"الرجل الذي لم يوقع".. كتاب يوثق تجربة الرئيس حافظ الأسد في المفاوضات
كتاب "الرجل الذي لم يوقع" هو عمل توثيقي من إنتاج قناة الميادين، يتناول فيه مراحل الضراع العربي – الإسرائيلي ودور الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد.
على الرغم من مضي حوالى ثلاث سنوات على صدور كتاب "الرجل الذي لم يوقع" الذي نشرته دار "بيسان" بالتعاون مع قناة الميادين، إلا أن الكتاب غني بالأسرار التي كشفتها لأول مرة مستشارة الرئيس الراحل حافظ الأسد، الدكتورة بثينة شعبان، حول تجربة الرئيس السوري مع المقاومتين اللبنانية والفلسطينية وفي المفاوضات مع "إسرائيل".
يمكن أن نعتبر ما قالته شعبان في هذا العمل جزءاً من مذكرات الرئيس حافظ الأسد السياسية إلى جانب كتابها "عشرة أعوام مع حافظ الأسد".
يشكل كتاب "الرجل الذي لم يوقع" فرصة كبرى لدراسي العلوم السياسية وبالأخص منهم الدبلوماسيون. ويصح القول إن هذا الكتاب يعتبر مقدمة لمعرفة علم "دبلوماسية المقاومة" التي تستند على التاريخ. ألم يقل فيلسوف الجغرافيا السياسية جمال حمدان: "لا وعي سياسي بدون وعي تاريخي".
إقرأ أيضاً: جمال حمدان مفكّر ثورة يوليو وصاحب "شخصية مصر"
يتميز الكتاب بأمرين: الأول هو سعة الثقافة والاطلاع التي يتمتع بها معدو هذا العمل التوثيقي (هو بالأساس سلسلة وثائقية أنتجتها قناة الميادين): الدكتورة ندى النجفي (منتج منفذ)، رشيد كنج (مدير الإنتاج)، زاهر العريضي (معد ومنتج)، هالة بوصعب (إخراج) وأمير بن جدو (مساعد مخرج). وسيتضح من قراءة الكتاب كم كانوا حريصين على الاستعانة بـ"ترسانة" كبيرة من أهم الكتب الأميركية التي تحدثت عن المفاوضات مع الرئيس الأسد. وقد سبق لرئيس مجلس إدارة شبكة الميادين الإعلامية الأستاذ غسان بن جدو أن أعلن أن مراحل إنتاج هذه السلسلة الوثائقية، استغرقت عاماً كاملاً عبر فريق عمل ضم 4 زملاء صحافيين.
والأمر الثاني: الذاكرة التاريخية التي تتمتع بها الدكتورة بثينة شعبان، التي حاورتها الإعلامية سعاد القاروط العشي، فقد أبدعت بأجوبتها الذكية التي تحفظ عن ظهر قلب رؤية الرئيس حافظ الأسد الحكيمة حول شرعية المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، والتي قدمتها للقارئ بطريقة سردية عجيبة لتفاصيل لقاءات الرئيس الأسد مع المسؤولين الأميركيين فتجبرك على القول إنك تقرأ كتاباً يحوي مجموعة كبرى من "طرائف الحكم السياسية" التي جعلت المسؤولين الأميركيين يحرجون أمام حجج الرئيس الأسد القوية.
فعندما قال له المبعوث الأميركي حينها دنيس روس في لقائه معه في قصر الروضة بدمشق إنه يمكن لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين أن يحقق بموته السلام أكثر مما حققه في حياته، فأجابه الرئيس الأسد وعلى جدار مكتبه صورة لمعركة حطين: "نحن أيضاً لدينا شخص حقق في استشهاده أكثر مما حققه في حياته وهو وزير الدفاع السوري الشهيد يوسف العظمة الذي خرج إلى أبواب دمشق وذهب إلى معركة ميسلون عام 1920 وقاتل الفرنسيين، مدركاً أنه لن يستطيع أن يدحر الجيش الفرنسي، ولكنه قال: لن أسمح لهم أن يمروا من دون مقاومة، مع أنه كان يعلم أنها معركة خاسرة بسبب الإختلال في توازن القوى. ولكنه كان يدافع عن أرضه وبلده وما زال أسمه خالداً في التاريخ.. وبقي رمزاً وملهماً للشعب السوري حول أهمية المقاومة".
