الغرب وانهيار المصفوفة الدينية البروتستانتية؟
يبدو من المفارقة التاريخية أن "تختفي المصفوفة البروتستانتية في ذروة القوة الأميركية"، لأسباب ليس أقلها افتقاد عقلانية وانضباط وأخلاقية مصفوفة الغرب الدينية وطاقته الصراعية بمواجهة العالم!
في سياق البحث في عوامل أفول الغرب ومركز قوته في الولايات المتحدة، رصد بعض المؤرخين، خاصة الفرنسي إيمانويل تود، انهيار المصفوفة الدينية الغربية، البروتستانتية تحديداً. وكانت وراء الصعود الإنجلو - أميركي، وسائر العالم البروتستانتي. لذلك يعتبر تود أن تبخر أخلاق البروتستانتية وآليات عملها التاريخية قد تسبب في اختفاء قوة الدفع البروتستانتي لدى الغرب وخصوصيته، إذ أن المتغير المركزي هو الديناميات الدينية.
وقد شكل العالَم البروتستانتي (أميركا، بريطانيا، ألمانيا، الدول الاسكندنافية) محور الرأسمالية الاقتصادية والليبرالية الفردية، نتيجة عوامل ثقافية أساسية، وأخلاقيات العمل، والانضباط المهني والمسلكيات الصارمة في الالتزام بالعمل والإنتاج، وضبط الاستهلاك وإعادة استثمار الفوائض.
بيد أن هذه القيم التي استمرت مدة طويلة في شكل قوالب ثقافية رغم تراجع الممارسة الدينية، انحسرت اليوم بما يفسر تقهقرَ الإنتاج الصناعي في هذه البلدان، وانهيار النظم التعليمية فيها، ودمار الأسرة، وتخلخل آليات الضبط والانضباط الاجتماعي المرتبطة بها. فكيف ارتبطت البروتستانتية بقوة الغرب وصعوده؟ وكيف يؤدّي انهيارها إلى تراجعه وأفوله؟
محرك المشروع الاستيطاني
كانت البروتستانتية المحرك الرئيس للمشروع الاستيطاني في العالم الجديد. فهذه المجتمعات الاستيطانية هاجرت واستوطنت المستعمرات بفعل عوامل طاردة من اضطراب سياسي، واضطهاد ديني، وحروب دينية استمرت حتى معاهدة ويستفاليا (1648) التي أنهت حرب 30 عاماً، ومجاعات ضربت أوروبا، وترافق ذلك مع عصر الاكتشافات الجغرافية الأوروبية.
استعار الاستيطان الأوروبي ديباجاته من نصوص التوراة وسردياتها وأبطالها ورموزها ومُثُلِها وجغرافيتها. واستمد المهاجرون الأوروبيون البروتستانت رؤيتهم الكونية وسرديتهم الدينية والأخلاقية من نصوصها، وتماهوا تماماً مع الروح العبرية لقصصها، واعتبروا أنهم قد خرجوا مما يشبه الأسر الفرعوني لبني إسرائيل (في مصر التوراتية) إلى "أرض الميعاد".
بل إن بعض المستوطنين الأوائل كتب عهداً على السفينة التي ذهبوا بها لأميركا الشمالية، يشبه عهد الإله "يهوه" لبني إسرائيل، وهاجروا لأنهم أرادوا تأسيس ما أسموه "إسرائيل الجديدة" في العالم الجديد. انطلقت أيديولوجية الاستيطان التي أسست فكرة "أميركا"، وهي الترجمة الانجليزية لفكرة "إسرائيل الأسطورية"، بقوة دفع بروتستانتية عاتية تقوم على: احتلال أرض الغير؛ واستبدال شعب بشعب؛ واستبدال تاريخ بتاريخ. وكل منها مشروع إبادة قائم بذاته.
وقد نشأ الدين المدني- دين الدولة الأميركية ومؤسساتها - عن أيديولوجية المستوطنين "البيوريتان" الأوائل، مكرساً فكرة أن يهوه "رب العهد القديم" هو المرجع الأعلى! وهذا يفسر شراسة الدولة الأميركية ومنظومتها القانونية وعنصريتها ونزوعها نحو السلطوية.
البروتستانتية والأبجدية
كذلك، فرضت البروتستانتية معرفة القراءة والكتابة على السكان الذين تسيطر عليهم، "لأنه يجب على جميع المؤمنين الوصول مباشرة إلى الكتاب المقدس. السكان المتعلمون قادرون على التنمية الاقتصادية والتقنية. لقد صاغ المذهب البروتستانتي، بالصدفة، قوة عاملة متفوقة وفعالة". وبهذا المعنى كانت ألمانيا "في قلب التنمية الغربية"، حتى لو بدأت الثورة الصناعية في إنجلترا.
المفارقة أن تود وجد أوجه تشابه بين التاريخ الثقافي لروسيا وتاريخ الغرب البروتستانتي: "إن ما هو مشترك بين البروتستانتية والشيوعية هو الهوس بالتعليم"؛ "لقد طورت الشيوعية التي تأسست في أوروبا الشرقية طبقات وسطى جديدة". إن صياغة تود الرئيسة لا جدال فيها: "كان العامل الحاسم في صعود الغرب هو ارتباط البروتستانتية بالأبجدية".
