الفيلسوف الثوري فانون "يعود" إلى غزة
لا تزال كتابات فرانتز فانون حول العرق والثورة وسيكولوجية السلطة تشكّل الحركات الراديكالية في جميع أنحاء العالم، فقد كان فانون نشيطاً فكرياً في حقبة ما بعد الاستعمار.
صدر هذا العام كتاب: "عيادة المتمرّدين: الحياة الثورية لفرانتز فانون" للكاتب الأميركي آدم شاتز . وهذا الإنجاز يذكّرنا بكتاب "إدوارد سعيد.. أماكن الفكر" لتيموثي برينان الذي عُدّ سيرة فكرية له.
الكتاب يروي سيرة فانون الثورية، والتي تحمل كلّ التقلّبات بأسلوب تشويقي من حقبة الحرب الباردة. ففانون - بحسب المؤلف - منذ نشر عمله المبدع "المعذّبون في الأرض" في عام 1961، أصبح مثالياً من قبل أجيال من الناشطين في الجنوب العالمي وخارجه. بالنسبة لهم، فإن المارتينيكي الأسود (جزر المارتينيك) والفرنسي الذي كرّس نفسه لاستقلال الجزائر هو نبي الثورة الشجاع الذي لا هوادة فيه.
وبالتأكيد فإن هذا الكتاب هو خير دليل على تجربة فانون الثورية لتحوّله من طالب طبّ إلى رمز عالمي للثورة المناهضة للاستعمار. ففي "عيادة المتمرّدين: الحياة الثورية لفرانتز فانون" يقدّم شاتز إعادة بناء دراماتيكية لحياة فانون غير العادية - ودليلاً للكتب التي تكمن وراء الجهود الأكثر حيوية اليوم لتحدّي التفوّق الأبيض والرأسمالية العنصرية.
كان فانون نشيطاً فكرياً في حقبة ما بعد الاستعمار، ولا تزال كتاباته حول العرق والثورة وسيكولوجية السلطة تشكّل الحركات الراديكالية في جميع أنحاء العالم. لكن كما وصفته مجلة "فورين أفيرز": "يُعدّ فانون رمزاً عالمياً مناهضاً للاستعمار، لكنه لم يتمكّن أبداً من تجسيد الثورة التي دعمها بشكل حقيقي".
يرى شاتز أنّ مؤلّفات فانون: "البشرة السوداء والأقنعة البيضاء" و"المعذّبون في الأرض" و"الثورة الجزائرية" و"لأجل الثورة الأفريقية" تشكّل اليوم نصوصاً أساسية للخيال الأسود والراديكالي العالمي، يمكن مقارنتها بمقالات إدوارد سعيد وإقبال أحمد وعلي المزروعي... والشاعر والروائي الأفرو أميركي جيمس بالدوين في تأثيرها.
ولهذا سلّطت الاحتجاجات الأخيرة في أميركا وأوروبا على الحرب بين "إسرائيل" وحماس الضوء على هالة فانون. فلا تزال كتاباته حول العرق والثورة وسيكولوجية السلطة تشكّل الحركات الراديكالية في جميع أنحاء العالم. فاليوم يتردّد صدى أفكاره في كلّ التظاهرات داخل الجامعات الأميركية والبريطانية والفرنسية وفي كلّ الغرب، كما تردّد صداها حول القوة الإمبريالية عام 2020 إبان مقتل الأميركي من أصل أفريقي جورج فلويد على يد أحد ضباط الشرطة في الولايات المتحدة عام 2020.
ويؤكد شاتز لصحيفة نيويورك تايمز أنه "عندما كتبتُ هذا الكتاب "عيادة المتمرّدين: الحياة الثورية لفرانتز فانون"، اعتقدت أنه ستتمّ قراءته من خلال منظور حياة السود ..."، لأن "أعمال فرانتز فانون عادت إلى الظهور من جديد منذ مقتل جورج فلويد". قال شاتز بشيء من الاستسلام: "والآن يبدو أن الكتاب سوف يُقرأ من منظور إسرائيل وغزة".
وكان بانكاج ميشرا أوضح في مجلة "نيويوركر" الأميركية في مقال له في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2021 بعد مقتل جورج فلويد، صلة فانون باللحظة: "إن أحد مقاييس استبصار فانون - والوتيرة البطيئة للتقدّم - هو أن كتاب "المعذبون في الأرض" يظلّ، في عامه الستين، مرشداً حيوياً لكلّ من العالمين: تماسك التفوّق الأبيض في الغرب والفشل الأخلاقي والفكري لـ "الدول المظلمة مما عزّز طيف جورج فلويد صورة فانون باعتباره قديساً فكرياً لحركة العدالة العرقية".
