه لكشف خبايا العائلة الجزائرية بكل تناقضاتها وتحدياتها، فهل من المعقول أن تصل درجة الاغتراب والانقسام داخل الأسرة إلى هذا الحد؟
الأكيد أن وسائل التواصل أظهرت الواقع وحجم التغيّر الحاصل، والمجتمعات المنغلقة على ذاتها لم تستطع هذه المرة المحافظة على انكفائها، بسبب قوة شبكات التواصل الاجتماعي وقدرتها على اختراق الخصوصية. فقد دخلت غرف النوم وأخرجت أسرار البيوت وتناقضاتها، وبالتالي تحوّلت إلى فرصة للتعرف على جزء من حقيقة المجتمعات المخفية، فهي بمثابة مساحة افتراضية للأنا للتعبير عن شخصيته وكشف الإدراك المكبوت لهؤلاء الأفراد. هذا هو حال المجتمعات المغلقة التي تتسم بضبط عال يقهر الفرد ويخضعه لإرادة الجماعة، إن سلباً أو إيجاباً طالما أنها تعيد إنتاج الأعراف السائدة. هذا الوضع زاد من خطورة تأثير ظاهرة "فيسبوك" في مجتمعنا، لأنه وجد مجتمعاً يتمتع بقابلية كبيرة للاختراق بسبب الفراغ الهائل الذي تعاني منه مختلف فئاته ومكوّناته.
المواطن الجزائري ما بين ضعف فضاءات التعبير وتراجع ثقافة التقدير
من أهم المشكلات المطروحة التي ضاعفت من تأثير "فيسبوك"، غياب فضاءات تعبيرية حقيقية. فالمؤسسات أصبحت عاجزة عن توفير آليات وقنوات تواصل فعلية على أرض الواقع، حتى وإن كان هناك حوار لكنه غير وظيفي يجعل الأفراد يشعرون بأنهم يمارسون حواراً زائفاً، فيهرعون إلى البحث عن أي بديل يسمح بالتعبير ولو كان افتراضياً، طالما أنه يحقق نوعاً من الإشباع، ويعطي فرصة لرواد شبكات التواصل بالتنفيس نسبياً عن الاحتقان. خاصة عندما يجدون أصدقاء كثراً داخل الفضاء الأزرق يشاطرونهم تلك الانشغالات والشعور بالتيهان والظلم و الإقصاء، والعكس صحيح. فقد تكون أحاسيس معاكسة تعبّر عن الشعور بالفخر والانتماء والإنجاز، وتعرض صوراً ومواقف تؤشر على السعادة والحياة المريحة، فتجد لها محبين ومشجعين وداعمين.
من هنا نطرح سبباً ثانياً لا يقل أهمية، يدفع الجزائريين للارتماء في أحضان "فيسبوك" وهو تراجع التقدير من المجتمع على أرض الواقع، فيبحث عنه الأفراد في الافتراضي، لذلك وجدنا تركيزاً كبيراً من قبل رواد شبكات التواصل على حجم الإعجاب الذي تتلقاه رسائلهم وتعليقاتهم، لدرجة تجعل البعض منهم يهدد بقطع العلاقات داخل الفضاء الأزرق مع من لا يتفاعلون بإيجابية معهم، وذلك بتسجيل إعجابهم على الأقل، فيتحوّل الاهتمام نحو الإعجاب الافتراضي بعد أن استعصى الإعجاب الحقيقي الواقعي.
وهذا ما يطرح بالضرورة مسألة الإشباع العاطفي للأفراد داخل الأسر الجزائرية، فمن جهة هناك تراجع العطاء العاطفي لأفراد الأسرة، في مقابل الإفراط في العطاء العاطفي. وكلاهما يطرح إشكالية الإشباع العاطفي، فبقدر ما اضطربت العلاقات في المجتمع وتلاشت إلى حد ما العلاقات الأسرية، خاصة على مستوى العائلة الممتدة التي تكاد تندثر يوماً بعد يوم لصالح الأسر الصغيرة النووية، فإن المجتمع الجزائري، لأسباب موضوعية ارتبطت بما عايشه من أزمات واضطرابات وتحوّلات في العقود الأخيرة، أصبح ينتج علاقات متناقضة تتسم بالإفراط العاطفي مع الأبناء لدرجة تجعلهم أقرب إلى التمرّد على أهاليهم والدلال والجفاء العاطفي مع باقي أفراد الأسرة من أعمام وأخوال قد يصل إلى درجة قطع العلاقات.
وما زاد من ثقل تأثير الوسيلة كون نوعية التواصل على مستوى "فيسبوك" غير مكلف ولا يتطلب جهداً يذكر، ومع مرور الوقت مع انخفاض كلفتها الاقتصادية بالتزامن مع تخفيض أسعار الإنترنت وتزايد العروض الترويجية التي تسمح بمنح مستويات تدفق أعلى وعروض استهلاك أكبر.
ومن خلال ما تقدّم تتضح نسبياً الظروف المساعدة على توسّع دائرة مستعملي "فيسبوك" ويتبيّن أن الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي يشكّل بيئة مشجعة وحاضنة لمثل هذا الانخراط.
من الانفلات والانبهار إلى التموقع وإعادة البناء
واقع المجتمعات يدفعها عفوياً أو إرادياً لتشكيل كل وافد جديد بنمطها المجتمعي، فهل صاغ المجتمع الجزائري شبكات التواصل الاجتماعي وفق خصوصياته؟
الأكيد أن المجتمع الجزائري في غالبيته شبابي وهذا يعني الميل نحو التحرّر والرغبة في الخروج من الضبط الذي يفرضه المجتمع، وبالأخص جيلي الأجداد والآباء، مما يجعل من "فيسبوك" وسيلة لبناء شبكة علاقات خارج المراقبة وهذا شيء مهم جداً لجيل الشباب، لأن العلاقات الاجتماعية كانت دائماً تحت الرقابة، وخاصة علاقة الرجل بالمرأة، لأنها محاطة بنوع من القداسة، ولا تريد فئات واسعة من المجتمع الاصطدام مع المجتمع بانتهاك حرمة العلاقة إلا بشكل سري، وهذا الذي تسمح به شبكات التواصل الاجتماعي. حيث توفّر هامشاً كبيراً جداً من فرص التواصل بشكل سري ليست له كلفة اجتماعية، لأن الجميع يستطيع إخفاء هويته عن عامة الناس مع استثناء الأصدقاء بالاضطلاع على الهوية المستعارة للاختباء.
لذلك التحق ملايين الشباب بهذا الفضاء العابر للحدود الفئوية. بما فيها فئة الأطفال، ثم التحق بهم الكبار تدريجياً، ليلتحق الجميع بالعالم الأزرق ويحاولون صياغة نمط تواصل جديد فيه خليط من السخرية والعدوانية والتنكيت وتوجيه الأحداث بانتقائية، لنجد أنفسنا اليوم أمام عالمين، عالم واقعي ينفر منه الناس نظراً لقساوة تعقيداته وعالم افتراضي جذاب متعدد الخدمات، يحقّق للأفراد انطباعاً بتحقيق آمال وأحلام استعصى تحقيقها على أرض الواقع.
فما أجمل الشعور بالإنجاز وتحقيق الذات ولو كان في عالم الخيال، وكلما استشعر الناس صعوبة الحياة في جمهورية الواقع تسرّبوا باستحياء لجمهورية الخيال والتصنّع و الانكفاء. فمتى يقرّر الجزائريون إخضاع "فيسبوك" لعالم المادة والأشياء؟