بونساي: رحلة شجرة من الصين إلى اليابان

غم أن البونساي حرفةٌ يابانية، لكنها ذات أصولٍ صينية، وهي استنساخ لفن صيني يدعى "بينجينغ"، يُعنى بتصوير مشاهدَ كاملةٍ من الطبيعة، بما فيها الغابات والجبال والأنهار، وليس شجرةً واحدةً فقط كفن البونساي.

تعج الثقافة اليابانية العريقة بمئات الحرف اليدوية، التي يسبق جمالها حرفية الصنع وإتقان العمل، حتى أنك تشعر بعبق مئات السنين بمجرد النظر إلى واحدة من نتاجات أيدي حرفيين ورثوا مهنتهم أباً عن جد. فبين الملابس الحريرية التقليدية، والأواني الخزفية، والصناديق الخشبية المزخرفة، وسيوف الكاتانا الشهيرة، تجد الكلمات صعوبة في الوصف.

وتبرز بين هذه الحرف حرفةٌ مميزة، تمثل الجمال والدقة والتفاني، والأهم الصبر، إنها "بونساي"، وهي حرفة تقزيم الأشجار، التي أصبحت رمزاً يابانياً آخر.

"بونساي" تعني حرفياً "نبتة في وعاء"، وهي جملة تبيّن كذلك ماهية هذه الحرفة بشكلٍ مختصرٍ. أما القصة الطويلة لها فتمتد إلى مئات السنين، إذ تعتمد هذه الحرفة على محاكاة شكل الشجرة وثنياتها وحتى الأجزاء الميتة منها، كما هي في الواقع لكن بشكل مصغر، ويمكن وضعها في وعاءٍ أو أصيصٍ خزفيٍ خاص وعرضها داخل البيت.

ويتم ذلك عن طريق تقليم الأغصان والجذور بشكلٍ مستمرٍ وموسمي، لسنواتٍ وربما لعقود، إذ إن بعض أشجار البونساي تم توريثها لأجيالٍ خلال أكثر من 100 عام، وهذه هي الميزة الحقيقية لهذه الحرفة. فعلى الرغم من أن بعض المنتجات يمكن أن تورّث وتبقى لمئات السنين، لكنها تصبح جاهزةً بمجرد الانتهاء من إنتاجها، كاللوحة الزيتية.

أما رحلة إنتاج البونساي والتغيير الحاصل فيها فهي عمليةٌ مستمرةٌ على مدى السنين، طالما أن الشجرة ما تزال حية. لذلك، يفضل محترفو البونساي استخدام الشجر المعمر، رغم أنه يمكن استخدام أي نوعٍ آخر.

تُنتج أشجار البونساي بهدف التأمل في جمال قطعةٍ حيةٍ من الطبيعة، وقف بها الزمن عند حجمٍ معينٍ. وتصف التواءات أغصانها قصة سنين من الصبر والجهد، قام بها الحرفي لينتج نسخةً من شجرةٍ تفوقها حجماً بعشرات المرات. ولا تنتهي هذه القصة عند هذا الحرفي، بل تنتقل لتصبح مسؤولية المالك الجديد.

ورغم أن البونساي حرفةٌ يابانية، لكنها ذات أصولٍ صينية، وهي استنساخ لفن صيني يدعى "بينجينغ"، يُعنى بتصوير مشاهدَ كاملةٍ من الطبيعة، بما فيها الغابات والجبال والأنهار، وليس شجرةً واحدةً فقط كفن البونساي.

بدأ استنساخ اليابانيين لهذا الفن الصيني في القرن الـ6 الميلادي، عندما كان موظفو السفارة الإمبراطورية والطلاب اليابانيون يعودون من زيارتهم إلى الصين، حاملين معهم العديد من الأفكار والسلع الصينية. وشهدت تلك الفترة وما بعدها نقل الكثير من الفنون والأفكار من مختلف أنحاء الصين إلى اليابان.

قبل آلاف السنين، تم تشكيل أوعية "بين" في الصين لأغراض دينية، حيث تم وضع العناصر الأساسية للحياة وفق المعتقدات الصينية: الماء والنار والخشب والمعادن والأرض، بشكلٍ مصغرٍ داخل هذه الأوعية.

وكان يُعتقد أنه كلما كانت المجسمات أصغر، كانت القدسية الدينية أكبر. واستخدم الحرفيون الخيوط والحبال عند تشكيل الأشجار الصغيرة والغابات، وتطورت الأشكال والمحتويات الموضوعة في الطبق الصيني على مر القرون، وتبعاً للمنطقة التي يمارس فيها فن "بينجنغ" أو "زراعة الأطباق". ومع انتقالها إلى اليابان كهدايا دينية، بدأت تتخذ أشكالاً أخرى اقتصرت في الغالب على شجرةٍ واحدةٍ مصغرة في وعاء.

استمرت هذه الحرفة بالاقتصار على فئة معينة، هي الفئة الدينية، حتى بدايات القرن الـ18، حيث بدأت البونساي تتحول إلى هوايةٍ وشكلٍ فنيٍ مشهور بين العامة، وبدأت شعبيتها تنمو خصوصاً بعدما شجع الإمبراطور "ميجي" على الاهتمام بها، ما وسع أهميتها بين موظفي حكومته. وفي أوائل القرن الـ19، اجتمع علماء الفنون الصينية اليابانيون لمناقشة الأساليب الحديثة في فن الأشجار المصغرة.

وخلال عشرات السنين، طور محترفو البونساي العديد من الأدوات والتقنيات في تشكيل الأشجار المصغرة، واستخدموا الأسلاك النحاسية في ثني وتحديد شكل الأغصان، وبدأت حرفة البونساي تأخذ حيزاً كبيراً بين الحرف التقليدية اليابانية، وأخذت شهرتها تتوسع بسرعة.

وبعد الحرب العالمية الثانية، انتشرت العديد من التقاليد والحرف اليابانية في العالم، كانت البونساي أحدها، ما ساعد في زيادة عدد معارض هذا الفن داخل اليابان وخارجها.

واليوم، بعد وصول البونساي إلى العالمية، توجد آلاف الكتب عن هذا الفن وبعشرات اللغات، بالإضافة إلى مواقع الإنترنت المتخصصة ومنتديات المناقشة والمدونات، وعشرات الاتحادات والروابط في جميع أنحاء العالم.