تذكر شعبان في كتاب "الرجل الذي لم يوقع" واقعة تؤكد حرص الرئيس الأسد على مشاعر شعبه تجاه العدو الإسرائيلي. فتقول بعد اغتيال رابين عام 1995 حاولوا إقناع الرئيس الأسد بإرسال برقية تعزية إلى زوجة رابين، فهم لم يتركوا مناسبة سياسية إلا وحاولوا استغلالها، وعرضها على الرئيس الأسد مثل أن "رابين كان شريكاً في السلام وأن زوجته منكوبة بفقدان زوجها... وسيكون رائعاً لو أرسلت إلى زوجته برقية تعزية، وهذا أمر إنساني لا علاقة له بالسياسة"، لكن الرئيس الأسد رفض رفضاً قاطعاً وأجابهم: "لا أستطيع أبداً أمام شعبي أن أقوم بأي خطوة أعلم أنه لم يرضَ عنها.. وكما أنتم حريصون على الشعب الإسرائيلي، أنا حريص على الشعب السوري ولا أستطيع أن أقوم بمثل هذه الخطوة".
تؤكد شعبان أن الرئيس الأسد كان مولعاً بالتاريخ. فلا يخلو أي لقاء من لقاءاته السياسية من تجربة التاريخ.. كان يتحدث وكأنه خارج التاريخ وكأنه يتحدث عن ما بعد وفاته، لأنه يعرف أن كل موقف سوف يقرأه الناس وسوف يطلع عليه المؤرخون. كان يحسب حساباً كبيراً لهذا الأمر. وهو أنه لا يريد ينتقص من حقوق شعبه حتى ولو بعد وفاته وأن يُقال عنه أنه انتقص من حقوق شعبه.
الرئيس اللبناني الأسبق اميل لحود: لولا الرئيس الأسد لكانت المقاومة في خبر كان
ولأن المناسبة أجواء ذكرى عيد التحرير في 25 أيار/ مايو 2000، فيفترض علينا أن نورد ما رواه الرئيس اللبناني السابق إميل لحود في بداية الكتاب عن الدور الذي لعبه الرئيس الراحل الأسد في دعمه له، لأجل منع ضرب المقاومة اللبنانية، التي يعتقد الرئيس لحود أنه لولا الرئيس الأسد لكانت المقاومة في خبر كان.
يروي لحود في كتاب "الرجل الذي لم يوقع"، قصة قرار مجلس الأمن الدولي عام 1993 الذي يلزم الحكومة اللبنانية بضرورة إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب والقيام بعملية عسكرية بالإشتراك مع قوات "اليونيفل" الموجودة في جنوب لبنان، بهدف "القضاء على المقاومة اللبنانية وشطبها من الوجود".
ويسرد لحود: رضحت حكومة الرئيس رفيق الحريري لقرار مجلس الأمن الذي تم ترتيبه بين واشنطن وتل أبيب. وعلى الفور اجتمع المجلس الأعلى للدفاع بطلب الحكومة لإصدار أمر مباشر بتنفيذ القرار الأميركي – الإسرائيلي بحجة أن لبنان سيواجه الويل والثبور في حال استمرت المقاومة في الجنوب.
ويتابع أن الحريري ووزير الدفاع اللبناني طلبا منه، كان حينها قائداً للجيش اللبناني، وضع خطة عسكرية سريعة تزامناً مع صدور قرار المجلس الأعلى للدفاع إيذاناً بإنهاء نشاط المقاومة في الجنوب والقضاء على رجالها حرقاً بقاذفات اللهب الناري. ويضيف أن الحريري أبلغه شخصياً امتلاكه الضمانات اللازمة والغطاء الدولي والأميركي، وبأن العملية العسكرية ضد رجال المقاومة تحظى بتأييد وموافقة المعنيين في القيادة السورية.
