بين نضوجهما وخسارتهما.. حكايات غزيين بين حبتَي طماطم
بشرى لم ترَ البحر بعد، وشيماء ترفّه عن الأطفال بالتعليم واللعب، وزهرة الشوبكي تبحث عن بديل من حبتَي طماطم لإطعام حفيديها. بين الفرحة بحبتَي طماطم وخسارتهما قبل نضوجهما، حكايات كثيرة تروى من غزة.
في زاوية سلمت من بيتها المتصدع، تزيح المسنّة الغزية زهرة الشوبكي الركام عن شتلة طماطم صغيرة كانت قد نمت مصادفة إلى جوار باب البيت بفعل القصف الإسرائيلي المتواصل. وجدت زهرة الشتلة حبلى بحبتَي طماطم خضراوين لم تنضجا بعد، لكنها وجدت فيهما سلوتها. تتفقدهما كل صباح ومساء. تبتلع ريقها حين تفكر في ما ستفعله بهاتين الحبتين. فالخضار والفواكه غير متوافرة شمال قطاع غزة منذ شهور طويلة. تخبر حفيديها باسل وعلاء اللذين بقيا معها، بينما نزحت البقية إلى الجنوب، عن نيتها بما ستفعله حين تنضج حبتا الطماطم.
"سنُحضّر السلطة بحبتي البندورة، زمان ما أكلنا السَلَطة يا أولاد"، تقول الجدّة وتوصي حفيديها بالصبر وتخصيص الماء لسقايتها يومياً حتى ولو كان ذلك على حساب عطشهما.
ربما تمكنت الجدة من تعليم حفيديها مهارة الاعتناء بشجيرة صغيرة نمت في أرض قاحلة. لكن فاتها أن قرقرة بطون الصغار جوعاً، فيما تتدلى حبتا الطماطم أمامهما يفوق طاقتهما على الصبر. زاد فضولهما تجاه اكتشاف معجزة جدتهما التي خُيل لهما أنها ربما ستنهي جوعهما للأبد، فقطفا حبتَي الطماطم قبل أن تنضجا، ولم يتمكنا من التهامهما لمرارة طعمهما. انهارت توقعاتهما تجاه هذا الحلم، وألقيا بالحبتين إلى جوار الشتلة. وحين خرجت الجدة زهرة لتتفقد معجزتها، صُدمت بما رأت واستلت عكازها لتطاردهما. تعلم زهرة الشوبكي أن الحبتين اللتين راهنت عليهما لن تشبعا جوعها وحفيديها، لكنها ربما لا تزال تأمل بحبتي طماطم أخريين تظهران من بين الركام الذي حولها، فجأة، ناضجتين، أو في طريقها إلى جنوب القطاع بعدما طلب الاحتلال من سكان الشمال مغادرته.
جارة البحر لا تراه
بينما تنتظر زهرة الشوبكي (شمال غزة) ما يسدّ رمق حفيديها بكل ما يمكن أن يؤكل، كأوراق الشجر مثلاً، فإن بشرى إبراهيم (33 عاماً) وجدت في النزوح إلى دير البلح، إلى المنطقة المطلة على البحر، نوعاً من التسلية. أحب أهالي قطاع غزة البحر أكثر من أي شيء سواه. البحر كان المنفذ الوحيد للمدينة المحاصرة منذ 19 عاماً. تقول بشرى لـ "الميادين الثقافية" إنه: "بعد نزوحنا المتكرر من شمال غزة إلى جنوبها واستقرارنا في مدينة رفح، وجدنا أنفسنا مجبرين مجدداً على النزوح والإخلاء".
وتضيف بشرى، وهي أمّ لطفلين ونازحة مع عائلتها إلى بيت أقربائها، "صحيح أن القصف اشتد على رفح لكنني لم أستعجل المغادرة، أعرف أننا سننتقل إلى خيمة، وهذا ما يفوق طاقتي على الاحتمال"، وحين عَلِمَت أن خيمتهم ستجاور البحر "شعرت بنوع من المواساة، وانتقلنا إلى دير البلح وأنا أتطلع لقضاء الوقت على الشاطئ رفقة أطفالي".
كان محبطاً لي حين تواصلت مع بشرى مستفسرة عن أحوالها: "كيف حال البحر معك؟"، فأجابت ساخرة: "أي بحر؟ أنا لا أجده من كثافة الخيام حولي". صَمتُ قليلاً ثم عاجلتها بالحل قائلة: "حسناً، عليك أن تذهبي إليه بنفسك في وقت الفراغ"، لكنها أجابت مجدداً بلهجة ساخرة يبدو لي أنها اكتسبتها مؤخراً: "أين سأجد وقت الفراغ؟ العمل في الخيمة لا ينتهي! نقضي يومنا في جلب المياه والحطب والغسيل وإعداد الطعام على النار، ليس لدي الترف لأقطع أعمالي وأزور البحر. ثم إن الشمس قوية جداً. الحرّ شديد. إحنا بنسيح (نذوب) داخل الخيام".
كعادتي، لم أتخل عن ممازحة صديقتي المقربة، فقلت "كيف يبدو لك صوته خاصة وقت الليل؟"، فنفت أن يصلها صوت البحر إلا ما ندر. النازحون منتشرون في كل بقعه، يعلو صخبهم، نحيبهم، ومشاجراتهم، وضحكاتهم وأصوات الأطفال، ويعلو أكثر صوت القصف و"الزنانة" التي لا تغادر السماء. أطلب عنوان خيمتهم مفصلاً لعلّي أتمكّن من ربطها بإحدى صديقاتنا ويتمكنّ من زيارة بعضهن، تزودني به بلا تردد وأشعر بأن هناك ما يميز صوتها الضعيف حين تُمليني العنوان قائلة: "دير البلح، قريبة جداً من البحر".
