تسطيح العالم: كيف هيمنت ثقافة التفاهة؟
ينتقي الكاتب في مقدّمة كتابه حادثة تبدو مثيرة للضحك أكثر من كونها صالحة للسجال تتعلّق بقانون سنّته شركات طيران أميركية.
هل خدعنا النظام العالمي الجديد؟ أو بالأحرى خدعنا الإنسان الجديد؟ الإنسان الذي تشكّل منذ ستينيات القرن العشرين على وقع حركات التحرّر وحقوق الإنسان وحملت قيمه وثقافته إلينا ثورة الإنترنت ثم تضخّم في إطار العولمة النيوليبرالية.
لنفترض أننا أمام تكوين ثقافيّ جديد فما هي معالمه؟
ينطلق أوليفييه روا في كتابه "تسطيح العالم" وبعنوانه الفرعي البارز أزمة الثقافة وسطوة القواعد والمعايير من تحديد أزمنة التحوّل في العالم الغربي وبالتالي نشوء هذه الأزمة. وهي: - ثورة الستينيات وعنوانها "الفرد الراغب" على قاعدة "اعتبر رغباتك حقائق". – ثورة الإنترنت – العولمة المالية النيوليبرالية – عولمة المجال (العالم قرية كونيّة)!
هكذا إذاً تبدأ حكاية العالم المتحوِّل نحو الثقافة الجديدة فتتحدّد أولاً الرغبة كمرجعية نهائية: رغبة الطعام، رغبة الجنس، رغبة التملّك، رغبة الظهور... لتصبح اللذّة معياراً جديداً سرعان ما أدرجت في قوانين وعادات المجتمعات الغربية. ليضع هذا التحوّل الرغبة مقابل الثقافة. وتبرز ثورة الستينيات الجنسانية المفهوم الجديد الآتي: "الرغبة جيّدة، والثقافة قمع". أنْ تصبح الرغبة بحسب أولفيييه روا مرجعية في اختيار المرء جنسه أو عرقه أو قيمه هذا يعني أنّ الثقافة قد تسطّحتْ ودخلت في أزمة.
وفي لحظة لاحقة ومباشرة يدخل الإنترنت بأقصى سرعته ليوصل شبكة الثقافات ببعضها ويحيل العالم إلى (قرية كونية) مدعاة تقوم بتفتيت الحدود وإزالة الأقلمة ويتخذ الإنترنت من نفسه مرجعاً ذاتياً ونهائياً، لكنه يظهر بحسب روا كمدوّنة ذات معرفة أفقيّة، فمعرفة الإنترنت في نظره لا تحيل إلا إلى ذاتها والحاسوب يفتقر بشدّة للفهم الغنيّ والحدسي للعالم، والرموز الإلكترونية تعبّر عن عاطفة مسطّحة غير قابلة للتفسير وهي رموز تعبيرية لا تحيل إلا إلى ذاتها.
وقد ساهم عمالقة التكنولوجيا في الانصهار بين النيوليبرالية والقيم التحرّرية الجديدة، وبحسب الكاتب فإنّ الإنترنت لم يكن سبباً للأزمة الثقافية وإنما منحها إمكانات التحوّل، فرضها الإنترنت لا يخلق ثقافة بقدر ما يضع نظام تمثّلات وعلاقات على النقيض من الثقافة في عوالم افتراضية مكتفية ذاتياً.
وبذلك يكون الإنترنت قد خلّصنا من المحدّدات الاجتماعية وعوّض لنا العالم القديم القائم على الأقلمة وعلى الاجتماع بفضاء افتراضي وعالمي، ولم تعد الحياة الاجتماعية مرتبطة بالمكان أو بالجغرافيا التي نعيش فيها.
يشدّد أوليفييه روا على أزمة المخيالات فالمخيال برأيه اعتقاد أيضاً وليس مجرّد يوتوبيا، إنه نوستالجيا للأرض قبل الكائن البشري "فلكلّ ثقافة مخيال". والمخيال لا يجعل المعتقدات لها معنى فحسب وإنما يجعل المعنى يتماسك ويتقاسم، ولكن لا الثقافة الرفيعة الجديدة ولا الثقافة الإنثربوولجية اليوم هما ركائز للمخيال. وحين ينمحي المخيال يجعل من الأشياء مجردة من الطابع الثقافي. كلّ الأشياء تقتلع وتستخرج من بيئتها ويصبح استخدام الثقافة فولوكلورياً كونه يأخذ بعض الأجزاء المنفصلة والمستقلة ويضعها في سياق مختلف كزهور موضوعة على القبور.
الأزمتان تتلخّصان في حصول الرغبة على مقام أعلى من الثقافة وفي مواجهتها أيضاً، ودخول الإنترنت كمرجع تقني يحيل إلى ذاته ليدخل بدوره الأزمة إلى النظام التعليمي الجامعي أيضاً فيتطوّر البحث الكمّي على حساب البحث النوعي.
