المؤرخ اليهودي رابكن يحاكم الصهيونية و"إسرائيل"
يؤكد المؤلف أن "إسرائيل" ما زالت مستمرة بالوفاء لمبادئها الصهيونية المؤسّسة ففي العام 2018، تمّت المصادقة على قانون يقول: الدولة بدلاً من أن تكون لمواطنيها، هي مملوكة لليهود بقطع النظر عن أماكن إقامتهم.
تتأتّى أهمية هذا الكتاب في مرحلة الحرب الإسرائيلية الوحشية المتواصلة على غزة على خلفية معركة "طوفان الأقصى" التي شنّتها حركة حماس الفلسطينية بتاريخ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لكونها أثارت تساؤلات كبرى في الغرب والشرق معاً حول طبيعة ومعنى هذا الكيان الذي لم يستطع طيلة عقود عديدة فرض وجوده على محيطه، سواء بالقوّة أو باتفاقيات "السلام" المفروضة، ناهيك بالصراعات الداخلية في الكيان حول طريقة إدارته ومستقبله القاتم.
ويبدو أغلب الخلاصات السياسية في الكتاب على قدرٍ كبيرٍ من الانسجام مع خلاصات تنتمي إلى نقد ظاهرة التوسّع الكولونيالي الغربي والرؤى الأيديولوجية والسياسية لحركات التحرّر القومي في المستعمرات التي خبت حدّتها في العقود القليلة الماضية في ظل الموجة الصاعدة لليمين القومي والديني في العالم على جناح العولمة والليبرالية الجديدة.
"الدولة الإسرائيلية"، في مرافعة الكاتب، هي جزء من ظاهرة التوسّع الكولونيالي الغربي، والصهيونية جزء من ظاهرة القوميات الرومانسية الأوروبية، ومشروعها في فلسطين استعمار أوروبي في الجوهر، وحلّ الصراع في فلسطين وعليها لا يتأتّى دون مشروع لنزع الاستعمار في هذا الجزء من آسيا الغربية، ناهيك بالإقرار بحقيقة أن "الدولة الإسرائيلية" لا تمثّل تتويجاً للتاريخ اليهودي، بالضرورة، وقد أصبحت، كما يُعبّر المؤلّف، مصدر تهديد، لا للفلسطينيين وجيرانهم فحسب، ولكن لسلام العالم أيضاً.
يستمدّ هذا الكتاب (في فصوله التسعة) أهميّته من كونه يمثّل مرافعة نقديّة ضدّ الصهيونية و"إسرائيل" من وجهة نظر دينية يهودية. هذا الأمر يحتاج إلى توضيح، لا لأن هذا النوع من النقد يكاد يكون غير معروف لغير المختصّين من قرّاء العربية فحسب، ولكن لأن تعبيرات من نوع اليهود واليهودية غالباً ما تكون ضحيّة صور نمطيّة خاطئة أيضاً، فلا اليهود يمثّلون جماعة واحدة وموحّدة بالمعنى الإثني والأيديولوجي والديني، ولا اليهودية ديانة تخلو من الانقسامات والخلافات اللاهوتية والفِرق المتنافسة، بحسب مُترجم الكتاب.
أما المؤلّف، فيتحدّث في المقدّمة التي أعدّها للطبعة العربية من كتابه، وفي مرحلة العدوان الوحشي الذي شنّته "إسرائيل" على قطاع غزة في أيار/ مايو 2021، والذي سمّته "حارس الأسوار" (معركة سيف القدس)، عن أن "إسرائيل" ما زالت مستمرة في توليد العنف بالبقاء وفيّة لمبادئها الصهيونية المؤسّسة، بل إن هذه المبادئ تتأكّد بقوّة أكبر. ففي العام 2018، تمّت المصادقة على قانون يُضفي الصفة الرسمية على واقع معروف للعرب وغير العرب في "إسرائيل": الدولة بدلاً من أن تكون لمواطنيها مملوكة لليهود بقطع النظر عن أماكن إقامتهم.
ويتابع: "لقد وصل جيل جديد من الساسة إلى سدّة الحكم، فيما إسرائيل، وهي مجتمع كولونيالي استيطاني، تواصل جنوحها الطبيعي نحو اليمين. كان ساسة يمتازون بذلاقة اللسان، من أمثال أبا إيبان وشمعون بيريز، ماهرين في تمويه الأبعاد غير الجذّابة للاستعمار الصهيوني لفلسطين. كانوا يتكلّمون عن السلام فيما إسرائيل تفرض إرادتها وتعزّز جيشها، ولكن الجيل الجديد لا يخجل من نزعته القومية المتشددة".
وفي السنوات القليلة الماضية، أصبحت "إسرائيل" كنظام للفصل العنصري معروفة إلى حد كبير في العالم. العديد من الناس يدينونها. ويعتقد هؤلاء أن إشعارها بالخجل ومقاطعة الفواكه الإسرائيلية قد يُرغمانها ذات يوم على تغيير سياساتها والتخلّي عن طبيعتها التمييزية.