لماذا رفض الرئيس لحود تنفيذ قرار مجلس الأمن؟
وقد رفض لحود تنفيذ الأمر "إيماناً مني بأن مثل هذا العمل هو مطلب إسرائيلي لا يصب في مصلحة لبنان". وفي اليوم التالي اجتمع المجلس الأعلى لإقرار بند واحد هو قرار البدء بتنفيذ العملية العسكرية في جنوب لبنان. يقول لحود: "في ذلك اليوم لم تجرِ الأمور بحسب المرسوم، فوصلت مكتبي متأخراً عن الموعد اليومي المعتاد، حيث أبدأ عملي في الساعة 5.00 صباحاً، ذلك لأنني اتخذت قراراً ضمنياً بالاستقالة من منصب قائد الجيش متجنباً تنفيذ قرار المجلس الأعلى للدفاع".
ويوضح : فوجئت بوجود قائد القوات الدولية العاملة في جنوب لبنان ورئيس أركانه ومدير المخابرات في الجيش اللبناني مع نائبه منكبين على دراسة الخرائط في مكتبي، يتدارسون في كيفية البدء بعملية تصفية المقاومة اللبنانية تنفيذاً لقرار المجلس الأعلى. وحين تبلغت السبب والهدف من الإجتماع طلبت فض الإجتماع ورفضت إعطاء أوامر للجيش لتنفيذ العملية العسكرية، وأني لن أكون شريكاً في خيانة القسم العسكري... ولن أسمح بتلطيخ سمعة الجيش".
وبعد أن ساد الصمت والوجوم قال قائد القوات الدولية: "نحن ننفذ قراراً دولياً تم اتخاذه في مجلس الأمن". فأجابه لحود بقوله: "يمكنكم تنفيذ العملية العسكرية لكن شرط إيجاد قائد اَخر للجيش غير إميل لحود. وأنا مصر على موقفي، وبعد لحظات اتصل وزير الخارجية طالباً مني الإسراع في تنفيذ العملية العسكرية والقضاء على رجال المقاومة اللبنانية بالصواريخ وكل الأسلحة المتوافرة حتى اَخر واحد منهم، فأجبته: "من تكون حتى تصدر أوامر للجيش؟"، فأجابني: "أنا وزير الخارجية"، فسألته: "أين وزير الدفاع؟ ألا يستطيع مواجهتي؟ عيب عليكم، اعلموا جميعاً أنني هنا أعلن استقالتي من قيادة الجيش".
ولأن الحقيقة تكمن في التفصيل كما يقول الكاتب محمد حسنين هيكل، فلا مجال للإختصار في قضية محاولة تصفية المقاومة اللبنانية ضد "إسرائيل" عام 1993.
يكمل الرئيس لحود قصته المشوقة: لحق بي مساعد مدير المخابرات اللبنانية مسرعاً ليقول لي: "سيادة القائد القرار تم اتخاذه من أعلى المراجع وبرفضك التنفيذ بتخرب بيتك". فأجبته بنبرة عالية: "إذاً أنتم جميعاً متاَمرون على لبنان وأنا تركت الجيش"، وعدت إلى منزلي.
الرئيس الأسد يستقبل لأول مرة الرئيس لحود
ويكشف لحود في كتاب "الرجل الذي لم يوقع" أنه في هذه الأثناء أُبلغ الرئيس حافظ الأسد بقراري الرافض تنفيذ عملية إعدام المقاومة في الجنوب اللبناني فأبدى إعجابه وتقديره ووصفني بـ"القائد فخر الدين". بعدها وجهت القيادة السورية دعوة رسمية للرئيس لحود لزيارة دمشق للإلتقاء بأركان قيادة الجيش السوري ثم مع الرئيس حافظ الأسد، وهو اللقاء الأول مع الرئيس لحود الذي وصفه بأنه تميز بحفاوة كبيرة.