لقد مثلت الخيمة كابوساً للنازحين من شمال غزة إلى جنوبها، وكحالة من الإنكار أن تكون بديلاً من بيوتهم، تلكأ كثيرون في البداية عن شراء الخيمة باهظة الثمن. ظلّ النازحون يراهنون على أن الحرب أيام وستنقضي قبل أن يعودوا إلى بيوتهم! لكن عمار الناطور (68 عاماً) كان من الأوائل الذين قرروا شراء خيمة والعيش فيها مع أولاده وأحفاده. فقد شهد بأم عينه، للمرة الثانية، تدمير الطائرات الإسرائيلية بيته الكبير، وشيّع نجله شهيداً. وجّه الناطور حديثه لمن حوله من أنسبائه وأقاربه وكأنه يخطب فيهم "سأكون أول من يشتري الخيمة ويسكنها، وسأحملها معي لما نرجع غزة وأنصبها على ركام بيتي".
كل يوم يجلس الناطور أمام باب خيمته مكابراً رافضاً خسارة الرهان. تجده في حالة ترقب لشيء ما. يمر جاره في الخيمة المجاورة متسائلاً "شكلنا مطولين يا جار؟"، فيرد الأول وعيناه مسمّرتان "خليها تطول، هينا بنستنى شو ورانا، إلا ما نرجع".
"Apple ..A".. والأطفال جياع؟
الجوع صعب، وفي غزة مميت. لكن يبدو أن ثمة ما يشبه التصالح مع الجوع، ومع الموت. لذلك، وفي غمرة الانتظار الطويل، وجد الغزيون أنفسهم مجبرين على التفكير في أبعد من طريقة موتهم أو وجهتهم التالية للنزوح. شيماء أبو منديل، طالبة ماجستير، ولديها مركز تعليمي خاص باللغة الإنكليزية للأطفال عبر اللعب والترفيه، فكرت جدياً في إعادة فتح مركزها واستقبال الطلاب بعدما فرغ المكان من النازحين.
استغرق تجهيز "المركز" 3 أيام متواصلة، بدءاً بإزالة الردم والركام وتنظيف الحصى والتراب الذي خرج من أمعاء الأرض بفعل قصف المنطقة بالأحزمة النارية، وتعرضت شيماء للجروح أكثر من مرة أثناء تنظيفها الأرضية المتكسرة. لكنها كانت تبدو بحالة جيدة. أما عن سبب إقدامها على مثل هذه الخطوة فتقول: "شعرتُ بحاجتي إلى طلابي، خاصة بعدما تلقيتُ أسئلتهم حول إمكانية عودة المركز للعمل".
شعرتُ بالغرابة، خاصة أن الأطفال في الحرب غالباً ما يقع على عاتقهم الخروج باكراً لجلب المياه والبحث عن الحطب والكرتون لإيقاد النار، عدا عن مهمة وقوفهم جوعى أمام "التكية" للحصول على بعض الحساء أو الأرز لإطعام عائلتهم. فكيف يجدون متسعاً للتفكير في التعليم؟ كأنها تقرأ أفكاري، تستكمل شيماء حديثها: "إحدى الأمهات تواصلت معي وأخبرتني عن رغبتها بعودة أطفالها إلى التعليم، فهي غير راضية عن انشغالهم بالمياه والحطب"، وهذا ما يزيد حماس شيماء "أتعلمين؟ أنا نادمة جداً لأنني سمحت لكل هذا الوقت أن يمر بينما المركز مغلق في وجه الطلاب".
تعلم شيماء أن العائد المادي من جراء استئناف دروس اللغة الإنكليزية لن يكون مجدياً "عمر المركز 5 سنوات وطيلة هذه المدة لم يكن الأمر مادياً بالنسبة إلي، سأستعيد العمل فيه برسوم رمزية، مكسبي هو عودة طلابي". قد لا يخطر على بال أحد أن التحدي الأكبر الذي يواجه هذه المعلمة التي تحظى بخبرة سنوات في التعليم هو "كيف سأقدم المنهاج الذي يبدأ بحرف Apple A لأطفال جوعى محرومين من الطعام؟ هل تتخيلين كم سنصمت بعد نطقها؟".
تعرض بيت شيماء للتدمير من كل الجهات، لكنهم ما زالوا يقيمون فيه، تقول "تدمر البيت ونجت المكتبة!"، وفي كل مرة كانت تضطر إلى النزوح هي وعائلتها كانت تحمل معها الكتب وتقوم بتوزيعها على النازحين لينشغلوا عن الخوف والجوع، ووجدت خلال ذلك فرصة لنفض الركام عن المكتبة وقراءة كتب لم يسبق لها قراءتها.
تواصل شيماء القراءة فيما الإبادة في أوجها، وتكتب المراجعات عن الكتب التي تعجبها ولا تعجبها. لقد قرأت محمود درويش، وجبران خليل جبران، وخالد حسيني، ورسول حمزاتوف، وغريب عسقلاني ومجموعة من كتّاب غزة المغمورين، الذين لا يعرف عن نصوصهم وأشعارهم أحد، ولا يشعر بخوفهم وجوعهم سواهم، لكنهم ما زالوا يكتبون، وما زالت شيماء تقرأ وتدوّن مراجعاتها.