ولفانون علاقة عضوية مع حركات التحرّر والدول التي تحرّرت من نير الاستعمار. فهو مُنظّر مشهور بكتاباته الحماسية عن الثورة والآثار النفسية لعدم المساواة العرقية والاستعمار. وكانت كتاباته مصدر إلهام للناشطين في جبهة التحرير الوطني الجزائرية، والفهود السود، و"حركة حياة السود مهمة".
وقد تمّ الترويج لكتاباته من قبل أهمّ المثقفين في العالم من "مالكولم إكس" إلى "جان بول سارتر" الذي انبهر به مع الكاتبة الفرنسية "سيمون دي بوفوار" عندما التقيا فانون في روما عام 1961. وقالت دي بوفوار بحماس: "عندما أمسكت بيده المحمومة، شعرت أنني ألمس العاطفة المشتعلة. كثيراً ما أُسيء فهم نظريات فانون حول العنف. وقد أشادت بقدرته على إيقاظ الوعي ولكنه حذرت أيضاً من الصدمة النفسية التي يمكن أن تسبّبها أفكاره".
ولهذا بادر أدم شاتز محرّر الولايات المتحدة لمجلة لندن ريفيو أوف بوكس، وكاتب مساهم في مجلة نيويورك تايمز ومجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس، ومجلة نيويوركر لتأليف كتاب "عيادة المتمردين: الحياة الثورية لفرانتز فانون"، وهو عبارة عن سيرة ثورية جديدة للطبيب النفسي والثوري فرانتز فانون. "فأعماله تستحقّ إعادة النظر فيها لأنها لا تزال ذات أهمية اليوم كما كانت قبل 60 عاماً" كما يقول شاتز.
يطلق آدم شاتز على فانون "فيلسوف الحرية" ويقول إن قراءة كتاب"المعذبون في الأرض" اليوم تجعلك تُذهل من بصيرة تحذيرات فانون حول العقبات التي تعترض حرية ما بعد الاستعمار: الفساد، والحكم الاستبدادي، والقومية المعادية للأجانب، والضرر الذي يخلّفه العنف الاستعماري، واستمرار التخلّف والجوع. ففي الواقع، لا يزال صدى عمل فانون يتردّد في عالم جديد".
ويبحث شاتز في كيفية تطوّر فانون من نشر كتابه "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" في عام 1952، وهو استكشافه للتجربة "المعيشة" للسود، إلى "المعذبون في الأرض"، وهو "وصيته الأخيرة"، المكتوبة بشكل محموم والذي يذكرنا بكتاب "استمع أيها الأبيض! (1957) للروائي الأميركي الأسود ريتشارد رايت - وفي المخاض الأخير لحرب الجزائر من أجل الاستقلال عن فرنسا؟
ويعتقد شاتز أن أعمال فانون لا يزال يتردّد صداها لدى "المعذّبين في الأرض" العالميين الجدد - اللاجئين والمهاجرين السياسيين والاقتصاديين، والمهمّشين والفقراء بشكل دائم، وحتى السجناء.
ويقول اَدم شاتز: ومثل تشي غيفارا وباتريس لومومبا، أصبح فانون أسطورة بقدر ما أصبح شخصية تاريخية. ويلفت إلى أن البحث في شخصية فانون معقّد، فهو من جهة الشعوب الطوّاقة للتحرّر يحظى باحترام شديد، ومن جهة القوى الأمبريالية فهو يحظى بالعدواة والإهانة.
فهدف شاتز، الذي قدّم تقارير من الجزائر وكتب على نطاق واسع عن الثقافة والسياسة الفرنسية والشرق أوسطية، هو استيعاب الأبعاد العديدة لحياة فانون المشحونة، ومفارقاتها وتوتراتها. ويوضح "فانون هو شخص يرتدي عدداً من الأقنعة المختلفة... إنه فرنسي، وهو أسود، وهو جزائري، وهو من غرب الهند، وهو أفريقي. وأعتقد أن العديد من القراءات تحاول تجميده في دور معيّن. أردت أن أراه بطريقة أكثر تنوّعاً".
ويوضح اَدم شاتز أن فكر فانون يجمع بين الحركات الفكرية في ذلك الوقت – من الزنجية إلى الوجودية، وكذلك الأفكار حول علم النفس السريري والاستعمار – مما يمنحها صوتاً بأسلوب درامي: مرتفع، يشبه الخطبة، والشعر.