ويستشهدون في هذا الصدد بسابقة جنوب أفريقيا، ولكن العالم مختلف هذه الأيام؛ ففي زمن الحرب الباردة، استنكفت القوى الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، أن تبدو مؤيّدة للاضطهاد العِرقي. وعلاوة عليه، كانت تخشى "سقوط أفريقيا في قبضة روسيا"، وكانت القوات الكوبيّة التي حاربت جيش جنوب أفريقيا، بدعم من الاتحاد السوفياتي، جزءاً من صراع القوى الكبرى الذي وضع نهاية لنظام الأبارتهايد الرسمي في جنوب أفريقيا. ولا وجود لمثل هذه الشروط، في عالم اليوم، لإعادة تمثيل سيناريو التحوّل الجنوب أفريقي في "إسرائيل"/ فلسطين.
ومع ذلك، في التغيّرات على صعيد العالم ما يؤثّر في مستقبل "الأرض المقدّسة"؛ فقد يبشّر ظهور أصوات تنتقد "إسرائيل" في الكونغرس الأميركي والأكاديميا بنهاية "العلاقة الخاصة" معها. ويمثّل التعاون المتنامي بين روسيا والصين تحدياً للهيمنة الأميركية، ويُحتمل أن يستقطب إلى مداره دولاً أخرى كثيرة تزعجها "إملاءات واشنطن عمّا يجوز ولا يجوز".
تنظر واشنطن إلى بلدان "متمرّدة" كهذه، وبالتالي إلى معظم دول العالم، كعدو. والصحيح أن "إسرائيل" استعدّت لاحتمال كهذا، وعزّزت علاقاتها بروسيا والصين، ولكن العلاقات الدولية مليئة بالمفاجآت.
وفي هذا السياق، يلاحظ المؤلّف أن "دولة إسرائيل" تؤدي، بحضورٍ يصعب تجاهله في المشهد السياسي الدولي، دوراً لا يتناسب مع حجمها بكلّ المقاييس، وهي تبقى، رغم مكانتها الاقتصادية والسياسية العالية، دولة غير مفهومة في حالات كثيرة. والصحيح أن أصولها وشرعيتها، وكذلك الأيديولوجيا التي أُنشِئت على أساسها، تطرح أسئلة عميقة، بما فيها العقلانية السياسية.
ويضيف: "انبثقت الأيديولوجيا المؤسّسة لدولة إسرائيل من علاقة معقّدة مع ميراث التنوير. فمن ناحية، كانت الصهيونية مستحيلة دون انعتاق يهود أوروبا، استناداً إلى مبدأ المساواة الأكيد في المثال التنويري، ولكنها قطعت مع التنوير باعتناق الطبيعة الأبدية للعداء للسامية كمسلّمة وتأكيد الحصرية الإثنية من ناحية ثانية. وعلاوة عليه، نجم الكثير من التحديات التي تُجابه إسرائيل من العلاقة المضطربة بين السياسة والدين. ويمكن للدروس التي يطرحها التاريخ القصير نسبياً لهذه الدولة أن تساعدنا في تقويم فهمنا لعالم اليوم بشكل أفضل، بقطع النظر عن طبيعة المسافة التي تفصلنا عن آسيا الغربية".
إنّ من خصوصيات "إسرائيل" البادية للعيان ممانعة قادة الحركة الصهيونية و"الدولة" الصهيونية لاحقاً في تعريف حدودها: تعود هذه الخاصيّة إلى بدايات المشروع الصهيوني. وقد ساعدتها في التفاوض على وجود الدولة مع القوى الكبرى في ذلك الوقت.
أثبت هذا التكتيك فعاليته، وأدّى في خطوة أحاديّة الجانب إلى إعلان الاستقلال في أيار/ مايو 1948، دون أن يشمل تعريفاً للحدود. لذا، التوسّع الإقليمي سمة بارزة في تاريخ "إسرائيل". وبدلاً من وجود حدود جيّدة التعريف، نجد المُعادل الصهيوني لنموذج توسيع المنطقة الحدودية بشكل مستمر على الطريقة الأميركية.
وتُشارك في إدارة شؤون "الدولة"، بصفة رسمية، هيئات عابرة للقوميات تُمارس نشاطها "باسم الشعب اليهودي"، كالصندوق القومي اليهودي الذي يحظى بمكانة جمعية غير ربحية في بلدان عديدة، بما فيها كندا. وبهذه الطريقة، احتلّت "إسرائيل" واستعمرت منذ تأسيسها مساحات متزايدة من الأرض دون السعي مطلقاً إلى تعريف حدودها النهائية.
وقد تجلّى استعمار ما يزيد على نصف مليون من "المواطنين الإسرائيليين" للمناطق المحتلة في العام 1967 بطريقة الفصل التام بين مجتمعَين على أرضٍ تقطنها أغلبية فلسطينية. وهؤلاء، رغم عيشهم في النطاق الإداري والاقتصادي الإسرائيليين، ليسوا مواطنين.
واستطراداً، يفحص الكتاب أصول "دولة إسرائيل" وطبيعتها، وكذلك مكانها في التاريخ اليهودي والأوروبي من عدّة جوانب، ويعيد تذكيرنا بأن مؤسّسي الصهيونية نظروا إلى حركتهم كقطيعة تامّة مع التاريخ اليهودي، كما كان روّاد استعمار فلسطين فخورين لأنهم حقّقوا "الثورة الصهيونية".