التحوّل الثالث الذي سبّب تسطيح الثقافة بحسب روا يكمن في العولمة النيوليبرالية التي نقلت التسليع والنشاط من الاقتصاد إلى الثقافة. فمثلاً يصوّر تلفزيون الواقع Reality TV امتداد مجال التسليع إلى الحياة الخاصة ووجوب أن يظهر كلّ شيء من الحياة اليومية إلى العلن من دون وساطة أو انتقاء حتى ما يتعلّق بالمشاعر، وهنا تكتسي الأفعال قيمة سوقيّة فتصبح موضوع تبادل من دون مضمون ومن دون ادّعاء معنى. إن الأثر الأكثر وضوحاً للنيوليبرالية هو أزمة الرابط الاجتماعي بالتوازي مع زوال الأقلمة، فالنيوليبرالية لا تهتم بالرابط الاجتماعي في النيوليبرالية لا يوجد شيء اسمه مجتمع، فقط أفراد، رجال أو نساء!
لم تحدث الأزمة عند روا فقط في الثقافي البحتّ بل انبعثت في الديني أيضاً حين تحوّل ميلاد المسيح إلى فولوكلور لا يذكر فيه صاحب المناسبة إلا عرضاً وهنا بدل التعالي البشري يحدث استنزال للمتعالي.
وأخيراً، في عولمة المجال أو زوال الأقلمة – زوال الحدود التي هي إحدى أسباب تسطيح العالم فتدّعي الثقافة الحديثة أنها كونية ذات معيار، لكنهم لم يلتفتوا إلى أن الثقافة نفسها مقاوِمة لمبدأ الكونية، والسبب واضح عند روا في كونه لا يوجد مجتمع كوني. فدعوى كونيّة الثقافة هو تجريد ثقافيّ فحسب.
فأيّ أزمة تمرّ بها الثقافة؟ يجيب روا: إذا لم نعد نعرف موضع الإنسان بين البهيمة والملائكة، وإذا فقدنا هذا المحور العمودي لصالح المحور الأفقي المسطّح الذي يتمدّد في اتجاه الاختزال يعني أن الإنسانوية في أزمة.
بهذا العمق من فهم الأزمة ينتقي الكاتب في مقدّمة كتابه حادثة تبدو مثيرة للضحك أكثر من كونها صالحة للسجال تتعلّق بقانون سنّته شركات طيران أميركية، يسمح للركّاب بمرافقة حيواناتهم الأليفة، لأنها تدعمهم عاطفياً، وترغب في التقليل من مخاوفهم أثناء التحليق في الجو. يستغرب روا، كيف أنّ ما كان سيُجابه بالرفض، أو يُعتبر إخلالاً بالنظام العامّ قبل عشرين أو ثلاثين عاماً، صار معياراً وقاعدة، بل أصبح قانوناً ينبغي الرضوخ له.
ومن هنا يشنّ انتقاداً واسعاً على ما يعرف بالمعياريّة، المعياريّة المتقلّبة والمنقضّة على نفسها والمتبدّلة، المعيار الذي يكون بالأمس جريمة ليصبح واجباً أو يكون جميلاً لنصبح ملزمين برفضه، حتى جرى الاستيلاء على الحميمي وتسطيحه من خلال المعيار. ويطرح الكاتب تساؤله إذا ما كنّا ضمن ثقافة جديدة أم أنّ تمدّد المعيارية علامة أزمة عميقة لمفهوم الثقافة نفسه.
يختم أوليفييه روا كتابه القيّم المبني على تتبّع دقيق لكلّ التفاصيل اليومية للمجتمعات الغربية ورموزها الجديدة بتوصيفه للإنسان الثقافي الجديد: "إنسان ليس إنساناً بالقدر الكافي". إن هذا التوصيف لدى روا يوحي لنا عمق الأزمة الثقافية، فثمّة تناغم كاذب بين الثقافة والهوية وأضحت الثقافة مجموعة علامات من دون مضمون إنّه التجريد الثقافي، ذوبان مضمون الثقافة، امحاء الثقافات الإنثربولوجية، اختزال الثقافة إلى نظم ترميزية للتواصل منفصلة عن الثقافات الحقيقية (الكيتش الجاهز)، ولم يعد ثمّة فارق بين اليمين واليسار فالخطاب اليميني محافظ لكنه يجسّد في سلوكه الشخصي القيم الجديدة التي يرفضها الخطاب، أما الديانات التي كان ينبغي أن تنهض في تجاوز الأزمة فهي إما تعولمت أو تحوّلت إلى لوائح ممنوعات.
تُختصر أركان الأزمة عند المفكّر الفرنسي أوليفييه روا صاحب المؤلفات المشهورة مثل الجهل المقدّس، عولمة الإسلام، البحث عن الشرق المفقود، بهذه الثلاثية (التجريد الثقافي – الترميز – المعيارية).