ويقول: بينما كان فانون متنبّهاً لـ "الأمراض الانتقامية" للمستعمرين وغضبهم، فإنه لم يدعُ قطّ إلى مذبحة المدنيين.
بنى شاتز منهجه "التاريخي المحكم" من قراءات قريبة لأعمال فانون، بالإضافة إلى مقابلات مع أولئك الذين عرفوه بشكل مباشر. فكانت السكرتيرة الشخصية لفانون، ماري جين مانويلان، واحدة من "المخبرين الرئيسيين" لكاتب السيرة الذاتية، "حيث تقدّم وجهة نظر غالباً ما يتمّ إهمالها". ويقول شاتز إنه كان مهتماً بشكل خاص بالشاهدات الإناث لتوسيع صورته لفانون، الذي غالباً ما يُنظر إليه من خلال العدسة "الذكورية" لـ "السلطة والعنف والبنادق". توفيت جوزي، أرملة فانون، منتحرة في عام 1989. قال شاتز: "أصبحت ماري جين وسيلة للتفكير في فانون الخاص، وغروره وتناقضاته، ونزواته ودفئه. شعرت أنه من خلالها أستطيع تقديم صورة أكثر إنسانية".
ويصف شخصية فانون بقوله: إنه "روح فائقة الحساسية"، يسهل جرحه، وإصدار الأحكام، والقتال. وهو أيضاً في حركة مستمرة، مضطرب، ويسرع بغضب وهو يملي كتبه على ماري جين، ويقارن شاتز بين شخصية فانون وشخصية الموسيقي الأسود تشارلي باركر بقوله: "إنه مثل تشارلي باركر في التمرّد ضدّ الاستعمار". "إنه يضغط كل شيء في هذا الوقت القصير جداً كما لو كان يعلم أنه سيموت." فقد توفي وعمره 36 عاماً، فقد كانت حياة المفكّر الراديكالي قصيرة ومضطربة.
وللتوضيح فإن تشارلي بباركر توفي وعمره 34 عاماً. وهنا لا بدّ من أن نذكر دراسة أجراها الطبيب بول آدامز ونشرها في المجلة الكندية لأمراض الجهاز الهضمي، درس فيها عمر الوفاة لنحو 80 فناناً يعملون في موسيقى الجاز. وأكّد البحث بأنّ "أسلوب حياتهم الفوضويّ يقصّر من أعمارهم".
ويبيّن شاتز، الذي يقوم بالتدريس في برنامج سجن بارد في شمال ولاية نيويورك، أنّ السجناء الذين يعمل معهم ربطوا على الفور فكرة فانون عن "النظرة البيضاء" بتجربتهم مع "النظرة المسجونة".
ويعتقد شاتز "حقّاً أن فانون هو محلّل الوضع الحديث – مثل سيموند فرويد، ومثل الطبيب النفسي البريطاني آر دي لاينج، ومثل الطبيب النفسي البريطاني أوليفر ساكس". ويعتقد المؤلف أن "الخيط المشترك" في حياته وعمله هو مفهوم "الاغتراب" الفردي، الذي لا ينفصل عن النضال الأكبر من أجل التحرّر. ويخلص شاتز إلى القول: "أعتقد أن هذا هو الخيط الثابت الذي يمرّ عبر جميع كتاباته" ."إنه فيلسوف الحرية".
إن تفكير فانون حول الصحة العقلية للمضطهدين والقوة المحرّرة للعنف - "العلاج بالصدمة للعقل المستعمَر" - اعتنقته "حركة الفهود السود" في الولايات المتحدة، التي ساعدت في إحياء فانون في أواخر الستينيات وقد أطلق أحد قادتها الأساسيين إلدريدج كليفر على كتاب "المعذّبون في الأرض" اسم "الكتاب المقدّس الأسود".
لقد شقّت كتب فانون طريقها إلى القواعد الأكاديمية، بدءاً من نظرية ما بعد الاستعمار وحتى الدراسات الثقافية، مما أثّر على العمل في مجال إنهاء الاستعمار، ومناهضة العنصرية، والسياسة الأفريقية. ولهذا ستبقى "حياة فانون الثورية" - كمفكّر وكاتب ورجل عمل ملتزم - نموذجاً يُحتذى لكل حركات التحرّر وبالأخص منها الأفريقية.
توفي فانون عام 1961 بعد معاناة مع المرض في مستشفى بولاية ماريلاند في الولايات المتحدة الأميركية.