تقع البروتستانتية مرتين في قلب تاريخ الغرب: من خلال الدافع التعليمي والاقتصادي، مع خوف "المؤمنين" من السخط والعقاب الإلهي والسعي نحو الخلاص والحاجة للشعور بالاصطفاء الإلهي؛ مما يولّد أخلاقيات عمل منضبطة وأخلاقية جماعية قوية، ومن خلال فكرة أن البشر غير متساوين (عودة إلى عبء الرجل الأبيض).
الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية
يُعتبر عالم الاجتماع وأستاذ القانون والمفكر الألماني، ماكس فيبر، فيلسوف الرأسمالية و"نبيّها" بلا منازع. رصد فيبر الظاهرة الرأسمالية وتطورها في العالم البروتستانتي، وخاصة في الولايات المتحدة، ووجد ارتباطاً وثيقاً بين منظومة الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية.
تبنّت البروتستانية أخلاق الانضباط والالتزام بالعمل وخفض الاستهلاك وتعزيز الادخار وتأجيل المتعة؛ وهذا ما يسميه فيبر إجمالاً "التقوى الحضرية"، الضرورية لتكوين الرأسمال وإعادة استثمار عائد الإنتاج وتوسعه، وهذا بدوره وثيق الصلة بروح الرأسمالية المبكرة، خاصة في مجتمعات الاستيطان الأوروبي الكبرى.
لكن أزمة الرأسمالية المزمنة أنها لا تقوم على الانضباط الاستهلاكي بل على تعظيم الاستهلاك وإتاحة الاقتراض للأفراد والشركات والحكومات بشكل مفرط، فأصبح الاستهلاك يفوق الدخل، وغدا المستهلك يقترض لينفق ما لم يكسبه بعد، مما قلص المدخرات وأغرق الجميع في ديون تجاوزت الناتج المحلي الإجمالي.
انهيار البروتستانتية
يعزى انحدار الغرب إلى "تبخر" قيم البروتستانتية، مما يبرز أهمية "قيم العمل والانضباط الاجتماعي" التي كانت متأصلة في هذا المذهب المسيحي، وتعتبر عنصراً أساسياً في صعود "العالم الإنجلو - أميركي".
الانهيار التدريجي الداخلي للثقافة البيضاء الإنجلو - ساكسونية البروتستانتية، أدى منذ ستينيات القرن الماضي إلى "إمبراطورية محرومة من مركز ومشروع ومعنى، أي انتهت إلى كائن عسكري أساساً تديره مجموعة بلا ثقافة"، بالمعنى الأنثروبولوجي! هكذا يعرّف تود ظاهرة المحافظين الجدد في أميركا.
ويعيد تود تفسير ما بعد ماكس فيبر للأخلاق البروتستانتية وعلاقتها بروح الرأسمالية، كما هي في كتاب فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، الصادر عام 1904: "إذا كانت البروتستانتية هي مصفوفة صعود الغرب البروتستانتي، فموت البروتستانتية اليوم هو سبب التفكك والهزيمة".
ويقول تود إنه عند النظر إلى حاشية جو بايدن، نرى مجموعة من المسؤولين الذين لم يعودوا مرتبطين بأي نظام عَقَدي جماعي مشترك "بروتستانتي" الأصل. ويرصد في هذا الصدد، وجود تمثيل زائد ومفتعل للسود واليهود داخل حكومة بايدن، وهو نفسه كاثوليكي إيرلندي الأصل.
ويخلص إلى "أن الوعي الذي ينطوي على الإفلاس الديني أدّى إلى "عدمية أميركية" تجد تعبيرها في الحروب والعنف"، فأميركا "تقع في العدمية وتأليه العدم". وتُفسر العدمية بـ"الرغبة في التدمير، لكن أيضاً الرغبة في إنكار الواقع. لم يعد هناك أثر للدين، رغم أن الإنسان لا يزال موجوداً".
هذه العقلية هي المحفز للتصعيد الأميركي للحروب الخارجية، وربما كان الصراع الراهن في غزة أحدث مثال على ذلك. لم يكن لانهيار البروتستانتية إلا أن يدمر أخلاقيات العمل لصالح الجشع الجماعي أي: النيوليبرالية (الجديدة).
من الزومبي إلى الصفر
يبدو أن الغرب تجاوز "المرحلة النشطة" ومحاولات الإحياء "مرحلة الزومبي"، ويقترب الآن من "المرحلة صفر"، التي يفقد فيها المعتقد الديني كل نفوذه داخل العالم الغربي. ويشير إلى إقرار القوانين المتعلقة بزواج المثليين باعتباره "المؤشر النهائي" للانتقال من "مرحلة الزومبي" إلى "المرحلة صفر".
ضمن هذه النظرية، تتضمن "مرحلة الزومبي" قدراً كبيراً من صعود الولايات المتحدة إلى الصدارة خلال النصف الأول من القرن العشرين - أو ما يسميه تود "أميركا العظمى، من [الرئيس فرانكلين] روزفلت إلى [الرئيس دوايت] أيزنهاور". وكانت هذه "أميركا التي احتفظت بكل قيم البروتستانتية الإيجابية، وفعاليتها التعليمية، وعلاقتها بالعمل، وقدرتها على دمج الفرد في المجتمع".
في نهاية المطاف، يبدو من المفارقة التاريخية أن "تختفي المصفوفة البروتستانتية في ذروة القوة الأميركية"، لأسباب ليس أقلها افتقاد عقلانية وانضباط وأخلاقية مصفوفة الغرب الدينية وطاقته الصراعية بمواجهة العالم!