بخصوص قوارض الليل والنهار والطاعون الذي لا شفاء منه!

تتناوب قوارض الليل والنهار على تربية الذائقة بجرعات عالية من الانحطاط في ظل فوضى عمومية يصعب إعادة ضبطها مجدّداً.

  • انتصار الموت، بيتر بروغل (1562 - 1563)
    انتصار الموت، بيتر بروغل (1562 - 1563)

على الأرجح، حدث الاشتباك مع قوارض الليل والنهار بتأثير 3 علامات على الأقل، صادفتني في يومٍ واحد: جرذ هارب من أحد الأقبية لمحته صباحاً من سور سطح البناية مهرولاً نحو حاوية القمامة في ناصية الشارع قبل أن يختفي عن نظري تماماً. ثمّ سأصطدم بعنوان كتاب خلال تجوالي في أحد المواقع الإلكترونية المتخصّصة بالكتب: "الجرذ: التاريخ الطبيعي والثقافي"! 

عموماً لا تستهويني مثل هذه العناوين، لكن جوناثان بيرت مؤلف هذا الكتاب استدرجني إلى قراءة فقرات من كتابه، ليس فيما يخصّ تاريخ الجرذان فحسب، وإنما بما يتعلّق بحياة القوارض والطاعون الأسود الذي سببته الجرذان عن طريق السفن التجارية الذاهبة من الصين خلال القرون الوسطى نحو الإمبراطورية البيزنطية، الأمر الذي أدّى إلى هلاك ملايين البشر، أو ما يعادل 10 في المئة من سكّان الكوكب حينذاك. وخلال القرون اللاحقة أودى الطاعون الأسود بنصف سكان العالم. 

هكذا نبّه ابن سينا، في أبحاثه بشأن الطاعون، لإحدى العلامات المميزة لظهوره، و"يتعلق الأمر بخروج الفئران من جحورها السفلية إلى سطح الأرض وموتها". كان التفسير آنذاك هو أن الحيوانات، وخصوصاً القوارض، تدرك خطر "الميزم" (النتن الصاعد). وفي رسالة بشأن الطاعون كتبها توماس لودج، يشير إلى أنه "عندما كانت الجرذان والمخلوقات الأخرى تهجر جحورها فإن ذلك كان نذيراً بفساد تلك الجحور". 

على السطح نفسه ستنبعث ليلاً أصوات المغنّين من ترّاسات الفنادق والمطاعم في توقيتٍ واحد، لم أجد تشبيهاً لهؤلاء سوى أنهم نوع من القوارض التي تنتسب إلى سلالات الطاعون الأسود بصفتها جائحة أفرزتها سنوات الحرب وفوضى الكوكب. 

لم ينتقل هذا الطاعون عبر السفن التجارية، التي كانت تمخر البحار في القرون الوسطى، وإنما بسفينة ذات منشأ محلّي صرف، ففوضى القوانين أتاحت فرصاً لا تحصى لهذه الكائنات بأن تتسلّل إلى الواجهات والمنابر ومواقع التواصل بجرعات عالية من الأذى النفسي، كنوع من القوارض البشرية التي تحطّم الأعصاب وتنشر الطاعون بخلائط غير متجانسة، تبدأ بأغنية وطنية كفاتورة مستحقة لزوم متطلبات المرحلة الحرجة، ثم تعقبها أغنية مستعارة من أرشيف سارية السوّاس، ثم عتابا وفراقيات عراقية. 

كما لن يتردّد هؤلاء المغنّون، الذين خرجوا من جحور الملاهي الليلية إلى الفنادق السياحية، على مزج العتابا الفجّة بأغاني أم كلثوم والقدود الحلبية! 

في المقلب الآخر انتشرت قوارض أخرى احتلت المنابر الأدبية والمراكز الثقافيةـ وأفرع "اتحاد الكتّاب العرب" بــ "قراديات" فصيحة وعامية. شعراء وشاعرات بالجملة هاجروا من مواقع التواصل الاجتماعي إلى الميكرفونات، فالشاعرة التي حصدت ألف لايك ولايك لإحدى مقطوعاتها الركيكة في صفحتها على "الفيسبوك"، نقلت عتادها الكامل بما فيه مصّاصة المتّة إلى المنصّة نفسها التي شهدت قصائد الشعراء الكبار ذات زمنٍ بعيد. 

كما أن معلّم المدرسة الذي يجيد العروض كونها جزءاً من فروض المنهج الدراسي لتلاميذ البكالوريا الأدبي، وجد ضالته في هذه اللحظة المشتعلة بإطلاق لهيب ناره الملتاعة كعاشق مدنّف إلى جمهورٍ آخر بصرف النظر عن نعاس مستمعي الصفوف الخلفيّة، سواء كان يرمي بدلوه في البحر الطويل أم يستنجد ببحر الخبب. 

أمام هذه الحشود من شعراء الرز بحليب أو عرق الريّان المغشوش، لا فرق، اضطرّ مسؤولو "المؤسسات الإبداعية" إلى تخصيص القاعات بثلاث ورديات عمل لاستيعاب هذه الطوابير تحت مسميات "أصبوحة شعرية" لقوارض المبتدئين ووحيدات الخليّة، و"ظهيرة شعرية" لمصابي الحرب، و"أمسية شعرية" لشعراء الصف الأول من الضبّاط المتقاعدين وأشباههم. 

هكذا تتناوب قوارض الليل والنهار على تربية الذائقة بجرعات عالية من الانحطاط في ظل فوضى عمومية يصعب إعادة ضبطها مجدّداً. ذلك بأن الأمر يحتاج إلى أبحاث استقصائية لإحصاء عدد شعراء العشرية السوداء وشاعراتها، وعدد المغنيين والمغنّيات، وعدد الطبّالين وفرق الدبكة وحاملي السيف والترس في الأعراس، ونقّاد "الماسنجر" الذين ينصبون فخاخهم لأغرار الصنعة. 

قوارض تلتهم خشب المقاعد والميكرفونات وأسلاك الكهرباء وستائر النوافذ ومقابض الأبواب وألوان علم البلاد، والحال أن هذه الجائحة في اطّراد، ولا مصل فعّال لمقاومتها واجتثاثها.

اليوم، لا نحتاج إلى تأويل "طاعون" ألبير كامو، على نحوٍ آخر، فالعبث الذي أصاب الكوكب ينطوي على وباء غير قابل للشفاء.