والمفارقة، إذا كانت مكانة أرض "إسرائيل" مركزية فعلاً في التراث اليهودي، إلاّ أن المسيحيين هم الذين سعوا لجمع اليهود في الأرض المقدّسة تمهيداً للعودة الثانية للمسيح. هذا التواطؤ الحميم والعميق مع المسيحية يُفسّر ما تحظى به "دولة إسرائيل" من دعم قوي في الولايات المتحدة، حيث الجماعات الإنجيلية نافذة وكثيرة العدد.
والصحيح أن الدافع المسيحي لعودة اليهود إلى أرض الميعاد أعطى زخماً قوياً لأمل اليهودية الديني بالعودة الذي اتّسم تقليدياً بحساسية وغاية نهائية مختلفتين أشد الاختلاف، فالتراث الديني اليهودي ينص على وجوب أن تكون العودة جزءاً من مشروع خلاصي لا عبر مبادرة بشرية بالهجرة إلى أرض الميعاد.
ويسْهل علينا كثيراً، بهذا المعنى، أن نفهم لماذا رُفض المشروع الصهيوني الذي تجلّت فيه أفكار مسيحية من جانب أغلبية اليهود الساحقة في مطلع القرن العشرين. لم يكن ثمّة مكان للتراث اليهودي في البرنامج الصهيوني، الذي لم ينشأ بين البروتستانت فحسب، بل واعتنقه أشخاص من أصول يهودية كانوا ملاحدة ولاأدريّين أيضاً.
ويعطي الكتاب أهمية خاصة لهذا الرفض الذي يبدو متناقضاً هذه الأيام التي غالباً ما تُشوّه وتختلط فيها مصالح اليهود والصهاينة واليهودية والصهيونية والتقاليد الألفية اليهودية وقومية القرن العشرين اليهودية ومصالح الدولة الإسرائيلية والمواطنين اليهود في بلدان أخرى. من الضروري لفهم "إسرائيل" التمييز بين الدين والإثنيّة والقومية، لأن الأيديولوجيا الصهيونية، على وجه الخصوص، جعلت من هذه الأشياء خليطاً واحداً.
وبناء عليه، يستنتج المؤلّف أنه لا يمكن اختزال الصهيونية في أنها مجرّد ردّ فعل اليهود على الاضطهاد والتهديدات والمواقف اللاسامية. وقد أثبت الصهاينة براعة في الاستفادة من العداء للسامية، وأحياناً حتى بالتعاون مع معتنقيها. هذه الصفحة المُقلقة من التاريخ الصهيوني غير معروفة على نطاق واسع للجمهور العريض، كما يُعبّر المؤلّف.
وتبقى، أكثر من شرعية "دولة إسرائيل" التي ما زالت موضع نزاع، مسألة الهوية اليهودية حجر العثرة الرئيس؛ فقد نجحت الصهيونية في خلق عبري جديد، يتكلّم لغة جديدة هي العبرية الحديثة، ولكن محاولة تطعيم الهوية اليهودية التقليدية والتاريخية بهذه الهوية الجديدة لم تنجح تماماً، فقد تمكّنت الجماعات اليهودية في أرجاء العالم من حماية خصائص محدّدة ومعيّنة. ويشمل تعبير "الشعب اليهودي"، كالعادة، جماعات مختلفة تسترشد بمصالح تختلف، إن لم نقل تتعارض، مع مصالح "دولة إسرائيل".
كذلك، لا يتّفق اليهود الإسرائيليون فيما بينهم حول طبيعة "الدولة". وقد رفض العديد منهم المشروع الصهيوني من البداية. وثمّة رؤية في موضوع "الدولة" لدى الأوساط الحريدية شديدة الاختلاف عن رؤية مواطنيهم المفترضين من مُعتنقي اليهودية القومية، كما تبقى الغالبية العلمانية منقسمة. وما يصون الوحدة الهشّة للغالبية غير العربية هو الخوف: ذهنيّة الحصار التي غالباً ما تتّخذ شكل قومية الضحيّة المتمركزة على ذاتها للحيلولة دون تكرار "الإبادة النازيّة".
وفي الشرق الأوسط، لا يُقيم الجيش الإسرائيلي وزناً للحدود (كما نشهد حالياً في سياق الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" الكبرى)؛ يضرب أهدافاً تقع في بلدان مجاورة، وتفلت "إسرائيل" من العقاب.
بهذه الطريقة، وضعت "إسرائيل" نفسها فوق ضوابط القانون الدولي، وبالأحرى بما يتجاوز الضوابط الأخلاقية في التراث اليهودي التي رفضها مؤسّسو الدولة صراحة وبنوعٍ من الازدراء. وما زالت، رغم اعتناقها الحداثة، مُقيّدة بالأيديولوجيا الصهيونية التي تضمن، بالرغم من تقدّمها في السن، أن تبقى تجربة حدودية "جريئة" يعمّها الصراع داخل الحدود وخارجها، كما يختم المؤلّف.