بثينة شعبان: كان المهم بالنسبة للرئيس الأسد هو متى ستعود الأرض لأصحابها الشرعيين
رد الرئيس الأسد على قرار تصفية المقاومة اللبنانية
في هذا اللقاء يقول لحود إن الرئيس الأسد سأله: "مجلس الأمن والرئاسة اللبنانية والحكومة اللبنانية... بالإضافة إلى بعض المنتفعين في لبنان وسوريا أوحوا إليك بضرورة تنفيذ عملية ضرب المقاومة اللبنانية وسحقها، لكنك رفضت تنفيذ العملية العسكرية ضد المقاومة حينها؟" فأجبته: " نعم رفضت بكل تأكيد". فسألني: "لماذا رفضت؟"، فأجبته: "ياسيادة الرئيس علمني والدي جميل لحود أن أحتكم إلى ضميري وألا تأخذني لومة لائم طالما أنا مقتنع بصواب ضميري وأنا لم أرفض تنفيذ العملية العسكرية ضد المقاومة إلا بعدما احتكمت إلى ضميري الوطني. كيف يمكن لي الإقدام على قتل وسحق أبناء بلدي الذين شكلوا مقاومة هدفها تحرير أرض الوطن من الاحتلال الإسرائيلي؟".
يضيف لحود: "حينها نظر إلي الرئيس الأسد وقال: "بوركت وبورك ضميرك. إعلم أن قرارك الشجاع الرافض هو القرار الشجاع والصائب. وأنا ىشخصياً لا علم لي بقرار تصفية المقاومة"، ثم قال: "وكيف يكون ذلك وأنا الداعم الأول المؤمن بالمقاومة اللبنانية وقيادتها ضد العدو الإسرائيلي، خصوصاً أني سعيت إلى تأمينها وتسليح رجالها بكل السبل. إن من أوحى إليك بموافقة سورية على سحق المقاومة، هم ثلة من اللبنانيين والسوريين الساعين للكسب الشخصي أو لكسب ود الأميركي".
وينهي لحود روايته بقوله: في هذا الإجتماع انكشف بعض المسؤولين في كلا البلدين وإصرارهم على تنفيذ الطلب الأميركي بتصفية المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان... ووضع الرئيس الأسد يده شخصياً على ملف العملية العسكرية ومنعها. ولو لم يكن الرئيس حافظ الأسد رئيساً لسوريا لكانت المقاومة في خبر كان.
إلى ماذا تشير بثينة شعبان في كتاب "الرجل الذي لم يوقع"؟
تشير بثينة شعبان في كتاب "الرجل الذي لم يوقع" إلى أن هناك رأيين فيما حدث من مفاوضات، ابتداءً من مؤتمر مدريد للسلام عام 1991. فالرأي الأميركي والإسرائيلي كان يروّج دائماً أن هذه اللقاءات عظيمة. والرأي السوري كان يعتبر أنه لم يحدث حتى الاَن اتفاق على جوهر القضايا. والجوهر هو الأرض وهذا ما قاله الرئيس الأسد مراراً وتكراراً. قال: أنا لا أهتم بكل هذه التفاصيل، المهم بالنسبة إلي هو متى ستعود الأرض السورية والأرض العربية إلى أصحابها الشرعيين؟.
قصة كتاب "الرجل الذي لم يوقع"
كتاب "الرجل الذي لم يوقع" في الأصل هو فيلم وثائقي توثيقي من إنتاج قناة الميادين في 12 جزءاً يتناول فيه مراحل الصراع العربي – الإسرائيلي ودور الرئيس الراحل حافظ الاسد، إلى جانب حوارات مع دبلوماسيين وسياسيين ومؤرخين: السفير الأميركي السابق ريتشارد مورفي، وليم كوانت، مستشار الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، الرئيس السابق لحزب الكتائب اللبنانية كريم يقرادوني، وزير خارجية لبنان الأسبق فارس بويز، المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه، السفير الروسي السابق ألكسندر زوتوف، القيادي في حركة فتح عباس زكي، الأمين العام للجبهة الشعبية – القيادة العامة طلال ناجي، الدبلوماسي والخبير القانوني المصري عبدالله الأشعل، السفير الإيراني الراحل حسين شيخ الإسلام، النائب اللبناني حسن فضل الله، رئيس الحزب العربي الناصري الراحل سيد عبد الغني وعضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ماهر الطاهر.